مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/29

خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.

الفصل التاسع والعشرون. وصف الاستقبال والحدث الذي دمر سعادة حاجي بابا

لم يبق في الصالة خلال عشاء الشاه إلا الخدم والأمراء الثلاثة أولاد الشاه الذين كانوا يرافقونه، وكانوا واقفين في الجانب الأبعد عن مسند الشاه وظهورهم إلى الجدار، يرتدون ملابس رسمية والسيوف على جنبهم. وبقي الميرزا أحمق واقفاً في الخارج. ونُشِر شال كشمير فخم مزركش بالذهب على السجادة أمام الشاه وجاء كبير الخدم يحمل إبريقاً وحوضاً من ذهب ليغسل الشاه يديه. ثم أُحضِر العشاء على أطباق مختومة بختم رئيس التموين قبل أن تخرج من المطبخ تحسباً لدس السم، وتم فض الأختام أمام عيني الشاه. وضم العشاء كل ألوان الطبخ الفاخر: الرز بأشكاله تتصاعد منه سحب كثيفة من البخار العطر، أولاً الرز الأبيض كالثلج، ثم الرز بلحم الضان، ورز بلحم الدجاج، وآخر ملون بالزعفران مع الحمص، وأخيراً ملك الأطباق الفارسية، نارنج بلو، وهو الرز مع قشر النارنج وشتى ألوان التوابل واللوز والسكر، والسلمون والرنكة من بحر قزوين، والترويت من نهر زنكي قرب يريفان. وفي صحون وأقدار من الخزف ألوان اليخني من الطيور البرية مع الرز والأعشاب والبصل، ومرق من عظم الغنم مع لحم، ويقطينات صغيرة محشوة باللحوم المفرومة ومقلية في الزبدة، ودجاج في صلصة الخوخ، وعجة ضخمة بثخن بوصتين، وكوب من المرق مع قطع لحم الغنم واللوز والخوخ والتمر الهندي مصبوب على الرز، وطبق من البيض المقلي في الزبدة مع السكر، وطبق من الباذنجان المقطوع بالطول والمقلي بالسمن، ولحم الغزال وغيرها من أطباق لا تعد ولا تحصى. ثم جاء الشواء. قدموا الخروف حامياً مشوياً على السيخ كاملاً واللية مفروشة على ظهره، كما أحضروا طيور الحجل المشوية، وبهذه المناسبة اقتنوا اثنتين من « کبک دره»، أي حجل الوادي الذي يعتبر في بلاد فارس صيداً نادراً وفاخراً. كما كان هناك طيور التدرج من مازندران، فضلاً عن أطيب القطع من حمار الوحش والظبي. وكان مظهر هذه الطيبات وكثرتها موضوع دهشة الجميع، وأحيط الشاه بها حتى ظهر وكأنه جزءٌ من هذه الكومة. ناهيك عن أطباق لا تحصى من المقبلات والمخللات والأجبان والسمن والزبدة والبصل والكرفص والملح والفلفل والحلويات والحوامض المتناثرة في كل أنحاء الأطباق لا أعددها خوفاً من الإطالة؛ ولكن المثلجات تستحق الذكر لأنها كانت فاخرة حقاً، إذ وضعت في الزبادي من الخزف الرقيق، وكانت تؤكل بملاعق صناعتها ماهرة دقيقة من خشب شجر الأجاص، ومنها مثلجات الليمون المصنوعة بمهارة فائقة من العصير المخلوط بالخل والسكر تتوازن فيه الحلاوة بالحموضة وتختلطان كما تختلطان في الحياة؛ ومثلجات السكر والماء مع ماء الورد لتعطيرها وحبوب حلوة لزيادة نكهتها؛ ومثلجات الرمان، كلها مبردة بكتل من الثلج.

انثنى الشاه لينحني رأسه فوق الأكل وغمس يده في الرز والأطباق الأخرى أمامه وأكل منها، بينما يقف الأمراء والخدم الآخرون أمامه وقفة كلها احترام وبلا أدنى حركة. وعندما فرغ من الأكل قام وتوجه إلى الغرفة المجاورة حيث غسل يديه وشرب قهوته ودخن أركيلته.

وخلال وجبته أمر أن يؤخذ أحد أطباق الرز التي أكل منها إلى مستضيفه الميرزا أحمق، فحمله أحد الخدم إليه. وبما أن هذا يعتبر علامة تشريف خاص، اضطر الميرزا إلى مكافأة الحامل بهدية نقدية. وحظي الشاعر بتكريم مماثل على ارتجاله وقدم هدية هو الآخر. كما أرسل جلالته طبقاً أكل منه أكثر من غيره إلى زوجة الطبيب التي كافأت حامله بسخاء. وبهذا الأسلوب استطاع الشاه أن يرضي الطرفين: أولئك من ميزهم عن الآخرين بشرف تناول الطعام معه وخدمه الذين حملوا الأطباق.

وحالما خرج الشاه من الصالة وترك الأطباق جلس أبناؤه وأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، ونقلت الأطباق إلى غرفة أخرى كان يجلس فيها أمير الأمراء وأمير الشعراء وقيّم الاصطبل وجميع رجال الدولة والبلاط فأكملوا الوليمة التي بدأها الشاه وأبناؤه. وبعد ذلك أخِذ العشاء بالتتابع إلى شتى الخدم حتى أفرغت الأطباق تماماً على يد الخيامين وخدم المطبخ.

وفي هذه الأثناء كان الشاه يزور بيت الحريم برفقة صاحب البيت بشخصه. وبما أن أي واحد يضبط مسترقاً النظر إلى الحريم مصيره الموت المحتوم، انتظرت ببالغ الحذر وبفارغ الصبر لأعرف ما جرى هناك. وما أعظم كان رعبي وذعري ورهبتي عندما سمعت (حالما عاد الشاه إلى الصالة الكبيرة) أن الطبيب قدم له هديةً جاريته الكردية! ملأ هذا الخبر قلبي بالخوف: ففي حين أنه كان يدعو إلى الفرح لأنها ستترك وضعها المزري في هذا البيت، إلا أنني خفت من عواقب قد تؤثر على حياتها، فتجمد دمي عندما تخيلتها. فقد كان حبنا أقوى من رجاحة العقل، وفتح المستقبل أمامي الآن صوراً قاتمة من أفظع ما يقوى عليه الخيال.

ففكرت في قلبي: «لأحاول أن أعرف شيئاً عما وقع، وربما تمنحني الجلبة والفوضى فرصة لأرى زينب.» ومن ثم انطلقت إلى مكان لقائنا المعتاد على الشرفة. سمعت ضوضاء الأحاديث من بيت الحريم، حيث كان عدد كبير من الزائرات ما عدا نساء الطبيب؛ ولكني لم أسمع بينها صوتاً يشبه صوت من كنت أبحث عنها. انتظرت حتى هبط الليل ولم أعد أستطيع أن أعطي أي إشارة. إلا أن إيماني بالحب جعلني متيقناً بأنها ستفكر بالخطة نفسها التي خطرت على بالي كي نلتقي. كان جزء من الشرفة التي التقينا فيها يشرف على الشارع، وكانت النسوة تصعد إليها لترى ما يستحق المشاهدة خارج البيت، وتوقعت أن زينب ستصعد عند مغادرة الشاه التي اقترب موعدها الآن، فوقع حوافر الخيل وصيحات الرجال وحركة المصابيح جيئة وذهاباً، كل هذا كان يدل على قرب انتهاء الاستقبال. ويا فرحتي عندما سمعت حفيف أقدام النساء وأصواتهن على الشرفة. اختبأت وراء الجدار بحيث لا يراني إلا من يعرف تفاصيل المكان، وانتظرت أن تلتفت زينب نحوي، ولم أخطئ: كانت بين النساء على الشرفة وعرفتني. لم أكن أبتغي أكثر من ذلك وتركت لفطنتها مهمة ابتداع سبيل للتحدث إلي.

تعالت صيحة المنادين «انصراف!» تنذر بأن الشاه قد نهض ليرحل، فأخذ رجاله أماكنهم في الموكب. وكانت مراسم عودة الشاه إلى قصره مماثلة لمراسم قدومه باستثناء الفوانيس التي كان يعلن حجم كل واحد منها مرتبة من ينير طريقه. ومع ذهاب الشاه اختفى كل ما كان يضفي على المكان قبل لحظة الحيوية والنشاط.

وعندما لم يبق في الشارع ما يمكن النظر إليه غادرت النساء الشرفة. وكانت أحاديثهن خلال الزيارة تكاد تقتصر على جدالات موضوعها من نظر الشاه إليها أكثر وأعجب بها إعجاباً أكثر، وخلال نزولهن سمعت تعابير الحسد والغيرة على النصيب السعيد – في رأيهن – الذي كان من حظ زينب. فقالت إحداهن: «أعجز عن فهم ما الذي جذب الشاه فيها. فهي خالية من الجمال. هل رأيتن فماً أكبر من فمها؟ ولا ملح في وجهها1!» وقالت أخرى: «ثم أنها مقوسة الظهر.» وأردفت ثالثة: «وخصرها مثل خصر الفيل. هل رأيتم قدميها؟ إن خف الجمل أصغر منها.» وأضافت رابعتهم: «إنها يزيدية، ولا شك أنها حصلت على تعويذة من الشيطان بعينه لتفتن الشاه.» فصاحت النسوة جميعهن: «صحيح، هذا هو الحق! تواطأت مع الشيطان ليطعما الشاه قاذورات!» وبدا أن النسوة قد اتفقن على هذه النقطة فانتهى الحديث.

وبقيت واحدة من النساء على الشرفة وكأنها مشغوفة بما يجري في الشارع؛ وحالما نزل الجميع إلى الدار التفتت وتقدمت نحوي، فتيقنت من أنها زينب.


الهوامش

  1. تعبير فارسي يشير إلى جمال السمراوات.