معاوية بن أبي سفيان (كتاب)/بين القدرة والعظمة
زبدة الصفحات التالية أن رأس الدولة الأموية كان رجلًا قديرًا، ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
والفرق بين القدرة والعظمة يوضحه الاصطلاح، ولا توضحه المعجمات اللغوية هذا التوضيح الذي نعنيه، فقد يقال عن العظيم: إنه قدير، ويقال عن القدير: إنه عظيم، ولا يخطىء القائل من الوجهة اللغوية في هذا الترادف المقبول ما لم يقيده الاصطلاح.
إنما الاصطلاح الذي نعنيه وننظر فيه إلى أحوال الطباع أن القدرة غير العظمة في أشياء.
فربما وصف الرجل بالقدرة؛ لأنه مقتدر على بلوغ مقاصده واحتجان1 منافعه والإضرار بغيره، ولكنه إذا وصف بالعظمة، فإنما يوصف بها لفضل يقاس بالمقاييس الإنسانية العامة، وخير تغلب فيه نية العمل للآخرين على نية العمل للعامل وذويه.
ولعلنا نقترب من توضيح الاصطلاح إذا نقلنا التفرقة من القدرة والعظمة إلى التقدير والتعظيم.
فنحن نقدر الإنسان بمقداره عظيمًا كان أو غير عظيم، بل نقدر الأشياء بمقاديرها ولو لم يكن لها عمل، ولم تكن من وراء العمل نية، ولكننا إذا عظمنا الإنسان فإنما نوجب له التعظيم علينا؛ لأنه يعنينا ويستحق إكبارنا، ويرتفع إلى المكانة التي تلحظها الإنسانية بأسرها، وتعود عليها في منافعها وخيراتها.
فكل عظيم قدير …
ولكن ليس كل قدير بالعظيم …
والعظمة قدرة وزيادة …
أما القدرة فليس من اللازم أن تكون عظمة، فضلًا عن أن تكون عظمة وزيادة، ومعاوية قدير ولا ريب …
أما أنه عظيم فذلك الذي نعرض له في الصفحات التالية؛ لنبين فيها الفارق بين القدرة والعظمة، في ترجمة رجل من أنفع الرجال النابهين لتوضيح هذا الفارق بميزان الحوادث وميزان الأخلاق.
ومن سرف القول أن يقال إن معاوية لم يكن يعمل بباعث من الغيرة الدينية، أو بباعث من أحكام المروءة والعرف المتبع في الأخلاق.
فليس في وسعه أن يتجرد من هذه البواعث لو أراد، وليس في وسع رجل أسلم على يد النبي — عليه السلام — وصاحبه، وعمل على أيدي الجلة من صحابته أن يغفل عن غيرة دينه، وأحكام فرائضه، وواجبات المروءة في عرف زمنه …
إلا أننا ـ مع العلم بغيرته الدينية في شعوره وفعاله ـ نستطيع أن نعلل جميع أعماله بعلة المصلحة «الذاتية» أو مصحلة الأسرة والعشيرة.
ونستطيع أن نعمم القول بغير استثناء على كل مسعى من مساعيه، وكل حيلة من حيله وكل مأثرة من مآثره، فنقول: إن المصلحة الذاتية أو مصلحة الأسرة والعشيرة كافية لتعليلها والقيام بها، وإنه لم يعارض المصلحة الذاتية بإرادته في حين واحد، وعارض المصلحة العامة في أحيان، كان رجلًا قديرًا ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
ومهمة المؤرخ في سيرته أن يقدر قدرته، وأن يعرف ما اقتدر عليه بسعيه وتدبيره، وما اقتدر عليه بمساعدة الزمن وممالأة الحوادث والمصادفات ...
وهذه المهمة تتقاضانا «أولًا» أن نجمل القول في جميع التمهيدات التي مكنته من الاقتدار على مقاصده، ومنها ما كان سابقًا للإسلام وسابقًا لمولده، ومنها ما تم قبل ملكه، وما تم في أثناء ملكه إلى بعد موته ...
وتتقاضانا هذه المهمة «ثانيًا» أن نزن المواهب العقلية والخلقية، التي اشتهر بها وأسند إليها ما أسند من أسباب نجاحه.
فتبدأ الكلام في الفصول التالية بالتمهيدات التاريخية من قبل الإسلام إلى قيام الدولة الأموية، ثم نتلوها بتحليل الأخلاق والمواهب التي تعد من وسائل نجاحه...
ونلاحظ في ذلك كله أن «نقدر القدرة» التي ثبتت لهذا الرجل القدير من وراء المدائح والأهاجي، ووراء الدعاية له والدعاية عليه.
ونحسب أننا وفينا بهذه الأمانة إذا انتهينا من هذه الصفحات إلى الوزن الصحيح، الذي يوزن به رأس الدولة الأموية، ويوزن به غيره من أعلام التاريخ.
- ↑ احتجان: احتجن الشيء جذبه بالمحجن وهو العصا المنعطفة الرأس، واحتجن المال: احتواه وضمه إلى نفسه.