معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/في الإسلام الخلاص/عدم تكافؤ الفرص


عدم تكافؤ الفرص

لا يكره الإسلام شيئاً كما يكره اختلال المساواة فى أية مصورة من الصور، وفى أى وضع من الأوضاع، ولا ينفى شيئاً من محيطه، كما ينفى التفاوت بسبب المولد أو الجنس أو اللون أو الثراء.. إنه يقر مبدأ التفاوت فى الطاقة والمقدرة؛ ولكن الجميع يجب أن تتاح لهم فرص متكافئة، فإذا سبق أحد موهبته وحدها، لا بأى اعتبار آخر، فذلك هو السبق الوحيد الذي يقره الإسلام.

ليس أحد بمولده خيراً من أحد؛ والولادة فى أى بيت علا أو هبط، لا تمنح الفرد مزية زائدة، ولا تسلبه مزية قائمة. وما عادى الإسلام شيئاً كما عادى فكرة الطبقات.

ويخلط بعض الناس فى فهم الإسلام، فيفهمون آية: ﴿ورفعنا بعضهم فوق بعض درجت بأنها إقرار النظام الطبقات فى الإسلام. وفى مجتمع مريض كمجتمعنا وحده يمكن أن يفهم هذا المعنى!.. إن الارتفاع هنا فردى لا طبقى، فردى قائم على الموهبة الشخصية، لا طبقى قائم على المولد فى طبقة. فالموهبة الفردية تهيئ. لصاحبها مكانه باستحقاق أما الولادة فى بيت فلا ترتب لصاحبها مقاماً واحداً لا يستحقه باستعداده وعمله فى الحياة. وهذا هو الفارق الأصيل بين النظام الطبقى ونظام الإسلام. وهو فارق حاسم لا مجال لتجاهله أو الشك فيه. وهو يهدم النظام الطبقى من أساسه، ويقرر التفاوت بين الأفراد بتفاوت المواهب والاستعدادات.

من حق كل وليد فى الأمة أن يولد صحيحاً خالياً من الأمراض الوراثية كالآخرين. فضمانات الحياة التى تتهيأ لأى أبوين فى المجتمع، يجب أن تتهيأ لكل أبوين آخرين. لا لحسابهما وحدهما، ولكن الحساب الوليد الذى سينسلانه، لأن فرصة الصحة يجب أن توفر له قبل أن يجىء. وإلا فليس هنالك تكافؤ حقيقى فى الفرص بين وليد مصاب بالصرع الوراثى ووليد سليم. وتكافؤ الفرص لا يبدأ بعد الميلاد؛ فالميلاد موعد متأخر جداً لتحقيق هذا التكافؤ. وعلى الدولة أن تضمن لكل وليد هذه الفرصة، بمنحه أبوين صحيحين على قدر المستطاع!

ومن حق كل وليد أن يجد من الكفاية الغذائية، والرعاية التربوية، ما يجده كل وليد آخر فى الدولة. فإذا حدث أن كان دخل أبويه أو ظروفهما المعيشية لا تمكنهما من توفير هذه الفرصة له، فإن على الدولة أن توفر لها هذه الظروف.. لا لحسابهما وحدهما كعضوين فى هذا المجتمع، بل لحساب هذا الوليد، الذي يصبح تكافؤ الفرص بالقياس إليه خرافة، إذا نشأ ناقص التغذية أو مهملا في البيئة، بينما هنالك وِلدان آخرون محظوظون تتاح لهم هذه الفرصة دونه فى الحياة.

ومن حق كل طفل بعد ذلك أن يجد العلم وأن يجد الصحة، وأن يجد الفرصة العمل، بحسب طاقته وموهبته، وهنا يكون للتفاوت الطبيعى حقه، لأنه ينشأ عن التفاوت فى داخل الشخصيات، لا فى ظاهر المجتمع والملابسات.

وفى تاريخ الإسلام من النماذج ما لا حصر له على سمو المواهب الفردية بأصحابها إلى أعلى المستويات الاجتماعية، لا يضيرهم مواد فى بيت فقير، ولا فى بيئة متواضعة، ولا فى حرية صغيرة ذلك أنه: «لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى».

والإسلام لا يقر تلك الامتيازات الكاذبة التي تمنح للأطفال بمجرد مولدهم، لمجرد ولادتهم فى بيت أو أسرة، أو تمنح للأبناء لمجرد خواطر الآباء!.. هذا الذى يتاح له الالتحاق بالكلية الحربية قبل زميله لمجرد أنه من أسرة أرستقراطية أو عسكرية! وذلك الذى يتاح له العمل فى وظائف النيابة أو السلك السياسي لمجرد أنه من أسرة أرستقراطية أو قضائية! وذاك الذى يرسل فى بعثة علمية إلى الخارج لا لأنه الأول أو الأليق، ولكن لأنه من بيت أرستقراطى!.. كل أولئك أمور لا يعرفها الإسلام، لأنها تصدم مبدأ أساسيًا من مبادئه التي جاء ليقررها فى الحياة.

وعندما ننظر إلى الأوضاع الاجتماعية القائمة من هذه الزاوية الإسلامية، نطلع على شفاعات بشعة، ونبصر بمخالفات صريحة، بل نجد الأساس الاجتماعى كله مقلوباً.. إن الإسلام ليصرخ فى وجه الاستثناءات والمحسوبيات، التي أصبحت قوام الدولة وقوام المجتمع. ولو كان الأمر للإسلام ما ترك هذا البناء كله يقوم على الظلم والتفريق والفساد كما قام!