مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/13
خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.
الفصل الثالث عشر. حاجي بابا يغادر مشهد ويشفى من رض ظهره ويروي قصة
عدلعندما قطعت بوابة مشهد وأصبحت خارجها هززت قبة معطفي قائلاً في قلبي: «أصابك الله بكل ألوان المصائب!» كيلا يسمعني أحد من الحجاج العائدين إلى ديارهم بعد زيارة مشهد، وفعل الدرويش صفر مثلي بعد أن التفت يميناً ويساراً، ثم شفينا غليلنا بشتم هذا المكان: أنا بسبب الضربات التي أشبعوني بها وهو بسبب مضايقة الملالي له. قال لي الدرويش صفر:
«أنت – يا صديقي – شاب، والخبرة والحكمة لا تكتسبان إلا بالألم والمعاناة. لا تتذمر من أول فلقة لأنها ستحميك من الوقوع في مثل هذه المآزق مرة أخرى، وأنت الآن ستعرف المحتسب ولو تنكر بجلد شيطان. أما أنا، في عمري، مضطر لسوء حظي إلى الهجرة – لماذا؟ بسبب معجزة تافهة صنعت من أمثالها المئات!»
فقلت له: «كان بإمكانك أن تبقى في مشهد لو شئت: لو كنت تصلي الفرض والنفل لاستطعت أن تتحدى الملالي.»
فأجابني: «هذا صحيح، ولكن الآن يقترب رمضان، ولو بقيت لراقبوني عن كثب طوال الوقت؛ وبما أنني لن أصوم (فالدخان ضرورة لي كالهواء والخمر كالخبز)، رأيت أن أرحل لينطبق علي حكم المسافر. ربما كنت أستطيع خداعهم كما فعلت مراراً، وأن أدخن وأشرب سراً؛ ولكن شخصاً مثلي يرتزق من إظهاره للتقوى سيخضع لمراقبة دقيقة، ولا يجوز أن يجازف.»
وصلنا إلى سمنان دون أن يطرأ شيء جدير بالذكر، إلا أن قبل وصولنا إليها بيومين كنت أساعد علي قاطر على تحميل أحد بغاله فرضضت ظهري في المكان نفسه. كان الألم لا يطاق فحال دون استمراري في السفر مع القافلة، فقررت أن أمكث حتى أبرأ منه، لا سيما أننا تجاوزنا المناطق التي يجتاحها التركمان فلم أعد معتمداً على مرافقة القافلة. تابع الدرويش صفر مسيره وهو يتوق إلى تذوق خمور العاصمة ومباهجها.
أويت إلى مقبرة في طرف البلدة وفرشت جلد العنزة في زاوية أحد قبورها الفخمة وأعلنت عن وصولي حسب عادة الدراويش المسافرين بالنفخ في بوقي وصيحات «هو الحق! الله أكبر!» بصوت جهوري مسموع. اتخذت مظهراً موحشاً غريباً واستعددت لتطبيق ما تعلمته من فنون الاحتيال.
زارني عدد من النساء طلباً للحُجُب، ومقابلها كنّ يجلبن لي الفاكهة واللبن والدبس وما إليه. اشتدّ عليّ ألمي فسألت إن كان في سمنان أحد يعرف المداواة. لم يكن في البلدة ممن يعرفون فن الطب إلا الحلاق والبيطار، الأول يختص في الفصادة وقلع الأضراس ورد الكسور، والثاني كثيراً ما يستشار في أمراض البشر نظراً لمعرفته بأمراض الخيل. كان عداهما عجوز شمطاء تشبه جنّيّة يعتبرونها المرجع في كل الحالات التي عجز عنها الحلاق والبيطار، تعرف الكثير من الوصفات لكل الآلام والأمراض. زارني هؤلاء بالتتالي واتفقوا أن مرضي يعود للبرد، وعكس البرد النار، لذا ينبغي تطبيق الكي حالاً على المنطقة المصابة، وكلّفوا البيطار بتنفيذه لأنه كان يتعامل مع الحديد البارد والحامي، فأحضر منقل فحم ومنفاخاً وأشياشاً، وأضرم النار ثم سخن الأشياش، وعندما احمرّت وضعوني منبطحاً على بطني ثم كووا على ظهري ثلاث عشرة علامة باسم علي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام، ومع كل لمسة حديد كانوا يصيحون «الله الشافي». تحملت نصف العملية بصبر وجلد ثم بدأت أصرخ من الألم، لكنهم لم يتركوني حتى أكملوا كل شيء. أخذ شفاء الحروق وقتاً طويلاً، وما كانت شفيت لولا أنني بقيت في مأواي في راحة تامة؛ وفي نهاية هذه الفترة ذهب الألم تماماً وعادت القوة إلى بدني. وبطبيعة الحال، عزا الجميع شفائي لتدخل علي والأئمة الذين أشرفوا على العملية واقتنعت البلدة كلها بنجاعة الكي؛ أما أنا فاعتقدت أن الراحة الطويلة كانت خير طبيب، إلا أنني احتفظت برأيي لنفسي، فلم أكن أمانع من أن يعتقد الجميع أنني بحماية كل هؤلاء الأولياء الأفاضل.
قررت حينها أن أتابع سفري إلى طهران، ولكن قبل ذلك أردت أن أجرّب نفسي بدور درويش وأختبر موهبتي في رواية القصص أمام أهل سمنان؛ فذهبت إلى ساحة صغيرة عند مدخل السوق التي تجد فيها الناس يتسكعون عند الظهيرة، وأطلقت الصيحات المعتادة في هذه المناسبات فتجمع حولي حشد جلسوا على الأرض حول البقعة التي اتخذتها مسرحاً لي. تذكرت قصة قصيرة حول حلاّق بغداد سمعتها عندما كنت أعمل في الحلاقة؛ وفي وسط حلقة من العاطلين والأعين المحدقة بي والأفواه المفتوحة بدأت قصتي الأولى قائلاً:
«في عهد الخليفة هارون الرشيد كان في بغداد حلاق مشهور اسمه علي الصقال، اكتسب شهرته من دقة يده وبراعته في حرفته، إذ كان يستطيع أن يحلق الرأس ويشذب اللحية وهو معصوب العينين دون أن يسبب أدنى جرح أو خدش. ولم يكن في بغداد كلها رجلٌ يهتم بمظهره إلا وحلق عنده. ومع الزمن تكبر الحلاق وتغطرس فصار يأبى أن يحلق إلا من لقبه بيك أو آغا. وكان الحطب في بغداد نادراً وغالياً؛ وبما أنه كان يستهلك الكثير منه كان الحطابون يجلبون أحمالهم إلى محله قبل غيره لأنهم كانوا متأكدين أنه سيشتري منهم في أغلب الأحوال. وحصل يوماً أن أتى حطاب جديد لا يعرف أخلاق علي الصقال إلى محله وعرض عليه حملاً من الحطب أحضره من بعيد على ظهر حماره، فأعطاه علي الصقال سعراً قائلاً: «هذا مقابل كل الخشب على ظهر حمارك.» فوافق الحطاب وأنزل الحطب وطالبه بالثمن، إلا أن الحلاق قال: «لم تعطني كل الخشب بعد، يجب أن تعطيني السرج أيضاً، فهذا كان اتفاقنا.» فصاح الحطاب في دهشة عظيمة: «كيف ذلك؟ أيعقل هذا؟» وبعد جدال طويل استولى الحلاق على السرج والحطب فانصرف الفلاح المسكين مغموماً حزيناً، وذهب إلى القاضي، ولكن القاضي كان من زبائن علي الصقال فرفض أن يسمع شكوى الحطاب؛ فذهب إلى قاضٍ أعلى، إلا أن ذلك القاضي كان من أصدقاء علي الصقال فلم يكترث هو الآخر بالأمر؛ فقصد الحطاب المفتي، لكن المفتي، بعد أن فكر في الأمر ملياً، قال أنه لا يستطيع أن يفتي في القضية، إذ لم يرد شيء عنها في القرآن والسنّة، ونصح الحطاب أن يسلّم بخسارته. ولكن الحطاب لم ييأس، فطلب من كاتب أن يكتب له تظلماً لأمير المؤمنين وقدّمه بيده للخليفة قبل صلاة الجمعة.
كان أمير المؤمنين معروفاً بعدله وبأنه يقرأ التظلمات جميعها بنفسه، وبعد حين طلب الحطابَ إلى حضرته. وحين دخل الحطاب على أمير المؤمنين ركع وقبّل الأرض ثم جلس وقد غطى يديه وضمّ قدميه ينتظر الحكم. قال هارون الرشيد له: «يا صديقي، الكلام لصالح الحلاق والعدل لصالحك؛ القانون يصاغ بالكلام والاتفاق يكون بالكلام. القانون يجب أن يأخذ مجراه، وإلا فقد قيمته؛ والاتفاقات يجب الالتزام بها، وإلا فلن يعود هناك ثقة بين الرجال. إذن، وجب أن يحتفظ الحلاق بالخشب، ولكن...» وهنا اومأ أمير المؤمنين للحطاب أن يدنو منه وهمس في أذنه شيئاً لم يسمعه أحد غيره ثم صرفه وهو راضٍ.
في هذا المكان قطعت قصتي ومددت كأساً صغيراً من الصفيح كنت أحمله في يدي قائلاً: «أيها الحضور الكرام، لو تكرمتم عليّ بشيء أخبرتكم بما همس الخليفة في أذن الحطاب.» أثرت بذلك فضولاً عظيماً عند المستمعين فما بقي أحد إلا وأعطاني فلساً أو قرشاً. فتابعت القصة:
إذن، فقد همس الخليفة للحطاب كلاماً جعله يخرج وهو مسرور، وهذا ما سوف أقصه عليكم. بعد أن أبدى الحطاب للخليفة مظاهر الطاعة، عاد إلى حماره الذي كان مربوطاً على مقربة من القصر وعاد إلى بلده. وبعد أيام قدم إلى الحلاق وكأنّ شيئاً لم يحدث بينهما فقال أنه يودّ، وهو ورفيق له من بلده، الاستمتاع بمهارة يده، فاتفقا على الأجرة مقابل حلاقة كليهما. وبعد أن حلق الحلاق رأس الحطاب سأله أين رفيقه فأجابه الحلاق: «إنه ينتظر خارج المحل. سأحضره في الحال.» فخرج وعاد مع حماره قائلاً: «هذا هو رفيقي، وعليك أن تحلقه.» فصاح الحلاق: «أحلقه! ألا يكفي أنني نجّست يدي برأس واحد مثلك، فتطالبني أن أحلق حمارك! أخرج حالاً وإلا أرسلتكما معاً إلى جهنم!» ثم دفعهما من محله.
توجه الحطاب فوراً إلى الخليفة فأذن له بالدخول فوقف بين يديه وأخبره بما حدث له، فقال أمير المؤمنين لبعض حرسه: «حسناً، أحضروا علي الصقال مع أمواسه أمامي حالاً!» وبعد لحظات مثل الحلاق أمامه، فسأله الخليفة: «لماذا ترفض حلاقة رفيق هذا الرجل؟ ألم تتفقا على حلاقته؟» فأجابه علي وهو يقبّل الأرض: «صحيح يا أمير المؤمنين، هذا كان اتفاقنا؛ ولكن، هل يخطر على بال أحد أن رجلاً يرافق حماراً؟ وهل يخطر على البال أن يعامل الحمار معاملة سائر المؤمنين؟» فقال الخليفة: «كلامك صحيح؛ ولكن هل يخطر على البال أن تطالب بالسرج مع الحطب؟ يوم لك ويوم عليك. عليك بالحمار حالاً، وإلا فلا تلومن إلا نفسك!»
فاضطر الحلاق أن يحضِّر الصابون ويدهن الدابة به من رأسها إلى حوافرها ثم يحلقها أمام القصر بحضرة أمير المؤمنين والبلاط، والمارة يضحكون ويسخرون منه. وبعد أن فرغ الحلاق من الحمار، صرف الخليفة الحطاب المسكين بعد أن أعطاه ألف دينار، وبقي أهل بغداد يتناقلون القصة ويمدحون عدل أمير المؤمنين.