نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/التقارب والتآلف قبل الاتحاد


التَّقارُب وَالتّآلف قَبل الاتحاد

لقد أزمن الداء وتعسر برؤه. ولكنه ليس من النوع الذي لا ينجع فيـه دواء. والاتحاد هو في النهاية عمل الرؤساء. ولكن جمهور المؤمنين ليس بمعزل عن المسؤلية بل باستطاعتهم أن يؤثروا في حل المعضلة. فالاتحاد لا يصاغ صياغة ولا يفرض فرضا وإنما يكتشف اكتشافاً إذا عملنا على إيجاد الظروف الملائمة.

وأول واجباتنا نحن المسيحيين في الشرق والغرب معا أن نطلب إلى الله بنفس منسحقة أن يقرب اليوم الذي يتحقق فيه هـذا الاتحاد وأن يعاوننا على التحلي بالمحبة المسيحية الحقيقية التي تتأنى وترفق ولا تحسد ولا تباهي ولا تنتفخ ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتــد ولا تظن السوء بل تتغاضى عن كل شيء لأجل المسيح وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء.

ثم يجدر بنا أن نبدأ العمل لأجل الاتحاد باصلاح أنفسنا. فالاتحاد فردي داخلي قبل أن يكون جماعياً ظاهرياً. فلنقدس نفوسنا ولنزينها بالفضيلة المسيحية. ومتى أصبحنا مسيحيين حقيقيين زال الجفاء والنفور وساد التعاون والاحترام.

والخطوة الثالثـة في نظرنا هي خطوة تعارف وتآلف وتعاون. وهي ضرورية لازمة لأن المفاهيم مختلفة والآراء متضاربة في كيفية تنظيم الكنيسة. فالأرثوذكسي يقول بمساواة الرسل وبالتساوي بين خلفائهم ويرى السلطة في يـد مجموع الأساقفة لا في يد أسقف واحد. والكاثوليكي يرى في حبر رومة أسقف الأساقفة. وهذه هي علة العلل. فإذا تعارفنا وتحابينا باسم المسيح وله تعاونا في أمور كثيرة وتوصلنا بنعمة الله إلى الاعتدال في الرأي وخرجنا من المأزق بحل يرضي الجميع. فلا بد والحالة هذه من إنهاء عهد الجفاء والتباعد والدخول في طور تعاون وتآلف.

ولنبدأ بتعليم صغارنا ما نتفق عليه قبل البحث معهم في وجوه الاختلاف. والأفضل في نظرنا ألا نبحث مع الصغار في الاختلاف. ونحن نتفق في أمور كثيرة مهمة. فإنجيلنا واحد ورسائلنا واحدة وتقليد الآباء واحد ودستور الإيمان واحد ورومة تجيز تلاوته كما أقره الآباء القديسون في المجمعين المسكونيين الأول والثاني. وجميعنا يعترف بقرارات مجامع مسكونية سبعة واحدة. وكلنا يمارس أسراراً واحدة (هي هي في الشرق وفي الغرب) ونسجد لجسد واحد ودم واحد. فلماذا لا نعلم صغارنا أننا متفقون في جميع هذه الأمور. ولماذا لا نزال نصر على وجوه الخلاف دون إشارة واحدة إلى مواطن الاتفاق.

فلو أخذنا كتاب التعليم المسيحي الذي طبع في مطبعة الآباء الفرنسيسيين في أوروشليم سنة ١٩٥٤ لوجدنا صاحبه الأب أنطون عقليان الذي زاول التعليم زمناً طويلاً يقول في الصفحة الثانية عشرة من هذا الكتاب «إن المسيحي الحقيقي هو الكاثوليكي لا غير» والمسيحيون غير الحقيقيين هم البروتستانت والهراطقة والمنشقين، ويقول هـذا المعلم نفسه في التعليق على انبثاق الروح القدس في الصفحة ٨٣ أن فوطيوس كان «مبدع الانشقاق» وهو لا يجد في الصفحة نفسها لفظاً يصف به عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية أفضل من «الكذب» فيقول أنها «عادت إلى المعتقد الكاذب». ثم يقيم البابا لاوون التاسع من قبره ليحرم الروم وينسى أن هذا البابا توفي قبل أن يعلم بما فعله كرديناله هومبرتو في القسطنطينية وأنه لم يقم بعده حبر روماني واحد ثبت هذا الحرم. ويبحث في الصفحة ٩٢ في الخارجين عن الكنيسة فيفرق بين الهراطقة والمنشقين ويؤكد أن الروم منشقون وهراطقة في آن واحد ويقول في الصفحة ٩٣ «إن أشهر انشقاق هــو انشقاق الروم في القرن التاسع وإن سببه الكبرياء وفساد القلب واحتقار سلطة الكنيسة العليا وإن هـذا من أفظع الجرائم» ونقرأ في الصفحة ١٠٣ أن الكنيسة غير الكاثوليكية خالية من الوحدة «والقداسة». يقول هذا الأب الكاهن كل هذا في كتابه في التعليم المسيحي ويعتقد في قرارة نفسه أنه يخدم بذلك روح المحبة المسيحية واتحاد الجميع في المسيح! فلو حذفنا هـذه الأمور جميعها من التعليم المسيحي (وهي خطأ أصلاً) هل يفقد هذا التعليم صبغتـه المسيحية؟ أو ليس بالإمكان أن نكون وضعيين على الأقل مع الصغار دون اللجوء إلى التكريه والتبغيض؟ كأن نقول أننا تختلف عن الأرثوذكسيين في انبثاق الروح القدس وأمر سلطة البابا وغير ذلك ولكننا نوافقهم في كذا وكذا.

ويجب علينا بعد هــذا أن نتبعد عن التشويق لطقس معين. فقد جربنا هذه الوسيلة وأخفقنا لا بل تباعدنا. وقد سبق لنا وقلنا في تضاعيف هذه الرسالة أن الجهود التي بذلتها رومة في القرنين الآخرين لإقامة كنائس شرقية كاثوليكية أدخلت البعض اليسير في الطاعة ولكنها نفرت المجموع الكبير وزادت الشقاق اتساعاً. ومما يجب الابتعاد عنـه أيضاً استغلال الظرف السياسي. وآخر ما حدث من هذا القبيل هو تدخل السلطات الإفرنسية المنتدبة في السنة ١٩٣٠ - ١٩٣١ في انتخـاب البطريرك الأرثوذكسي الأنطاكي وحض الأساقفة بشخص المسيو جيناردي مستشار الأديان في المفوضية الإفرنسية على تقسيم الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية إلى كنيستين لبنانية وسورية وانتخاب «بطريركين» واحـد على لبنان والآخر على سورية!! فهل بهذه الأساليب ينشأ الاتحاد في المسيح؟

وليس في موقف رومة الجديد من زواج الكاثوليكية من الأرثوذكسي ما يقرب القلوب ويمهد الطريق للاتحاد. فقد جری منذ عامين أن أحبت شابة تنتمي إلى إحدى الطوائف الغربية رجلاً أرثوذكسياً في الثامنة والثلاثين. وهي في السادسة والعشرين من عمرها مثقفة متعلمة وهو أديب لامع وله مكانته في المجتمع اللبناني. وتعارفا وتوافقا عن عقل وروية. فذهبت الشابـة إلى اسقفها تطلب الرخصة بالزواج فقال إن زواجها من أرثوذكسي هو في حد ذاتـه زنى لا تجيزه الكنيسة فلما لم ترعو هدد بقطع جدها الكاهن! فلماذا لا نعود إلى ما كنا عليه منذ مئتي عام فقط إلى التآلف والتعاون والتزاوج والمحبـة. وهل يختلف اثنان في أن حادثاً واحداً من نوع ما تقدم يفسد عمل ألف مبخر في سبيل الاتحاد!

والتعارف بالنشر العلمي الصحيح الناضج بالمحبة المسيحية ضروري جداً. فالواقع أن التباعد الذي دام تسعة قرون أدى إلى الجهل. والجهل جفاء. فلا بد والحالة هذه من نشر حقيقة الأرثوذكسية في الأوساط الكاثوليكية ونشر حقيقة

الكثلكة في الأوساط الأرثوذكسية. وعلى الرغم من النهضة العلمية التاريخيـة المباركة التي أثارها البابا لاوون الثالث عشر بقوله أن الكنيسة لا تحتاج إلا الأخذ بأسباب الكذب والتلوي في الدفاع عن الحقيقة فان الأوساط الكاثوليكية العلمية لا تزال بعيدة عن فهم الأرثوذكسية فهماً عميقاً كاملاً. فالأب مرتينوس جوجي أستاذ اللاهوت الشرقي في رومة لا يزال يفترض افتراضات لا تتفق وواقع الحال كادعائه بأن الأرثوذكسية تقول بقيصرية باباوية على الرغم مما ظهر للعلماء الأرثوذكسيين من مقالات ممتعة باللغات الغربية في هذا الموضوع. وقول الأب جوجي في كتابه الانشقاق إننا لا نفهم ما تصلي قول غريب في بابه ولا سيما وأن صاحبه هو الأستاذ اللاهوتي الكبير وعلى يده نشأ بعض كهنة طوائفنا الغربية الذين أموا رومة للدرس والتخصص! وتصميمه في كتابه «الانشقاق» على تحطيم الكنيسة الأرثوذكسية في كل سانحـة وبادرة وقلبه للحقائق التاريخية وتلاعبه بدقائقها وتفاصيلها يزيل الثقة بأقوال الآباء الغربيين وينفر القلوب ويزيد الشقاق والانشقاق1. والأب إيف كونغار العالم العلامـة يستشهد بنصف ما نتلـو من الصلوات معرضاً عن النصف الآخر. فقد قال في كتابه «تسع مئة سنة بعد الانشقاق» أنه بينما رومة تصلي لاجل اتحـاد الكنائس فإن الأرثوذكسيين بصلون لأجل ثباتها! ونسي أن الطلبة المشار إليهـا تنص هكذا: من أجل ثبات كنائس الله المقدسة «ووحدة الجميع»! ولو مزج الأب كونغار هامش كتابه هذا بمتنه لكان أقرب بكثير إلى الصحة والفائدة. فالهامش هو ما تجهله الأوساط الكاثوليكية الغربية لا المتن. وإذا ما تم لنا التعارف العلمي الصحيح نقلنا أبحاثنا العلمية إلى مفهوم الجماهير وتمكنا من وضع كتب في التعليم المسيحي لأجل الصغار والشباب تستعمل في المدارس الكاثوليكية والأرثوذكسية في وقت واحد. ولعل هـذا كله يستوجب تطميناً من الفاتيكان وتشجيعاً. فبعض كهنتنا الكاثولكيين الشرقيين والغربيين أشد كثلكة من رومة نفسها. وهنالك نصوص أساسية متفق عليها وقد وردت باليونانية أولاً كالإنجيل والرسائل ومصنفات معظم الآباء وقرارات المجامع المسكونية السبعة فـلا مجال لظهورها بالعربية مختلفة متفاوتة والتعاون في ضبطها أمام لجنة علمية كاثوليكية أرثوذكسية عليا أمر ليس مستحيلاً.

والأعمال الخيرية أعمال مسيحية قبل أن تكون كاثوليكية أو أرثوذكسية. فلم لا نتعاون فيها بشكل «منتظم» يعود على الفقراء والمقعدين والمرضى بفائدة أكبر بكثير مما هي عليه الآن.

وليست هـذه كلها سوى نماذج من العمل المسيحي المشترك الذي يجب التعاون فيه لتنمية الشعور بالوحدة والاتحاد، والاتحاد واقع لا محالة لأنه حق ولأن المسيح يريده. فهنيئاً لمن يحيا ويرى! وطوبى لمن يعمل ويسعى!






  1. Jugie, M., Schisme Byzantin. (Paris, Lethielleux, 1941).