نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام/المقدمة


لااطار
لااطار

المقـــــــدمة

كأنّ للدهر شغفا باسدال حجاب الجهل والخفاء على تاريخ القدماء بل لم تأخذه رهبة الامم القوية للسلطان الرفيعة الشان التي تسنمت من الحضارة أعلى مكان وصار يشار اليها بالبنان بما اكتسبته من الجهد الذي لا يمحوه الزمان فلذلك يجب على الاواخر للوقوف على ما كان عليه الاوائل أن يسالوا آثارهم الناطقة بما كان لهم من السودد والفخر وحيثما أخنى على هذه الآثار الدهر وعاملها مرور العصور بالجزء والشطر وعاقبها كرور الشهور بالقطع والبتر فلابد لمن يتصدى من أوائل الخلف لجمع أخبار السلف أن يتلقفوا الروايات التي تتناقلها الالسنة وتدور على أفواه الناس في جميع الامكنة ثم يحرّروها بمنظار البحث والاعتبار ويضعوها في ميزان التحري والاختبار ليميزوا بين غثها وسمينها فما استقرّ عليه رأيهم يدوّنونه كتابا في التاريخ على أن مثل هذا التاريخ لا يخلو من أن يكون مستورا بظلمات الاوهام محشوّا من سقط الكلام

ولقد كان المؤلفون من العرب في صدر الاسلام على هذه الحالة فانهم لما لم يكن لديهم من الآثار ما يسستنبطون منه صحيح الاخبار ويرجعون للتحقيق اليه ويعوّلون في اعتماد النقل عليه التزموا التنقل من اقليم الى اقليم والتغـرب من بلد الى بلد مهتمين برواية الحوادث القديمة والوقائع الماضية وسير الامم الغابرة التي سلمت من غوائل النسيان والتقطها الخطباء والشعراء وجعلوها موضوع رسائلهم النثرية ومنظوماتهم الشعرية

ولا يخفى أن مؤلفي العرب لم يبتدئوا في تدوين التاريخ الا بعد الهجرة بقرنين أو ثلاثة وفي ذلك دليل كاف على معرفة الصعوبة العظيمة التي كابدوها للتوصل إلى فهم كيفية التوقيت عند العرب بطريقة مضبوطة قويمة وهذا هو ينبوع الخلاف والجدال ومصدر تشعب الآراء والأقوال في كيفية التقويم عند أولئك الاقوام

فقد أجمع المؤرخون على أن الوثنين من العرب كانوا يحسبون أوقاتهم بالسنة القمرية الشمسية ولكن ظواهر عبارات المفسرين وشراح الحديث الشريف وأئمة اللغة تفيد أن العرب لم يستعملوا البتة سوى السنين القمرية المبهمة وقد وقع هذا الخلاف بعينه بين علماء الافرنج فذهب الى الرأي الأول پوكوك وجانيبر وغوليوس و پريدو وغيرهم والموسيوكوسان دو پرسوال ورجح الثاني جماعة منهم الموسيو سيلڤستر دوساسي اذ جزم بأن العرب عموما وأهل مكة خصوصا لم يستعملوا فى حسابهم غير التقويم القمري وقد جنح العلامة ايدلر الى هذا الرأي وقد اعتنى الموسيو سيلڤستر دوساسي١ والموسيوكوسان دوپرسوال٢ ببسط هذه الآراء بسطا كافيا وشرحها شرحا وافيا

وليس البحث عن ترجيح أحد الرأيين وتفنيد الآخر مقصودا لذاته ولكن اهتمامي بتحقيق المباحث التي وضعت لاجلها هذه الرسالة ألزمني البحث والتنقيب في المؤلفات العربية والاجنبية عن الروايات والنصوص التي لها علاقة وارتباط بهذاالموضوع وقد رأيت أن أسرد هذه الموادّ معقبة بالنتائج التي استنبطتها منها أملا أن هذا العمل يميط النقاب ويجلو غياهب الارتياب عن هذه المسئلة التي لها أهمية عظيمة في التقويم العربي

فلنشرع الآن في ذلك على نمط بديع وأسلوب جديد غير متعرضين لترجيح أو تجريح صارفين النظر عن جميع الأقوال والآراء التي تصرح بوجود الحساب القمري المحض أوالطريقة القمرية الشمسية مهما كان نوع الكبس وغير ملتفتين لكل ما يتعلق بكلمة نسيء٣ فإنها أيضا ليست من المواد الاساسية لهذا الموضوع ومن الدلائل والمستندات التي جمعتها تيسر لى تعيين يوم وفاة ابراهيم بن النبي عليه الصلاة والسلام وكذلك يوم دخوله صلى الله عليه و مسلم المدينة المنورة ويوم ولادته وكل ذلك باعتبار الحساب اليولياني

وحيث كانت الاشهر العربية التي وقعت فيها هذه الحوادث الثلاث٤ معروفة أيضا قد استنتجت بدون مشقة نوع التاريخ الذي كان مستعملا عند العرب عموما أو بالاقل عند عرب مكة قبل حجة الوداع بما يزيد على متين سنة

وقد قسمت هذا الكتاب الى قسمين جمعت فى الأول منهما الروايات والحجج التي بنيت عليها حسابي ومزجت في الثاني بين الدلائل وبعضها حتى توصلت لتعيين نوع التاريخ الذي كانت تستعمله العرب قبل الاسلام وتحديد عمر صاحب الشريعة الغرة وهما الغرض المقصود بالذات من هذه الرسالة واتبعت ذلك بخاتمة شرحت فيها المسئلة من حيثية أخرى بعد أن تفحصت ما قاله أقدم المؤلفين في هذا الشان


  1. راجع الجزء ٤۸ صحيفة ٦۰٦ وما يتلوها من مجموعة رسائل جمعية الآداب
  2. انظر الجزء الصادر في ابريل سنة ١٨٤٣ من جرنال آسيا
  3. النسيء معناه التأخير قال اللغويون وأرباب التفسير ان النسيء معناه تأخير حرمة شهر محرم إلى آخر ويزعم المؤرخون أن النسيء معناه ضم شهر ثالث عشر الى السنة القمرية لتصير شمسية وقد يطلق على الشهر المضاف نفسه
  4. وقد عينت في القسم الثاني وقتين آخرین وهما خسوف قمري وانقلاب صيفي حدثا سنة ٥٤١ مسيحية ليكون مجموع الأوقات التي عينتها وجعلتها موضوع بحثي خمسة لا ثلاثة فقط