نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/الأرثوذكسية ووحدة الكنيسة والسلطة والسيادة فيها


الأرثوذكسيَّة وَوحدة الكنيسَة
والسّلطة وَالسِّيَادة فيهَا

وليست الكنيسة الأرثوذكسية مجموعة من الكنائس المستقلة كما يزعم بعض الكتاب الغربيين وإنما هي الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية. ووحدة الكنيسة داخلية مستترة وخارجية ظاهرة. والوحدة الداخلية المستترة هي وحدة الحياة في المسيح ومعه. وهذه الحياة في المسيح ومعه هي خبرة فردية تسبق الاتحاد الظاهري بين الأفراد. وهي أساس الوحدة الخارجية الظاهرة. فإذا ما خبرنا المسيح أفراداً وآمناً قلنا مـع الرسول في رسالته إلى أهل افسس (٤ : ٥): «جسد واحد وروح واحد كما دعيتم في رجاء دعوتكم الواحد، رب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة إله واحد وآب واحد للجميع هو على الكل وبالكل وفيكم كلكم».

وبينما تكتفي الكنيسة الأرثوذكسية بوحدة الحياة في المسيح ومعه ووحدة الإيمان والعقيدة ووحدة الصلاة والأسرار تعلق كنيسة رومة أهمية كبرى على نوع من الوحدة الخارجية هي وحدة الاتفاق حول أسقف واحد هو أسقف رومـة وتوجب الخضوع لسلطته واعتباره أسقف الأساقفة. ومن هنا انفصال رومـة وابتعادها عنا. فالأرثوذكسية تقضي باحترام النصوص الظاهرة والمحافظة على التقليد الرسولي. فالسيد المخلص ساوى بين الرسل ولم يسلط أحداً منهم على آخر والصخرة التي بنى عليها الكنيسة هي صخرة الإيمان صخرة القول مــع بطرس «أنت المسيح ابن الله الحي». والكنائس التي أسسها الرسل في المدن المختلفـة كانت متحدة بالمحبة والإيمان والمعونة والمجامع. وأول هذه المجامع مجمع الرسل في أوروشليم برئاسة يعقوب. ورأس الكنيسة الأرثوذكسية الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية هو المسيح الإله ولا نائب له على الأرض لأنه «هو» معنا إلى انقضاء الدهر. أو لم يقل هو حيث يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون «أنا» بينهم!

والكنيسة الأرثوذكسية واحدة بفعل الروح القدس الذي «يعلمها كل شيء ويذكرها بما قاله السيد» (يوحنا ١٤ : ٢٦) فهو الذي أزال الحواجز بلغة الإنجيل لكي لا يبقى يوناني ولا يهودي ولا ختان ولا قلف ولا أعجمي ولا إسكوتي ولا عبد ولا حر بل المسيح هو كل شيء (كولوسي ٣ : ١١) والروح القدس هو الذي يعطي الكنيسة موهبة المحافظة على الحقيقة. وهو الذي يقوّي ويعلّم: « فإذا قادوكم إلى المجامع والحكام وذوي السلطان فلا تهتموا كيف أو بماذا تحتجون أو ماذا تقولون لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوه» (لوقا ۱۲ : ۱۱-۱۲). ومن هنا ابتداؤنا خدماتنا الروحية بالقول: «أيها الملك السماوي المعزي روح الحق الحاضر في كل مكان والماليء الكل كنز الصالحات ورازق الحياة هلمّ واسكن فينا وطهرنا من كل دنس وخلص أيها الصالح نفوسنا».

وكنيستنا واحدة جامعة بما تم بالعشاء السري وبما يتم باشتراكنا في كأس واحدة وخبز واحد متحولين بواسطة الروح القدس إلى جسد المسيح ودمـه «فقد كنا أجنبيين عن رعوية إسرائيل غرباء عن عهود الموعد بلا رجاء وبلا إله نصرنا قريبين لأنه هو سلامنا وقد جعل الاثنين واحداً ونقض في جسده حائط السياج الحاجز أي العداوة وأبطل ناموس الوصايا بتعاليمه ليخلق الاثنين في نفسه إنساناً جديداً واحداً» (أفسس ۲ : ۱۲ – ١٦). وهذه الكنيسة الجامعة لا تشمل المؤمنين على الأرض وحدهم بل تربطهم بالكنيسة السارية وبالعذراء والدة الإله ومصاف القديسين. ومن هنا هـذه الأيقونات المقدسة فهي تذكرنا بأن السيدة العذراء والقديسين والملائكة معنا في كنيسة واحدة جامعة. ومن أبهى مظاهر هذه الجامعية اشتراك المؤمنين في صلاة واحدة في وقت واحد وفي تقدمات متعددة لمذبح واحد وفي اشتراك كهنة متعددين في خدمة واحدة وفي شعور كل مؤمن بمسؤولية شخصية تجاه الكنيسة الجامعة الواحدة وقيامه بقسط من العمل يتناسب ومواهبه وقدرته.

ورأى الآباء القديسين في السلطة والسيادة في الكنيسة مأخوذ كسائر آرائهم من النصوص الطاهرة . فقد جاء في انجيل يوحنا الحبيب ابن السيدة بالتبني وفي الفصل العشرين ما يلي :

« وقال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد الى ابي بل امضي الى اخوتي وقولي لهم اني صاعد الى ابي وأبيكم والهي والهكم. فجأت مريم المجدليــة وأخبرت التلاميذ انها رأت الرب وانه قال لها هذا.

« فلما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الاسبوع والأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين خوفاً من اليهود جاء يسوع ووقف في وسطهم وقال لهم السلام لكم. ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه . ففرح التلاميذ حين أبصروا الرب. فقال لهم ثانية السلام لكم كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم. ولما قال هـذا نفخ فيهم وقال لهم خذوا الروح القدس . من غفرتم خطاياهم تغفر لهم ومن أمسكتم خطاياهم تمسك لهم . وان توما أحد الاثني عشر الذي يقال التوأم لم يكن معهم حين جاء يسوع. فقال له التلاميذ الآخرون اننا قد رأينا الرب . فقال لهم إن لم أعاين أثر المسامير في يديه وأضع اصبعي في موضع المسامير وأضع يدي إلى جنبه لا أؤمن. وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ أيضاً داخلا وتوما معهم . فأتى يسوع والأبواب مغلقـة ووقف في وسطهم وقال السلام لكم . ثم قال لتوما هات إصبعك الى ههنا وعاين يديّ وهات يدك وضعها في جنبي . ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً . أجاب توما وقال له ربي وإلهي . قال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت . طوبي للذين لم يروا وآمنوا.

وهكذا فان السيد خص جماعة الرسل بسلطــة الحل والربط . ولم يمنحها للاخوة ثم ان الرسل الذين تسلموا هذه السلطة من السيد نفسه منحوها لمتيا الذي حلَّ محل يهوذا ثم لبولس وتيموثاوس وتيطس وغيرهم ممن خلفهم في مهـام الرسالة . وهكذا دواليك حتى الاساقفة في عصرنا الحاضر . ومن هنا لثم اليد لاستمداد البركة الرسولية ومن هنـا ايضاً وجوب الاحترام والاكرام والطاعة. ولم يشترط السيد لهذه المنحة استحقاقاً بشرياً معيناً، فإنه لم يمتحن شجاعة تلاميذه عندما منحهم سلطة الحل والربط بل دخل والأبواب مغلقة. ولم يشترط في تلك الساعة إيماناً كما فعل مع بطرس في مناسبة أخرى ولم يكترث لشك البعض كما جاء في بعض الأناجيل.

وقال السيد والأبواب مغلقة السلام لكم مرتين مرة تطميناً ومرة أخرى لمناسبة رسالته ورسالتهم. فأراد بذلك أن تكون سلطتهم مصدر سلام ونظـام وتآلف لا بذرة شقاق واختلاف. ولم تصدر هذه السلطة عن هذا العالم بل عن الآب بالابن والروح القدس. فليس هم الذين اختاروه وإنما هو اختارهم (يوحنا ١٥ : ١٦) وكما أطاع الابن الآب حتى الموت هكذا يجب الخضـوع للمسيح وخلفائه حتى انقضاء الدهر. ولم تمنح هذه السلطة بطريقة روحية وإنما شخص المسيح إلى الرسل بالنفخ. ومن هنـا وجوب منحها بالنفخ ووضع الأيدي والأنجيل كما لا نزال نفعل حتى عصرنا هذا.

ولم يعط السيد هذه السلطة لكل تلميذ بمفرده بل لمجموع الرسل. فإنـه وقف في وسطهم، ونفخ «فيهم» وقال «خذوا» الروح القدس. من «غفرتم» خطاياهم ومن «أمسكتم». وهكذا فإن السلطة في الكنيسة هي لمجموع الأساقفة لا لأسقف واحد هي سلطـة واحدة لجماعة لا سلطات لأفراد. فليس لأحد أن يعتبرها ملكه الخاص لأنهـا فوق الفرد. ويلاحظ أيضاً أن الرسل لم يكونوا جميعهم هناك. فتوما كان غائباً ولا نعلم بالضبط ما إذا كان بطرس بينهم. وعلى الرغم فإن السيد منح تلاميذه هذه السلطة وهي بالتالي لا تستوجب اكتمال العدد أو أكثرية وإنما هي فوق الفرد وفوق المجموع. وهكذا فإنه عندما ينسحب أحد الرسل من هيئة نعلم بالضبط ابن تبقى هذه السلطة. ومع اتساع الكنيسة وازدياد عدد أفرادها تعرضت لانسحاب جماعة بأكملها من المجموع فهل يعقل أن يقسم المجموع إلى مجموعين وتصبح السلطة سلطتين ويجابـه المؤمنون بالاختيار بين الخضوع لهذا المجمع أو ذاك! إن في هذا نقضاً لشرط السلام الذي ربطه السيد بالسلطة التي منحها. ولهذا السبب نقرأ في النصوص الطاهرة عن أعمدة الرسل. فبولس يذكر ثلاثة (غلاطية ٢ : ٩) هم بطرس ويعقوب أخو الرب ويوحنا الحبيب وإلى هؤلاء وجه طلبه للبت في أمر رسالته. ثم أنه عندما اختلف مـع بطرس في أمور أنطاكية عرض القضية على الرسل المجتمعين في أوروشليم فأبدى بطرس رأيه «فسكنت الجماعة» «وحكم» في الأمر يعقوب أخو الرب (أعمال ١٥ : ١٩). وهكذا فإن الروح القدس انتدب في عهد الرسل أعمدة لازالة الشك والتعرف بدون صعوبة إلى المجموع صاحب السلطة والقول الفصل.

وتكاثر الأساقفة خلفاء الرسل فتجمعوا وحدات محلية منشئين بمجامعهم المحلية مراكز للسلطة المحلية. ثم تألفت من هذه الوحدات المحلية بطريركيات وتألفت من البطريركيات هيئة مسكونية صاحبة السلطة في العالم. ولم يكن للكنيسة في أي وقت من أوقاتها أقل من بطريركيتين أو ثلاث. ومر زمن أصبحت فيه هذه البطريركيات خمساً. وقد تتعدد هذه البطريركيات وتتكاثر فيصار بموجب التقليد الرسولي إلى الاعتراف بأعمدة ثلاثة كالأعمدة بطرس ويعقوب ويوحنا. فحيث يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه يكون هو بينهم. «وإن لم يسمع لك أخوك فخذ معك واحداً أو اثنين لكي تقوم على فم شاهدين أو ثلاثة كل كلمة» (متى ۱۸ : ١٦) و(الثانية إلى أهل كورنثوس ۱۳ : ۱).

ولا ميزة لبطرس وخلفائه، على ضوء ما تقدم، أكثر مما ذكر، فالسيد لم يجعل هذه السلطة فردية كما أوضحنا ولم يوجه لبطرس نفخة مختلفة. وفي إنجيل يوحنا وفي الفصل الحادي والعشرين ما يدل على أن بطرس لم يعد إلى سابق عهده قبل الظهور الثالث الذي جرى في طبرية عندما كرر السيد السؤال «أتحبني أكثر من هؤلاء» ثلاث مرات! وبالتالي فلا مجال للقول أن خلفاء بطرس هم وحدهم الأساس في السلطة أو أن انسحابهم من المجموع البطريركي بعد السنة ١٠٥٤ عطل سلطة هذا المجموع.

ولم تكن هذه السلطة التي منحها السيد سلطة حق مشروع بل سلطة قوة وفاعلية. فالمسيح الإله لم يمنح الرسل حق الحل والربط أولاً ثم القوة الإلهية بل منح القوة أولاً ثم أردف ذلك بقوله من غفرتم. ومن هنا الفرق بين حلول الروح القدس في يوم الخمسين وبين ما تم والأبواب مغلقة. فحلول الروح القدس يوم الخمسين تم لتحويل البشرية وتقديسها بالكنيسة أما النفخ الذي تم قبل صعود المسيح فإنه نقل إلى جماعة الرسل القوة الإلهية البشرية الفعالة التي تجلت بالمسيح الإله.

ومما يلاحظ أيضاً أن هذه القوة الإلهيـة البشرية الفعالة منحت لجماعة الرسل مع حق كل فرد منهم أن يتذرع بها ويستعملها ما دام واحداً من الجماعة. فالمسيح الإله لم يقل من غفرتم له «مجتمعين» يغفر له ومن أمكستم له «مجتمعين» يمسك له وإنما اكتفى بالقول من غفرتم ومن أمسكتم. وبالتالي فإن هذه السلطة العليا تتجلى في كل كنيسة بما يعلمه ويفعله أسقفها. وحكم هذا الأسقف الفرد هو حكم جماعة الأساقفة. ومن هنا قول كبريانوس ومجمع إفريقية إلى كنيسة رومة أن النعمة والقوة متوفرتان في إفريقية بدون لجوء إلى معونة من وراء البحر.

ولم يقل السيد من غفرتم لهم ممن يؤمنون بي أو ممن هم من خرافكم ورعاياكم بل من غرفتم لهم على وجه الإطلاق. وهكذا فإن مـا منح شمل العالم والبشرية بأسرها، ومن هنا هذه الألقاب الكنيسة القديمة أسقف رومة وأسقف الإسكندرية وأسقف كل غالية وكل الشرق. فهؤلاء الأساقفة هم لجميع سكان هذه المناطق لا لفئة واحدة منهم.

ولم يحدد المسيح الإله هذه السلطة الرسولية ولم يقيدها بشيء فإنه لم يقل من غفرتم لهم بموجب تعاليمي وأوامري بل أطلق في القول فجعل سلطتهم مطلقة لا تقيدها شرائع أو قوانين. وهـذا لا يعني أنه أذن بالخروج على تعاليمه فإنه أرسل بعد صعوده الروح القدس الذي يعلم ويذكر. وجل من هنالك أن هـذه السلطة الرسولية غير مقيدة بالقوانين وأن هذه القوانين الكنسية معرضـة دائماً لإعادة النظر لأن السلطة الرسولية سلطة مطلقة.

ولم يطلق السيد يد جماعة الرسل في تحديد البطل والحق والخطيئة والفضيلة فهذه مربوطة بالحقيقة التي فاه بها المسيح الإله مرة واحدة حتى انقضاء الدهر فهو لم يقل ما تحكمون أنه خطيئة فهو الخطيئة وما تحكمون أنه الفضيلة فهو الفضيلة. وإنما قال أفوضكم بالغفران والإمساك، وبالتالي فالعصمة عندهم قانونية لا ميتافيزقية، مرتبطة جوهراً بالكنيسة لا مستقلة عنها.