مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/25

خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.

الفصل الخامس والعشرون. العاشقان يلتقيان من جديد ويسعدان باللقاء. حاجي بابا يغني عدل

في المساء القادم صعدت إلى السطح وفي قلبي أملٌ أن أرى علامة اللقاء، ولكن يا حسرتي لم أر أي شيء على أغصان الشجرة، فجلست خائباً يائساً. اختفى التبغ وكل المعدات، والصمت يخيم على الدار في الأسفل، وحتى صوت زوجة الطبيب كان غائباً، وبدأت أشعر أنه أجمل صوت في الكون، ولم يكن مسموعاً إلا وقع قبقاب لا يمكن أن تكون صاحبته إلا ليلى العجوز. وسمعت من بعيد أصوات الطبول والأبواق من فرقة البلاط الموسيقية تعلن غروب الشمس؛ كما سمعت أصوات المؤذنين يدعون إلى صلاة المغرب وقرع طبول الشرطة التي كانت تأمر الناس بضرورة إغلاق المتاجر والعودة إلى منازلهم. وبين حين وآخر كانت تصلني صيحات الحرس من أبراج قصر الشاه. نزل الليل، وبقي بيت حريم الحكيم صامتاً.

فتساءلت: «ترى، ما السبب؟ لو ذهبن إلى الحمامات لا يمكن أن يمكثن هناك حتى هذه الساعة؛ ثم أن الحمامات مفتوحة للنساء في ساعات الصباح فقط. إما مرض أحدهم أو هناك زفاف أو وفاة أو ولادة؛ أو ربما حكيم باشي أكل فلقة...» كدت أقتل نفسي بالتخمين حين سمعت دقاً شديداً على الباب، وعندما فُتِح سمعت وقع القباقيب وأصوات النساء يتميز بينها بوضوح صياح الخانم. وانتقلت أضواء عدة مصابيح جيئة وذهاباً فكشفت لي خيالات النساء وهن ينزعن أحجبتهن، وميزت بينها خيال زينب. فقررت المكوث والانتظار أملاً بأن يجود نصيبي علي برؤيتها، ولم يطل انتظاري حتى ظهرت على السطح. انسلت إلي بحذر بالغ لتخبرني أن الظروف لن تسمح لنا باللقاء اليوم لأن الجميع سيفتقدونها حتماً، ولكنها ستحاول أن تغتنم فرصة في أقرب وقت. وقصت علي في بضع كلمات أن سيدتها دعيت لعيادة أختها (وهي جارية في قصر الشاه) التي أصيبت بمرض مفاجئ ما طال عليها حتى ماتت (ويشتبه أن ذلك بفعل سم دسته لها إحدى غريماتها)، وأن الخانم أخذت إلى القصر جميع حريم الحكيم ليشاركن في البكاء والنواح كما هو معهود في مثل هذه المناسبات؛ وأنهن مكثن هنالك منذ الظهر تملأن الجو بالعويل وصرخات الحزن حتى بحت أصواتهن، وأن سيدتها مزقت ملابسها حسب الأعراف، وأخذت كل الاحتياطات نظراً لأنها ارتدت سترتها المفضلة، بحيث أنها لم تمزق إلا درزين أو ثلاثة ليسهل تصليحها. وبما أن الدفن سيجري غداً، من الضروري على النسوة الذهاب إلى المكان في الصباح الباكر لاستكمال العويل والرثاء، وهي تتوقع أن الخانم ستهديها خماراً أسود مقابل ذلك فضلاً عن ضيافة الحلوى. ثم تركتني حبيبة قلبي واعدةً أنها ستبذل كل ما في وسعها من أجل اللقاء في الليلة القادمة ونبهتني ألا أنسى العلامة.

عندما صحوت في الصباح فوجئت حين شاهدت العلامة ورأيت زينب وهي تومئ إلي أن آتي. لم أتردد في النزول فوراً على الدرج الذي كانت تصعد منه عادةً إلى الشرفة، فوجدت نفسي فجأة في قلب الدار. شعرت بالرجفة في بدني عندما فكرت أني في مكان مستحيل أن يدخله رجل بلا عواقب وخيمة عليه؛ ولكني تابعت المسير تشجعني حبيبتي بابتسامتها ومزاجها الطيب، إذ قالت:

«تفضل يا حاجي، ولا تخف من شيء، فلا أحد هنا عدا زينب، وإن حالفنا الحظ قد يكون النهار كله من نصيبنا.»

فصحت: «بحق الله! بأي معجزة قدرت تدبير هذا؟ أين الخانم؟ وأين النسوة؟ وحتى لو ذهبن، فكيف نأمن ألا يأتي رب البيت؟»

فكررت كلامها: «لا تخف، فقد أقفلت جميع الأبواب، وإن جاء أحد سيكون عندك ما يكفي من الوقت لتهرب قبل أن أفتحها. ولكن لا خوف من هذا، فجميع النساء ذهبن إلى الجنازة، أما الميرزا أحمق فقد احتاطت سيدتي لتبعده عن البيت بحيث لا يجرؤ على الاقتراب من داره أقرب من فرسخ، بما أنها تركتني هنا بمفردي. أراك مذهولاً؛ فاعلم أن نجمنا في صعود، والتقينا أول مرة في ساعة سعد، وكل شيء يجري لصالحنا. غريمتي الجورجية لعبت بعقل الخانم أن حضور ليلى في المأتم لا غنى عنه بسبب براعتها في العويل، فقد تعلمت هذا الفن بحذافيره منذ الطفولة، وأن عليها أن تأخذها بدلاً عني لأنني كردية ولا علم لي بتقاليد الفرس وعاداتهم؛ كل هذا طبعاً لتحرمني من الخمار الأسود والضيافة في المأتم. ولذلك تركوني في البيت، وانطلق الجميع إلى بيت المرحومة. تظاهرت بالغضب الشديد وعارضت أن تأخذ ليلى مكاني. والحمد لله، نحن هنا، فلنستفد من وقتنا على أكمل وجه!»

وهنا توجهت إلى المطبخ لتحضر صينية فطور لي وتركتني أفحص ما هو مخفي عن كل عازب، أي تفاصيل بيت الحريم.

أول مكان فحصته هو غرفة الخانم نفسها. كانت تطل على الباحة من خلال شباك واسع من الزجاج الملون، وفي قرنتها أريكة تجلس السيدة عليها عادةً من سجادة لباد ثخينة مطوية ووسادة ضخمة مغطاة بقماش ذهبي مزينة بالشرافات على طرفيها مع غطاء خارجي من الشاش. وأمام هذه الأريكة كان هناك مرآة ذات إطار جميل وصندوق فيه أدوات تثير الفضول: الكحل في مكحال للعينين، وحمرة صينية، وسواران فيهما تعاويذ وإكليل للشعر وسكين ومقص وأشياء أخرى كثيرة. وكان فراشها ملفوفاً في قرنة بعيدة ومغطىً بقماش أبيض وأزرق. وكان على الجدران عدد من الصور غير مؤطرة، وعلى رفوف الخزانة في صدر الغرفة رأيت أواني من زجاج وفخار وصواني نحاس فضلاً عن عدد من زجاجات النبيذ الشيرازي، كانت واحدة منها مسدودة بزهرة، ويظهر أن السيدة شربت منها في هذا الصباح لتقوية نفسيتها خلال مراسم الدفن.

فقلت لنفسي: «إذن، شرع الله ورسوله لا يراعى في هذا البيت. والآن أعرف كيف أنظر إلى رجل يظهر علامات البر والتقوى. طبيبنا يسمي نفسه مسلماً ثابتاً على الإيمان، وأراه يعوض شرب الماء والعصير خارج بيته بمخزون الخمر في بيته.»

وبينما أرضيت فضولي في هذه الغرفة وشاهدت الغرف الأخرى كانت زينب قد حضّرت الفطور وجلبت الصينية إلى غرفة السيدة. جلسنا جنباً إلى جنب وارتكينا إلى الوسادة الموصوفة. وكان ذاك الفطور أطيب ما ذقته في حياتي: صحن رز أبيض كالثلج وصينية قطع صغيرة من اللحم المشوي ملفوف في رغيف خبر ضخم، وبطيخة إصفهانية مقطعة قطعاً طويلة، وأجاص ومشمش وعجة مسخنة من الوجبة السابقة، والجبن والبصل والبراصية وزبدية لبن خاثر ولونان من المثلجات، فضلاً عن بعض الحلويات الشهية وزبدية عسل الموسم.

هتفتُ وأنا أتأمل كل هذه المآكل الشهية وأشد سوالفي من الدهشة: «بحياة أمك! كيف حضرت كل هذه الوجبة بهذه السرعة؟ إنه فطور الملوك!»

فأجابت: «لا تقلق بل تفضل وكل ما تشتهي. أمرت سيدتي أن يجهزوا لها فطوراً خلال الليل، ولكنها قررت في الصباح أن تأكل في بيت المرحومة فلم يبق علي إلا القليل كما ترى. كل هنيئاً وافرح.»

فجلسنا وأكلنا ولم نترك من المآكل إلا القليل لمن قد يأتي بعدنا. وبعد أن غسلنا أيدينا وضعنا النبيذ أمامنا وتناول كل واحد منا كوباً وهنأنا نفسنا بأننا أسعد مخلوقين في الدنيا كلها.

ملأ السرور قلبي فأخذت طنبوراً كان في الغرفة فنسيت كل مخاوف الحاضر وهموم المستقبل فدوزنته ليناسب صوتي وأنشدت قصيدة لحافظ الشيرازي تعلمتها في صباي عندما كنت أسلي زبائني في الحمام:

فداعب شعر محبوبٍ، ولا تكثر من الشكوى
بأن السعد والبلوى من مريخ أو زحل
وقلبي دائم النجوى يريد الوصل والسلوى
فيا عمري إلا رفقاً، ولا تجهز على أملي1
 
حاجي بابا ينشد الأغاني لزينب.

أعجبت زينب لهذه القصيدة إذ لم تسمع في حياتها شيئاً بهذا الجمال، فنسينا أننا تعيسان – هي جارية وأنا من أفقر الناس – فشعرنا وكأن كل ما حولنا لنا، وأن الخمر والحب باقيان إلى الأبد.

وبعد أن أنشدت عدة قصائد أخرى وأفرغنا عدة كؤوس من النبيذ وجدت أن قصائدي نضبت، وكذلك زجاجة النبيذ.

كان الوقت لا يزال مبكراً، ومعنا وقت طويل، فقلت: «يا زينب، لقد وعدتني أن تروي لي قصة حياتك، والوقت الآن مناسب، فلن يقاطعنا أحد، ولقاءاتنا في الليالي غير أكيدة، وخير ما نملأ به الساعة هو قصتك.» فردّت «على عيني ورأسي!»، وبدأت قصتها كما يلي.


هوامش عدل

  1. ترجمة إبراهيم أمين الشواربي. (ملاحظة المترجم)