نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام/الخاتمة


(الــخاتمــــة)

ان الاسماء التي كانت الجاهلية تطلقها على شهورها هي عين التي نستعملها نحن الآن وهي محرم وصفر وربيع الاوّل وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الثانية ورجب وشعبان ورمضان وشوّال وذو القعدة وذو الحجة - وكانوا يعتبرون أربعة منها محرمة ويسمونها الاشهر الحرم لاعتقادهم حرمة القتال فيها من قبل ظهور الدين المحمدي بمدة طويلة وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم فكانوا ينزعون السلاح ويكفون عن الحرب والكفاح وتنحسم الخصومات وتزول العداوات وقد قال الموسيو كوسان دوپرسوال في هذا الصدد ما معتربه « ان ذلك نوع من الهدنة جعلها الله تعالى لحكمة بالغة في أمة دأبها شنّ الغارات وديدنها تحريك الفتن لكونها اعتادت السلب والنهب فانه يترتب على هذه الهدنة منع القبائل عن ابادة بعضها وتحديد أوقات معينة يأمن فيها الانسان على نفسه ونفيسه فتروج سوق التجارة حيث تكون آمنة مطمئة » فعلى ما ذكرنا كان للعرب في كل سنة وقتان تزول فيهما الضغائن وتذهب الاحقاد أحدهما شهر رجب والثاني ذو القعدة وذو الحجة ومحرم الحرام ولكن تحريم القتال في ثلاثة شهور متواليات شق على قوم ألفوا الحروب واتخذوها وسيلة للتعيش فلم يستطيعوا مقاومة أهوائهم الغريزية

فلاجل أن تقضي العرب وطرا من الغزو اذا انفتحت أبوابه ولا يفوتها مغنم متى تهيأت أسبابه سنوا النسيء الذي هو تأخير حرمة شهر محرم الى شهر غير محرم ليوفقوا بين أهوائهم الحربية وفرائضهم الدينية فكانوا من وقت الى آخر يؤخرون تحريم شهر محرم الحرام إلى الشهر الذي يتلوه أي صفر بحيث كانوا يلتزمون مراعاة شهرين محرمين متتابعين بدلا من ثلاثة وانظر ما ذكره المسعودي فى هذا المعنى عند الكلام على مكة المشرفة حيث قال

« وكانت النسأة في بني مالك بن كنانة وكان أوّلهم القلمس حذيفة ابن عبيد ثم ولده قلع بن حذيفة وورد الاسلام وآخرهم أبو ثمامة وذلك أن العرب كانت اذا فرغت من الحج وأرادت الصدر اجتمعت اليه فيقوم ويقول اللهم اني أحللت أحد الصفرين الصفر الأوّل ونسأت الآخر للعام المقبل فظهر الاسلام وقد عادت الشهور الحرم الى بدئها على ما كانت عليه في أصلها وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ألا ان الزمان قد استدار کهيئته يوم خلق الله السموات والارض الى آخر ما ذكر عليه السلام في هذا الحديث وأخبر الله عز وجل عنهم بذلك بقوله « انما النسيء زيادة في الكفر » وقد فخر بذلك عمرو بن قيس الفراسي فقال في كلمة له

ألسنا الناسئين الى معدّ * شهور الحل نجعلها حراما

وقد قيل ان أسماء الشهور التي ذكرناها وضعت في عهد كلاب بن مرة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل الاسلام بقرنين تقريبا وأما أسماؤها القديمة فليست معروفة بكيفية معينة مضبوطة

فان المسعودي أورد في مروج الذهب الاسماء الآتية مبتدئها بالاسم المقابل لمحرم وهى ناتق وثقيل وطليق وناجر وأسلح أو اسلخ او سماح أو سماخ ( على حسب اختلاف الروايات) ثم أمنح ثم أحلك تم كسع ثم زاهر ثم برط أو مرط ثم حرف أو نعيس ثم نعس أو مريس

وأما البيروني الذي يظهر أنه أعرف من المسعودي بهذه المادة وأدرى منه في هذا المعنى فقد قال في كتاب الآثار

« وتوجد للشهور أسام قد كان أوائلهم يدعونها بها وهي هذه المؤتمر وناجر و خوّان وصوّان وحنين ورنى والاصم وعادل وناتق وواغل وهواع وبرك » ثم قال

وقد توجد هذ الاسماء مخالفة لما أوردناه ومختلفة الترتيب كما نظمها أحد الشعراء في شعره

بمؤتمر وناجره بدأنا * وبالخوّان يتبعه الصوان
وبالرنى وبائدة تليــه * يعود أصم صم به السنان
وواغله وناطله جميعا * وعادله فهــم غرر حســان
ورنة بعدها برك فتمت * شهور الحول يعقدها البنان

وقد أورد العلامة المذكور أيضا أسماء أخر للشهور لكنها لا تختلف عن التسمية الا بجعل رنة علما على الشهر الحادي عشر بدلا من هواع١ وزيادة على ذلك فانا لو راجعنا هذه الاسماء في كتب اللغة لعلمنا أن الجاهلية كانوا يسمون المحرم بالمؤتمر وصفر بناجر وربيعا الاوّل بخوان وربيعا الثاني بصوان و جمادى الأولى بحنين أو ربا٢ وجمادى الثانية برنى أو بائدة ورجب بالاصم وشعبان بواغل أو وعل٣ أو عادل٤ ورمضان بناتق أو ناتل وشوّال بوعل أو وغل أو عادل وذا القعدة بهواع أو رنة وذا الحجة ببرك

واذا نأملنا في هذه الأسماء نجد أربعة منها تطابق طبيعة الفصول الاربعة فكلمة ناجر التي جعلها المسعودي علما على الشهر الرابع خلافا للبيروني الذي أطلقها على الثاني تدل على شدة الحرارة وقد استشهد البيروني على ذلك ببيت قديم جدا وهو
صری آسن يزوي له المرء وجهه * وان ذاقه الظمآن في شهر ناجر

وبناء على ذلك فلا مشاحة في أن شهر ناجر سمي كذلك في صميم الحر بحيث يلزم أن شهر المؤتمر وناجر وخوّان كانت عبارة عن فصل الصيف وأما الثلاثة الاخرى (التي قلنا ان أسماها تطابق طبيعة الفصول) فهي (صوّان و ربا وبائدة) وتكون هي شهور فصل الخريف وذلك لان طبيعة هذا الفصل تظهر من التأمل الكلمة ربا المشتقة من (ربب) أي الماء الكثير أو من (الرباب) أي السحاب المتعلق الذي نراه كأنه دون السحاب وقد يكون أبيض وقد يكون أسود

وأما الشهر السابع والثامن والتاسع (أي الاصم وواغل وناتل) فيجب أن تكون شهور الشتاء حيث يستفاد ذلك من كلمة ناتل التي معناها شخص يغترف الماء من نهر أو بئر أو عين ليس فى الأرض أو لغرض اخر

وأما فصل الربيع فيتعين من معنى اسم أوّل الثلاثة الشهور الباقية التي هي (عادل وهوّاع وبرك) فان لفظ عادل تدل على من يقسم بالعدل أو الذي يسوي بين العدلين

وحينئذ نقول انه لوقوع هذا الشهر حين التسمية في زمن الاعتدال الربيعي حيث كان الليل والنهار متساويين صارت تسميته عادلا وكذلك نرى علاقات بين بعض أسماء الشهور الجديدة التي هي محرم وصفر الخ وبين طبيعة الفصول الاربعة فان رمضان مثلا مأخوذ من الرمضاء أي الحر الشديد وربيعا يدل على المطر و النباتات التي تظهر في فصل الربيع وجمادى معناه الجامد الجاف كما أن الجماد معناء الارض الجافة لعدم وقوع الامطار ويقال جمد الماء اذا صار ثلجا وجمادی معناه البرد الشديد

فهل تكون المناسبات الغريبة التي نجدها بين أسماء الشهور العربية قديمة كانت أو حديثة وبين الفصول دليلا على أن هذه الاشهر وضعت لسنة قمرية شمسية، كلا، فان تضافر نصوص العلماء من المؤرخين وغيرهم وعدم ورود أخبار محققة تؤكد ما يخالف هذه النصوص وما هو معلوم من أن مقتضى طبيعة العرب التنقل من مكان الى مكان وجهلهم باكثر شؤن الزراعة وبالجملة فكل عاداتهم وما يتعلق بهم يحملنا على الظن بانهم انما كانوا يستعملون السنة القمرية المحضة

وبناء على ذلك فلا يتفق أن تكون هذه المناسبات حجة على أن شهر ناجر وربا وناتل وعادل هي شهور سنة قمرية شمسية أو زراعية بل غاية ما يستفاد من هذه المناسبات أن العرب أطلقت على الاشهر أسماء تناسب الحوادث الجوّية أو غيرها التي وقعت في سنة التسمية فقط ولم يرسلوا أنظارهم إلى ما وراء ذلك لجهلهم بأنه بعد مضى سبع عشرة سنة تنتقل شهور الصيف في الشتاء و بالعكس ومتى علم ذلك فهل يصح أن يقال أيضا ان شهر ربيع وجمادى ورمضان الخ (التي هي الاسماء الجديدة لشهور السنة) مرتبة هي أيضا لتكوين سنة زراعية، كلا، فقد عرفنا أن الشهور القديمة لا علقة لها الا بالسنة القمرية المحضة فلا وجه اذن لاعتبار الشهور الجديدة شهور سنة قمرية شمسية ومن العجيب أن أشهر مؤرخينا يذهبون الى ما يخالف ذلك وفي هذا المقام يجمل بنا أن نتساءل عن الاساس الذي اعتمد عليه أولئك المؤرخون فبنوا عليه قولهم فنقول أفلا يحتمل أنهم تناقلوا هذا الرأي بعضهم من بعض بدون امعان ولا تروّ - لعمري ان هذه مسئلة من الأهمية بمكان

فجوابي عن ذلك هو الايجاب ولي على ذلك برهان قريب من الاذهان ينجلي لك من مقابلة العبارات التي سردها أولئك المؤرخون بهذا الصدد، وقد سبق الى التنبيه على ذلك الموسيو كوسان دو پرسوال٥ حيث قال ان نقل المقريزي كلام البيروني يكاد أن يكون بالحرف وان البيروني ومحمد الچركسي انما نسخا كتاب الالوف لابي معشر٦ الذي هو أقدم من بحث في هذا الموضوع كما أن كتابه المذكور هو أول كتاب وصل الينا في هذا الباب وأما أبو الفداء فقد نقل من المسعودي

هذا وقد أورد الموسيو سيلڤستر دوساسي أقوال المقريزي ومحمد الچركسي وأبي الفداء في الجزء ٤٨ من مقالات جمعية الآثار والآداب وكذلك الموسيو كوسان دو پرسوال فانه أدرج بعض عبارات البيروني في جزء ابريل سنة ٨٤٣ من جرنال آسيا وأما أقوال البيروني فلم يتكلم عليها أحد فيما أعلم ولهذا أغتنم هذه الفرصة وأسردها في هذا المقام حيث انه هو أقدم من كتب في هذه المادة وبهذه الواسطة يمكننا مقابلة ماذكره باقوالهم التي هي منقولة عنه في الحقيقة ونفس الامر

وليعلم اني لم أنقل هذه العبارة من كتاب الالوف ذاته بل من كتاب منتهى الادراك في تقاسيم الافلاك فقد أسندها صاحبه الى كتاب الالوف لابي معشر (وهذه العبارة مسطورة في الباب الثامن الذي تكلم فيه على تاريخ الهجرة) وها هي بنصها

« وأما العرب في الجاهلية فكانوا يستعملون سني القمر برؤية الاهلة كما يفعله أهل الاسلام وكانوا يحجون في العاشر من ذي الحجة وكان لا يقع هذا الوقت في فصل واحد من فصول السنة بل يختلف فمرة يقع في زمان الصيف ومرة فى زمان الشتاء ومرة في الفصلين الباقين لما يقع بين سني الشمس والقمر من التفاضل فأرادوا أن يكون وقت حجهم موافقا لاوقات تجاراتهم حيث يكون الهواء معتدلا في الحر والبرد، مع توريق الاشجار ونبات الكلا لتسهل عليهم المسافرة الى مكة ويتجروا بها مع قضاء مناسكهم فتعلموا عمل الكبيسة من اليهود وسموه النسيء أي التأخير الا أنهم خالفوا اليهود في بعض أعمالهم لان اليهود كانوا يكبسون تسع عشرة سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى تصير تسع عشرة شمسية والعرب تكبس أربعا وعشرين سنة قمرية باثني عشر شهرا قمرية واختاروا لهذا الامر رجلا من كنانة وكان يدعى بالقلمس وأولاده القائمون بهذا الشأن تدعى القلامسة ويسمون أيضا النسأة (والقلمس هو البحر الغزيز) وآخر من تولى ذلك من أولاده أبو ثمامة جنادة بن عوف ابن أمية بن قلع بن عباد بن قلع بن حذيفة وكان القلمس يقوم خطيبا في الموسم عند انقضاء الحج بعرفات ويبتدئ عند وقوع الحج في ذي الحجة فينسيء المحرّم ولا يعدّه في الشهور الاثني عشر ويجعل أول شهور السنة صفر فيصير المحرم آخر شهر ويقوم مقام ذي الحجة ويحج فيه الناس ويكون الحج في المحرم مرتين ثم يقوم خطيبا في الموسم في السنة الثالثة عند انقضاء الحج وينسيء صفر الذي جعله أول الشهور للسنتين الأوليين ويجعل شهر ربيع الأوّل أول شهور السنة الثالثة والرابعة حتى يقع الحج فيهما في صفر الذي هو آخر شهور هاتين السنتين تم لا يزال هذا دأبه فى كل سنتين حتى يصير أوّل شهور السنة الثالثة والعشرين ذو الحجة ويسميه المحرم وتقع حجة هاتين السنتين في آخر شهورهما وهو ذو القعدة نم يجعل أوّل شهور السنة الخامسة والعشرين المحرم فيقع الحج في ذي الحجة ويعود الدور الى الحال الأولى وكانوا يعدّون كل سنتين خمسة وعشرين شهرا وقد وافق خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة السنة السادسة عشرة من الدور الاخير من الادوار وكان أوّل شهور تلك السنة شعبان وآخرها الذي وقع فيه الحج رجب اذ كانوا يحفظون ذلك فلما كانت السنة الثالثة والعشرون وصار أوّل شهورها ذو الحجة وهي سنة ثمان من الهجرة فتح فيها النبي صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ويقال لسبع عشرة ليلة خلت منه ولم يقم الحج بسبب وقوعه فى ذي القعدة ولما كانت السنة الخامسة والعشرون عاد الدور فيها الى المحرم وصار أوّل شهور السنة وهي سنة عشر من الهجرة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم الى مكة وحج في العاشر من ذي الحجة على صور أسماء الشهور وهي حجة الوداع ثم خطب وأمر الناس بما شاء الله أن يأمر به ثم قال في خطبته الا ان الزمان قد استدار کهيئته يوم خلق الله السموات والارض يعني بذلك أن أسماء الشهور قد عادت الى ما كانت عليه في أوّل الزمان ونهاهم عن استعمال النسيء فى السنين فصارت سنوهم وشهورهم دائرة في الفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء الى زماننا هذا والذي ذكرناه هو على ما حكاه أبو معشر فى كتاب الالوف وذكر أيضا فيه عن بعض الرواة أنهم كانوا يكبسون أربعة وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر قمرية فكانوا ينظرون الى فضل ما بين سنة الشمس وهو عشرة أيام واحدى وعشرون ساعة وخمس ساعة بالتقريب ويلحقون بها شهرا تاما كلما تم منها ما يستوفي أيام شهر ولكنهم كانوا يعملون على أنه عشرة أيام وعشرون ساعة فكانت شهورهم ثابتة مع الازمنة جارية على سنن واحد لا تتاخر عن أوقاتها ولا تتقدم الى أن حج النبي صلى الله عليه وسلم فصارت أسماؤها غير مؤدية لمعانيها اذ كانت أسماؤها مشتقة من الاحوال الجارية فيها ولا يتفق فيها تلك الاحوال اذا تغيرت عن أوقاتها من فصول السنة فأوّل شهورهم المحرم سمي بهذا الاسم لان من شهورهم أربعة حرما واحد فرد وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وكانوا يحرّمون القتال في هذه الشهور ولا يتعرضون لاحد فيها بالقتل والدم وان كان عنده دم ثم صفر سمي به لما كان يعتريهم من مرض يصفر ألوانهم ثم شهر ربيع الأوّل وشهر ربيع الآخر سميا بالربيع لانهما كانا يأتيان في الخريف وكانت العرب تسمي الخريف ربيعا ثم جمادى الاولى وجمادى الثانية سمي بذلك لاتيانهما في أيام الشتاء عند جود الماء ووقع الجليد ثم رجب سمي بذلك لانه يقال فيه ارجبوا أي كفوا عن القتال تم شعبان سمي به لانشعاب القبائل فيه الى طالب المياه والغارات ثم رمضان سمي به لانه كان يأتي حين بدأ السفر ورمضت الارض ثم شوّال لقولهم شولوا أي ارتحلوا وقيل بل سمي به لان الابل كانت تشول فيه باذنابها لشهوة الضراب ولذلك لا تجوّز العرب فيه التزويج ثم ذو القعدة لقعودهم فيه عن القتال ثم ذو الحجة لاقامتهم الحج فيه فكانت شهورهم منقسمة على الفصول الاربعة وأساميها منقسمة على ما اتفق فيها من الاحوال وكانوا يبتدئون فيها بالخريف و يسمونه الربيع ثم الشتاء ثم الربيع ويسمونه صيفا ويسميه بعضهم الربيع الثاني ثم الصيف ويسمونه القيظ فلما حرم النسيء تعطلت قسمة الشهور على الفصول وبقيت أساميها أسماء الاسلام فقط » انتهى

أقول وقبل ان نخوض في بحث هذا الفصل الطويل الذي كتبه أبو معشر ونستنبط منه الفائدة المطلوبة والثمرة المرغوبة أرى من باب الصواب أن نمهد بذكر ما قاله البيروني بهذا الصدد فانه أيضا قديم بعيد العهد مثل أبي معشر حيث ان حاجي خليفة جعل وفاته بعد سنة ۳۳٠ هجرية ويظهر أنه اشتغل بهذه المسئلة كثيرا ودقق البحث فيها وزاد على أفكار أبي معشر وآرائه ما وصل اليه من الاخبار والروايات القديمة التي ربما كانت أساسا للكبيسة وقد تكلم البيروني على هذا الموضوع في موضعين من مؤلفه كتاب الآثار فقال في الاوّل مانصه

« وكذلك كانت العرب تفعل في جاهليتها فينظرون إلى فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس وهو عشرة أيام واحدى وعشرون ساعة وخمس ساعة بالجليل من الحساب فيلحقون بها شهرا كلما تم منها ما يستوفي أيام شهر ولكنهم كانوا يعملون على أنه عشرة أيام وعشرون ساعة وتتولى ذلك النسأة من كنانة المعروفون بالقلامس واحدهم قلمس وهو البحر الغزير وهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن قلع بن حذيفة وكانوا كلهم نسأة وأوّل من فعل ذلك منهم كان حذيفة وهو ابن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن كنانة وآخر من فعله أبو ثمامة قال شاعرهم يصفه

فذا فقيم كان يدعى القلمسا * وكان للدين لهم مؤسسا
* مستمعا في قوله مرأسا *

وقال آخر

مشهر من سابقي كنانه * معظم مشرف مكانه
* مضى على ذلكم زمانه *
غيره
ما بين دور الشمس والهلال * يجمعه جمعا لدى الاجمال
* حتى يتم الشهر بالكمال *

وكان أخذ ذلك من اليهود قبل ظهور الاسلام بقريب من مائتي سنة غير أنهم كانوا يكبسون كل أربع وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر فكانت شهورهم ثابتة مع الازمنة جارية على سنن واحد لا تتأخر عن أوقاتهم ولا تتقدم إلى أن جج النبي عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وأنزل عليه انما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه عاما فخطب عليه الصلاة والسلام وقال ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وتلا عليهم الآية في تحريم النسيء وهو الكبس فأهملوه حينئذ وزالت شهورهم عما كانت عليه وصارت أسماؤها غير مؤدية لمعانيها » اهـ

وقال البيروني في الموضع الثاني

« وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام وكان يدور حجهم في الازمنة الاربعة ثم أرادوا أن يحجو وقت ادراك سلعهم من الادم والجلود و الثمار وغير ذلك وأن يثبت ذلك على حالة واحدة في أطيب الازمنة وأخصبها فتعلموا الكبس من اليهود المجاورين لهم وذلك قبل الهجرة بقريب من مائتي سنة فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من الحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهرا بشهورها اذا تم٧ ويتولى القلامس من بني كنانه ذلك بأن يقوموا بعد انقضاء الحج ويخطبون فى الموسم وينسؤن الشهر ويسمون التالي له باسمه فيتفق العرب على ذلك ويقبلون قوله ويسمون هذا من فعلهم النسيء لانهم كانوا ينسؤن أوّل السنة في كل سنتين أو ثلاث شهرا على حسب ما يستحقه التقدّم قال قائلهم

لنا ناسيء تمشون تحت لوائه * يحل إذا شاء الشهور ويحرم

وكان النسيء الاوّل للمحرم فسمى صفر به و شهر ربيع الاوّل باسم صفر ثم والوا بين أسماء الشهور وكان النسيء الثاني لصفر فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضا وهكذا حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر وعاد الى المحرم فأعادوا بها فعلهم الاوّل وكانوا يعدّون أدوار النسيء ويحدّون بها الازمنة فيقولون قد دارت السنون من زمان كذا الى زمان كذا وكذا دورة فان ظهر لهم مع ذلك تقدّم شهر عن فصل من الفصول الاربعة لما يجتمع من كسور٨ سنة الشمس وبقية فضل٩ ما بينها وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبسا ثانيا وكان يبين لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتى هاجر النبي عليه الصلاة والسلام وكانت نوبة النسيء كما ذكرت بلغت شعبان فسمي محرما وشهر رمضان صفر فانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ حجة الوداع وخطب الناس وقال فيها ألا ان الزمان قد استدار کهيئته يوم خلق الله السموات والارض عنى بذلك أن الشهور قد عادت إلى مواضعها وزال منها فعل العرب بها »

فمن مقابلة كلام المقريزي ومحمد الچركسي اللذين تكلمنا عنهما بما قاله أبو معشر والبيروني وقد نقلناه هنا برمته لا يبقى أدنى شبهة في أن هؤلاء المؤلفين قد تناقلوا هذه يتبع اللاحق منهم السابق ويقلد الحديث منهم القديم بلا تمييز بين غث الكلام وسمينه بحيث يمكن أن يقال أن ما أتى به المتأخر منهم ليس الا صورة أخرى لكلام المتقدّم وكذلك أبو الفداء نقل كلامهم كما يتضح من النظر للعبارة الآتية التي ذكرها المسعودي وهي

« وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرا وتسميه النسيء وهو التأخير و قد ذم الله تعالى النسيء بقوله انما النسيء زيادة في الكفر »

ويتخيل لي أن المسعودي أخذ هذا المعنى من جملة من كلام البيروني الاخير حيث قال

« فان ظهر لهم (أي العرب) مع ذلك (أي مع النسيء) تقدّم شهر عن فصل من الفصول الاربع لما يجتمع من كسور سنة الشمس وبقية فضل ما بينها و بين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبسا ثانيا » فان هذه العبارة لا توافق الا كبس شهر واحد كل ثلاث سنين كبسا منتظما

فقد تحقق أن جميع المؤرخين نقلوا كلامهم فى الكبس وكيفيته من البيروني أو أبي معشر ويتلخص من ذلك أن القائل بوجود السنة القمرية الشمسية عند العرب انما هو أبو معشر والبيروني ونحن لو أمعنا النظر برهة وأجلنا الروية قليلا فيما كتبه هذان المؤلفان لثبت عندنا أن كلا منهما لم يكن قاطعا بما يقول فان كلامهما في الموضوع الاصلي مبهم مختوم عليه بطابع التردد والشك وذلك لان أبا معشر زعم بلا استناد الى دليل أن الجاهلية كانوا يكبسون شهرا في كل سنتين ثم قال (وعن بعض الرواة أنهم كانوا يكبسون أربعة وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر قمرية الى آخر ما قال وجاء البيروني فسلم في أوّل كلامه كبس كل أربع وعشرين سنة بتسعة أشهر ثم ذكر عبارتين (قد علقت عليهما بعض حواش) مقتضى الأولى منهما أنهم كانوا یكبسون مثل اليهود أعني كل تسع عشرة سنة بسبعة أشهر ومقتضى الثانية أنهم كانوا يكبسون كل ثلاث سنوات کبسا منتظما

لعمري ان التردد الذي ظهر في كلام هذين المؤلفين وعدم ثبات كل منهما على رأي واحد يقضي بلا شك بعدم الثقة بقولهما ان لم ينقض ما أثبتناه من أن العرب كانت تستعمل سنة كبيسة

وكيفما كان الأمر فيجمل بنا الآن أن نبحث في الروايات والاثار التي بنى عليها هذان المؤلفان القديمان رأيهما بخصوص حساب الكبيسة ولقد سبق ايراد هذه الروايات في عبارة البيروني الاولى وهى ثلاثة

أوّلا قول الشاعر

ما بين دور الشمس والهلال * يجمعه جمعا لدى الاجمال
* حتى يتم الشهر بالكمال *

ثانيا قول النبي عليه الصلاة والسلام ان الزمان قد استدار کهیته يوم خلق الله السموات والارض

ثالثا قوله تعالى انما النسيء زيادة في الكفر

ولقد جعل المؤلفان السابق ذكرهما العلاقات التي بين الشهور وبين الفصول دليلا على صحة ما فهموه من هذه الروايات ولكن يتفق أن العرب لم تلاحظ هذه العلاقات الا في سنة الوضع فقط كما حصل بالنسبة للشهور القديمة

ولنرجع الى البحث في تلك الروايات فنقول

أما الدليل الثالث الذي هو قوله تعالى (انما النسيء زيادة في الكفر) فلا يشهد بأن العرب كانوا يستعملون الكبس لان لفظة (النسيء) معناها تأخير حرمة شهر محرم الى شهر غير محرم كما نص عليه أئمة المفسرين وأكابر اللغويين١٠

وأما الدليل الثاني وهو قوله صلى الله عليه وسلم (ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) فلي عليه تنبيهان الاوّل ان الخطبة التي ألقاها صاحب الشريعة الغراء في عاشر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة يوم حجة الوداع يرويها البخاري بخمس طرق مختلفة١١ عن رواة متعدّدين ولم يثبت عبارة (ألا ان الزمان الخ) الا من طريق واحدة وأسقطها في الاربعة الاخرى فاذا نظرنا الى سند الحديث المثبت للزيادة نجد من ضمن رواته عبد الرحمن بن أبي بكرة الذي ذكره البخاري في غير هذا الموضع غير مطمئن الى الثقة به وقد قال البخاري في حقه بعد أن ذكر أسماء رجال من رواة الحديث المثبت للزيادة (ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة) فعدم ثقة البخاري بأحد رجال السند الذين رووا الحديث بهذه العبارة (ان الزمان قد استدار الخ) مع اهماله لها في الاربعة الطرق الاخرى يبعثني على الجزم بعدم صحة الزيادة المذكورة

التنبيه الثاني لو سلمنا صحة هذه الزيادة وأنها صادرة عنه صلى الله عليه وسلم حقيقة يلزمنا أن نبحث هل وجد فى وقت حجة الوداع حادثة زمنية يكون النبي عليه الصلاة والسلام أشار اليها بتلك العبارة وتكون هي المقصود من الحديث

نعم فان الحساب يظهر لنا هذا الاتفاق العجيب وهو أن ذا الحجة من السنة العاشرة للهجرة موافق في ذلك العهد آخر شهر من سنة اليهود الدينية حيث أن شهر المحرم الذي هو مبدأ السنة الحادية عشرة هجرية كان هو عين شهر نيسان الذي هو أوّل شهور السنة الدينية عند اليهود هنا وربما كان أبوا العرب اسحق واسمعيل ولدا خليل الله ابراهيم يستعملان السنة القمرية المبهمة مثل أبيهما عليهم الصلاة والسلام ثم انقطع سير شهور هذه السنة بالكبس الذي ابتدعه بنو اسرائيل ولكن السنة القمرية المبهمة لم تزل متبعة عند أبناء ابراهيم لاسيما عند اسمعيل بالنسبة للسنة الدينية وحيث وافق أوّل السنة الحادية عشرة للهجرة مبدأ سنة اليهود الدينية يلزم أن مجموع ما كبسه اليهود من الشهور من مبدء الكبس عبارة عن عدد صحيح من أدوار كل دور منها اثنا عشر شهرا حتى يكون اتفاق بين أوّل السنة الهجرية وأوّل سنة اليهود الدينية كما يتضح من الحساب بحيث تكون سنة اسحق واسمعیل وابراهیم رجعت في زمن حجة الوداع كما كانت عليه في عهدهم وكأنها لم يتخللها كبس ولا زيادة فاذا علم ذلك اتضح لنا مع تدقيق النظر أن هذا هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم (ان الزمان قد استدار الخ) وأما من حيث الدليل الاوّل وهو قول الشاعر

ما بين دور الشمس والهلال * يجمعه جمعا لدى الاجمال
* حتى يتم الشهر بالكمال *

فانه لا يدل بنوع قطعي على أن عرب الجاهلية كانت تستعمل الكبس وذلك لانه زيادة على عدم التحقق من أصل هذه الابيات أن اسم فقيم الذي يظن أن الشعر قيل فيه لم يذكر بها فمن المحتمل أن تكون قيلت في حق يهودي عربي كان قائما بحساب سنتهم الشمسية القمرية

فمما ذكر يتضح أن قدماء المؤلفين لم ينصوا على أن العرب كانت تستعمل السنة القمرية الشمسية الا من باب الظن والتخمين وحينئذ يصعب على الانسان ابداء رأيه القطعي في هذه المسئلة معتمدا على أقوال المؤرخين ليس الا، فهذا ما دعاني الى الاهتداء بكثير من الحوادث السماوية والاعتماد على الحسابات الفلكية لاجل التوصل الى كل حل نهائي جزمت به في هذه العجالة

ولنختم هذه الرسالة ببعض كليمات على الاسبوع عند العرب فنقول كانت الجاهلية تستعمل قديما الاسماء الآتية للدلالة على أيام الاسبوع وهي أوّل (أي الاحد) وأهون (أي الاثنين) وجبار (أي الثلاثاء) ودبار (أي الاربعاء) ومؤنس (أي الخميس) وعروبة (أي الجمعة) وشيار (أي السبت) وقد استشهد المسعودي والبيروني بالبيتين الآتيين

أؤمّل أن أعيش وأن يومي * بأوّل أو بأهون أو جبار
أو المردى دبار فان أفتــــه * فمؤنس أو عروبة أو شيار

وأما من خصوص تقسيم اليوم الى أربعة وعشرين ساعة فاني أذهب الى ما رآه الموسيو كوسان دو پرسوال من أن عرب الجاهلية كانوا يجهلون ذلك بالكلية والله أعلم


(يقول خادم تصحيح العلوم بدار الطباعة البهية ببولاق مصر المعزية
الفقير الى الله تعالى محمد الحسيني أعانه الله على أداء
واجبه الكفائي والعيني)

بحمد رب البرية تم طبع هذه الشذرة البهية والفكاهة الشهية في التاريخ قبل الاسلام للعرب الامية وتحقيق مولد النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التحية المسماة (نتائج الافهام في تقويم العرب قبل الاسلام) ترجمة ما ألفه بالفرنساوية علامة عصره وفهامة مصره فاتح كنوز الرقائق بما فكه من طلاسمه ومحرّر أزياج الدقائق بما صعده من درج المعارف وأداره من فلك التحقيق على أفق التنميق فأبرز غوامض عوالمه الاستاذ محمود باشا الفلكي طيب الله ثراه وجعل نعيم الجنة قراه معرّبة بأدق العبارات مطرّزة بأبهج طراز من أبدع البراعات سبكها في قلب العربية المتين وأودع غوامض اشاراتها حلال السحر المبين الصنع البديع الماهر الفطن النبيل الباهر ذو الاخلاق العطرة الشذية حضرة أحمد ذكي أفندي مترجم محافظة الاسماعيلية فجاءت يتيمة غوّاص وجؤذر قناص وانتقيت من بين أشكالها لرقة تمثالها وبراعة مثالها على أمثالها للطبع في المطبعة الكبرى العامرة ببولاق مصر القاهرة فجاءت عروسا تميس في حلل الدلال وتتيه على عشاقها ببديع هذا الجمال * في ظل الحضرة الفخيمة الخديوية وعهد الطلعة البهية المهيبة التوفيقية حضرة من أنام رعيته في ظل أمنه وعمهم بهنيّ احسانه ويمنه صاحب السيرة العمرية والهيبة والعدالة الكسروية وليّ نعمتنا على التحقيق أفندينا محمد باشا توفيق

أدام الله لنا أيامه ووالى علينا انعامه وحفظ أنجاله الكرام
وجعلهم غرّة في جبين الليالي والايام سنة خمسة
وثلثمائة وألف من هجرة خاتم الرسل الكرام
عليه وعلى آله وصحبه أفضل
الصلاة وأتم السلام
تم تم

  1. وهذه التسمية الثالثة منظومة في الأبيات التالية
    أردت شهور العرب في جاهلية * فخذها على سرد المحرم تشترك
    فمؤتمر يأتي ومن بعــــد ناجر * وخوّان مع صوّان يتبع في شرك
    حنيــن ورنى والاصــم وعادل * وناتـق مع وغل ورنة مع برك
  2. وقد كان ربا يطلق أيضا على الجماديين
  3. وعل ككتف شعبان كما في القاموس
  4. عادل أو عاذل
  5. راجع نبذته التي عنوانها تقويم العرب قبل الاسلام المندرجة في جرنال آسيا في الجزء الصادر في ابريل سنة ١٨٤٣
  6. ذكر المسعودي ابا معشر في مروج الذهب الذي ألفه سنة ٣٣٤ هجرية وقال ابن خلكان ان أبا معشر توفي سنة ٢٧٢ من الهجرة
  7. أظن ان حاجي خليفة اعتمد على هذه العبارة فقال ان الجاهلية كانت تكبس كل تسع عشرة سنة بسبعة شهور مثل اليهود
  8. لا يمكن أن تكون هذه الكسور الا عبارة عما تبقى من كبس كل ثلاث سنوات بشهر واحد كبسا منتظما وفضلا عن ذلك فان هذه العبارة مناقضة لما يليها كما نبه عليه الموسيو كوسان دو پرسوال
  9. هذا الفرق هو بلا شك عبارة عن كسر صغير من الساعة وخمس ساعة وهو الكسر الذي كانوا أهملوه
  10. وفي الواقع ان كلمة نسيء لا تفيد غير ذلك بناء على ما أوضحته من كيفية استعمال الجاهلية للطريقة القمرية المحضة
  11. راجع صحيح البخاري كتاب الحج باب الخطبة أيام منا وباب حجة الوداع