نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/واحدة مضطربة


وَاحدَةٌ مُضْطَربَة

وكانت دولة رومـة قد دالت في الغرب فخلت عاصمتها الأولى من إمبراطور روماني منذ السنة ٤٧٦. ولم يبق للدولة الرومانية سوى عاصمة فعليـة واحدة هي رومة الجديدة. وعظم شأن هذه واكتظت بالسكان فبلغ عددهم في القرن السادس نصف مليون أو أكثر1. وصمدت في وجه البرابرة وحفظت تراث الجدود فأصبحت في العصور الوسطى قبلة أنظار العالم المتمدن في الشرق والغرب معاً. وظلّ الملك للواحد الأوحد فيها وظل الإمبراطور القسطنطيني ممثله الأوحد فظلت الأراضي التي خضعت لرومة في الغرب خاضعة في المبدأ لإمبراطور القسطنطينية، وأمسى حكام هذه الأراضي الغربية أعضاء في هيرارخية سياسيـة مسيحية يرأسها هـذا الإمبراطور الشرقي وينثر عليهم الألقاب2. فكان من الطبيعي جداً أن يكتسب أسقف رومة الجديدة نصيباً وافراً من الإكرام والاحترام والنفوذ والزعامة وأن يستمسك باللقب «المسكوني».

وصغرت رومة القديمة وتقوّض سرادق مجدها فلانت شوكة أساقفتها ومالت دعائم عزمهم فشق عليهم ذلك فازدادوا تمسكاً بتقدم بطرس على الرسل وتقدم كنيسة رومة على سائر الكنائس وفي السنة ٧٩٥ رقي السدة الرومانية كاهن وضيع متواضع تقي ورع هو لاوون الثالث. فلقي مقاومة عنيفـة من أنسباء سلفه أدريانوس الأول. وكان في هؤلاء جلاقة ودناءة فهجموا عليه في عيد القديس مرقس في السنة ٧٩٩ وحاولوا تشويه جسده. ففر من رومة بعد التئام جرحه والتجأ إلى بلاط كارلوس الكبير وشكا أمره إليه. ولا نعلم ماذا جرى بين الاثنين بالضبط ولكننا نرى لاوون يعود إلى رومة مكرما تواكبه قوة عسكرية ونرى کارلوس نفسه يزور رومة في السنة التالية (٨٠٠) لينظر في قضية لاوون وأخصامه فينتهز لاوون فرصة وجوده في رومة ويتوجـه «إمبراطوراً أوغوسطوساً تقياً مقاماً من الله مسلطاً على الرومانيين». ويلاحظ هنـا أن الإمبراطور لاوون الثالث كان قد رفع في حوالي السنة ٧٣٣ سلطة البابا الروحية عن إليرية وصقلية وكلابرية وألحق هذه الأبرشيات بالبطريركية المسكونية وأنه أيضاً كان قد وضع يده على أوقاف القديس بطرس في هذه الأماكن وغيرها. فلما التأم المجمع المسكوني السابع للنظر في تكريم الأيقونات في السنة ٧٨٧ في نيقية كتب بابا رومة إدريانوس الأول إلى البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية يرجو إعادة حقوقه المسلوبة إليه ويذكر بتقدم رومة وسلطتها، فحذفت هــذه كلها من الترجمة اليونانية التي تليت أمام الآباء المجتمعين فلم تبحث في المجمع ولم يتخذ أي قرار فيها3. فجاءت الكاروليات «Libri Carolini» في ما بعد تعارض قرارات المجمع المسكوني السابع وتنبىء بقلـة اكتراث كارلوس وبلاطه برأي القسطنطينية حكومـة وكنيسة وشعباً. وسكت أدريانوس عن قرارات مجمع فرانكفورت في السنة ٧٩٤ على الرغم من تعارضها مع قرارات المجمع المسكوني الذي اشتركت فيه رومة ووافقت على أعماله! فاتضح للجميع أن أسقف رومة أصبح بالفعل أقرب إلى بلاط كارلوس منه إلى بلاط الإمبراطور.

وهكذا فيكون البابا لاوون الثالث قد تابع بتتويج كارلوس إمبراطوراً سياسة أسلافه الأقربين ووصل بها إلى نتيجة منطقية محتمة فخرج على القول بإمبراطورية واحدة، والخروج على القول بإمبرطورية واحدة إنمـا كان في حد ذاته خروجاً على فكرة الوحدة والتوحيد السائدة آنئذٍ في الأوساط القانونية والكنيسة: إله واحد ورب واحد وأرض «مسكونة» واحدة وإمبراطورية واحدة وكنيسة واحدة، فيجوز القول والحالة هذه أن باباوات القرن الثامن بعد أن يئسوا من الوصول إلى ما اعتبروه حقهم المشروع وبعد أن رفضت المجامع المسكونية إقرار ما طالبوا بــه هم وسلفائهم من تقدم فعلي على سائر الكنائس خرجوا على القول بإمبراطورية واحدة وأغضبوا البلاط الشرقي فالمقر البطريركي المسكوني ومهدوا السبيل لانشقاق أليم لا نزال نشكو منه حتى ساعتنا هذه.

ولم يدم عهد هذه الإمبراطورية الرومانية الغربية الجديدة. فإن خلفاء كارلوس كانوا من صغار الرجال، فلما دالت دولتهم وتجزأت إمبراطوريتهم واضطربت أحوال إيطالية والتجأ البابا يوحنا الثاني عشر إلى أوتون الأول ملك ألمانية نادى به إمبراطوراً رومانياً مقدساً في كاتدرائيته في رومة في الثاني من شباط سنة ٩٦٢ فجدد بذلك تجزئة الوحدة وأثبت ابتعاده عن الشرق وانتماءه إلى الغرب ودامت هذه «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» في الغرب قروناً طوالاً حالَّة محل الإمبراطورية الرومانية الشرقية الشرعية مناوئة لها مهددة في بعض الأحيان.

وأدى امتعاض رومة القديمة من امتناع الكنائس الشرقية عن الاعتراف برئاستها ومن قلـة اكتراث الحكومة الإمبراطورية الشرقية لمطالبها التقليدية إلى ظهور وثيقة مزورة في الأوساط الكنسية الغربية في هذه الفترة وإلى استعمالها والاحتجاج بها لتأييد الرئاسة الكنسية العليا كما فهمتها رومة القديمة. والإشارة هنا إلى منحة قسطنطين «Donatio Constantini» وتنص هذه المنحة على أن الإمبراطور قسطنطين الكبير منح البابا سلبستروس الأول (٣١٤ - ٣٣٥) التقدم الفعلي على أساقفة أنطاكية والقسطنطينية والإسكندرية وأوروشليم والسلطة الزمنية على رومة وكل إيطالية وجميع الولايات والمدن الغربية وانه أقام بابا رومة قاضياً أعلى على جميع الإكليروس وأنه قدم له التاج الإمبراطوري ولكن سلبستروس أبى وامتنع4. ودخلت هذه الوثيقة المزورة في نصوص القوانين الكنسية الغربية وظلت محترمة حتى شك في صحتها الكردينال الفيلسوف الألماني نيقولاوس الكوسي (١٤٠٠ - ١٤٦٤) والأسقف رينولدوس بيكوك (۱۳۹۳ - ١٤٦٣) والأب لورنزو فالا (١٤٠٦ - ١٤٥٧). ويجمع اليوم علمـاء الأوساط الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية على تزوير هذه الوثيقة وعلى وقوع هذا التزوير إما في القرن الثامن أو في القرن التاسع بعده.

ومما أدى إليه تغافل رومة الجديدة عن مطالب رومة القديمة وإلقاء الأزمّة إلى أيدي المقادير ظهور الديكربتات الكاذبة «Fausses Décrétales» في فرنسة في منتصف القرن التاسع. وقد نسبت خطأ إلى أسيدوروس الإشبيلي (+ ٦٣٦) وهي مجموعة من الأوامر والرسائل الصادرة عن الباباوات ومن قوانين المجامع. أما القوانين فإنها صحيحة على وجه الإجمال وإما الرسائل والأوامر فإنها كاذبة على وجه الإجمال. وقد زورت هذه لتدعيم حقوق الأساقفة في وجه رؤسائهم المطارنة ولتأييد سلطة الباباوات. وقـد شك فيها وتردد في صحتها لأول مرة علماء ماغديبورج في السنة ١٥٥٨5. وأول من تذرع بها من الباباوات البابا نيقولاووس الأول وذلك في السنة ٨٥٤.

وكان الآباء في إسبانية قد قالوا في سبيل الدفاع عن صحة العقيدة بانبثاق الروح القدس من الآب والابن وذلك رداً على الآريوسية التي دخلت عليهم مع القبائل البربرية. وكانوا قد أقروا ذلك في مجمع مكاني مجمع توليدو الثالث في السنة ٥٨٩. وتسرب هـذا القول إلى فرنسة وشاع في أوروبة الغربية حتى عمَّ الإمبراطورية الكارولية في حوالي السنة ٨٠٠. ونقله حجاج الإفرنج إلى الأراضي المقدسة وتلاه رهبان الإفرنج في أوروشليم على جبل الزيتون في السنة ٨٤٧ فاعترض على ذلك رهبان القديس سابا وأسمعوا البابا لاوون الثالث احتجاجهم. فأصر على ما أقره الأباء في المجمع المسكوني الثاني أي على القول بالانبثاق من الآب فقط وأمر بنقش دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني على لوحتين من الفضة وأقامها عند قبر بطرس الرسول. ولكن موافقته على تفسير الدستور بإضافـة العبارة «والابن» Fttoque ساعد على انتشار القول الإسباني. وعند انتهاء القرن العاشر بدأ الدستور يتلى مع القول الجديد في رومة نفسها. ووصل احتجاج الرهبان الأوروشليميين إلى القسطنطينية وسائر الكراسي الشرقية فلاقى تأييداً فيها. وقام فوطيوس يفند القول الجديد ويدحضه بما أوتي من علم وفصاحة فأمست العبارة «والابن» موضع أخذ ورد بين الشرق والغرب ولا تزال6.

وقاوم الآباء الأرثوذكسيون الدولة في القرنين الثامن والتاسع محتجين على تدخلها في شؤون الكنيسة ولا سيما في أمور العقيدة، وتوفي الإمبراطور ثيوفيلوس في السنـة ٨٤٢ فلما كان أول أحد من الصوم الكبير من السنة ٨٤٣ أعيدت الأيقونات إلى سابق عهدها. وأصدر البطاركة الثلاثة خريستوفوروس الإسكندري وأيوب الأنطاكي وباسيليوس الأوررشليمي بياناً مشتركاً بوجوب حماية الأيقونات وتكريمها.

ثم اختلف الآباء القسطنطينيون في موقفهم من الدولة فتطرف الإيستودون ومنعوا كل تدخل حكومي في شؤون الكنيسة. واعتدل الأوليمبيون وكبار الأساقفة في هذا الأمر نفسه فكانت متاعب لمتوذيوس البطريرك انتهت بانتقاء أغناطيوس بعـده (٨٤٨) نظراً لطهارته من الجهة الواحدة ولصلته الشخصية بالأسرة المالكة من الناحية الأخرى. ونشأت مشادة بين الإمبراطورة الوالدة ثيودورة وبين أخيها برداس المتقدم في البلاط. وتوفي أحد أبناء برداس فأقامت أرملة هذا في بيت عمها برداس ولم تتفق هذه الكنة الأرملة مع حماتها افذوكية فاندلع الشر في البيت. وعطف برداس على الكنة الأرملـة فاتهمته زوجته أفذوكية بكنته. فطرد زوجته من البيت فراحت تتطاول عليه بلسان لم يكن قصيراً. فشاع الخبر العائلي في العاصمة. فوبخ البطريرك أغناطيوس برداس ونهاه عن المحرّم وأمره أن يقبل امرأته وفي بيته فامتنع، وفي عيد الظهور الإلهي سنة ٧٥٧ تقدم برداس مع ابن اخته الإمبراطور ميخائيل الثالث لتناول الأسرار الإلهية. فأبى البطريرك مناولته وطرده خارج الكنيسة أمام الشعب كله! وشفع الإمبراطور دون جدوى. فغضب برداس واستغل قصة الراهب الذي كان يدعي أنه ابن ثيودورة. فدافع البطريرك عنه ناسباً عملـه إلى الجنون. فاتهم برداس البطريرك بالتآمر على الإمبراطور وأقنع الإمبراطور بوجوب دخول ثيودورة وبناتها في الرهبنـة. فسألهن أغناطيوس إذا كن يردن ذلك فأنكرن فامتنع عن إجابة طلب الإمبراطور، فأكره الإمبراطور والدتـه ثيودوة وأخواته على الترهب وأمر أغناطيوس أن ينزل عن كرسيه ففعل.

وتشاور الأساقفة والإمبراطور وبرداس فأجمعوا على أن يكون خلف أغناطيوس رجل سلام يتوسط للوفاق بين الحزبين المتخاصمين، واشترطوا أيضاً أن يكون ذا همة ونشاط وعلم يدفع الهرطقات فاتفقوا على فوطيوس كاتم أسرار الإمبراطور. فرفض فوطيوس فأصر الرؤساء والأعيان فلم يصغ لهم. فانحاز إليه عندئذٍ أكثر أتباع أغناطيوس المستقيل. ثم هدده برداس بالسجن فأذعن فرقي في ظرف أسبوع واحد جميع الدرجات الكهنوتية وسيم في يوم عيد الميلاد سنة ٨٥٨ أسقفاً وتوج بطريركاً مسكونياً.

ولم يوفق فوطيوس إلى القضاء على الشقاق بسرعة، فعاد الخصام وعاد بعض أتباع أغناطيوس إلى المقاومة. ويئسوا فشكوا أمرهم إلى رومة. ولم تكن هذه أول مرة تلجأ فيها أقليـة أرثوذكسية متظلمة إلى رئاسات الكنائس الشقيقة فتاريخ الكنائس الأرثوذكسية حافل بمثل هذا قبل الانشقاق وبعده، ولم تكن قضية الأيقونات قد صفيت تصفية نهائية عملية وذرَّ قرن الشقاق بين أصحاب الطبيعة الواحدة وبين الأرثوذكسيين. وهب البوليسيون والمانويون يشاغبون. وعرا الكنيسة اضطراب شديد. فرأى الإمبراطور والبطريرك أن يصار إلى دعوة مجمع مسكوني، فكتب فوطيوس رسائل الجلوس ووجهها إلى رومـة والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم. فرد عليها البطاركة الشرقيون رسائل سلام أما بابا رومة نيقولاووس الأول فإنه اغتنم هذه الفرصة للمطالبة بالأبرشيات التي سلخت عن بطريركيته وجعل إعادتها شرطاً أساسياً للاعتراف برئاسة فوطيوس في القسطنطينية وتوابعها. وأرسل أسقفين اثنين إلى القسطنطينية ليحملا رده وينظرا في الموقف عن كثب. فلما وصلا ووقفا على حقيقة الأمر وجـدا أن أغناطيوس كان قابلاً بشرطونية وأن الجميع التمسو فوطيوس فوطيوس وأحرجوه ليقبل البطريركية. وأثرت شخصيته الفذة في نفسيها فاشتركا في المجمع القسطنطيني «الأول الثاني»، الذي انعقد في السنة ٨٦١ ووافقا على ارتقاء فوطيوس وعلى سائر قرارات هذا المجمع وأهمها ألا يقوم بعد ذلك بطريرك من طبقة العوام أو الرهبان ما لم يتمرس في الدرجات الكنائسية درجة درجة ويتمم المدة القانونية فيها.

وأرسل الإمبراطور ميخائيل الثالث أعمال هذا المجمع الأول الثاني إلى البابا نيقولاوس الأول أحد كتابه ومع سفيري البابا وزودهم بهدايا كنسية ورسالة منه إلى البابا. وكتب فوطيوس رسالة ملأى بالمحبة المسيحية. فلما تسلم نيقولاووس هذا البريد ولم يجد فيه ما تمنى من حيث الأبرشيات المسلوخة وغيرها ألغى عمـل نائبيه وعقد مجمعاً محلياً (٨٦٣) واتخذ لنفسه ولمجمعه المحلي صلاحية النظر في أمور الكنيسة القسطنطينية الداخلية وفي قرارات المجمع الأول الثاني الذي كاد يكون مسكونياً وحكم على فوطيوس وقطعه واعترف بأغناطيوس بطريركاً قانونياً وهدد باللعنة والحرم كل من يتجاسر أن يخالف هذا القرار. وكتب بذلك إلى الإمبراطور فأجابه هذا بكتاب مرّ «أوجب» به التراجع عن قطع فوطيوس ورفض رفضاً باتاً سلطة رومة 7. ومما زاد العلاقات تعقداً إن الإمبراطور والبطريرك كانا قد نجحا في نشر الدين المسيحي في مورافية وروسية وبلغارية.

فهال رومة أمر هذا الاتساع المفاجىء في سلطة البطريرك المسكوني فبثت دعاتها في بلغارية موجبة الخضوع لهـا. فثار ثائر الإمبراطور والبطريرك. والتأم مجمع قسطنطيني في السنة ٨٦٧ برئاسة الإمبراطور فقطع أعضاؤه بالإجماع نيقولاووس الأول ونبذوا القول بالانبثاق من الآب والابن واعتبروا تدخل رومة في شؤون كنيسة القسطنطينية عملاً غير قانوني وأعلموا البطاركة الشرقيين بذلك كله8. ثم اغتيل ميخائيل الثالث في الرابع والعشرين من أيلول سنة ٨٦٧ ورقي عرش الأباطرة باسيليوس الأول فدخل الروم في دور من العز عظيم. فنجح باسيليوس في دفع المسلمين إلى الوراء في سوريا والجزيرة وأصبح سيد جبال طوروس وممراتهـا. وأدرك خطورة الموقف في البحر المتوسط وفي الغرب. فالسيادة على هذا البحر كانت قد استقرت في يد المسلمين، وكان هؤلاء قـد استقروا في صقلية وجنوب إيطالية وظهروا أمام رومة نفسها. ولم يقو اللومبارديون على الصمود في وجههم فأم القسطنطينية وفدان أحدهمـا مثل الإمبراطور الغربي والثاني البابا ليحثا الإمبراطور على صيانة النصرانية في الغرب ففعل. فقضت هذه الظروف السياسية بالتفاهم بين رومة القديمة ورومة الجديدة فأكره باسيليوس البطريرك فوطيوس على التنحي عن السدة القسطنطينية (٨٦٧) وأعاد أغناطيوس إليها. ثم طلب إلى البابا أن يرسل من يمثله في مجمع مسكوني. فوافق أدريانوس الثاني والتأم في القسطنطينية مئة أسقف (٨٦٩) قطعوا فوطيوس. ويلاحظ هنا أن ممثلي إدريانوس رغبا في اعتبار فوطيوس مقطوعاً بالقرار الذي كان قد صدر عن مجمع رومة، أمـا باسيليوس فإنه أصر على وجوب عرض هذا الأمر نفسه على المجمع الجالس برعايته وأن يصدر الحكم عن هذا المجمع لا عن مجمع رومة فوافق الممثلان الرومانيان على ذلك وأيدهم فيه أدريانوس نفسه. ويلاحظ أيضاً أن هذا المجمع نفسه نظر في القضية البلغارية قبل انفضاضه فأقر خضوع الكنيسة البلغارية لكرسي رومة الجديدة لا القديمة على الرغم من احتجاج الوفد الباباوي. ويلاحظ كذلك أن ممثلي البطريركيات الشرقية الثلاث أيدوا رومة الجديدة في هذا كله لا رومة القديمة9.

وتوفي البطريرك أغناطيوس في خريف السنة ٨٧٧ فلم ير الإمبراطور بداً من إعادة فوطيوس إلى السدة المسكونية ليتابع السياسة نفسها التي كان قد اختطها من قبل. فرومة القديمة أصرت على موقفها من كنيسة بلغارية والتعاقد مع أمراء الغرب في إيطالية لم يأت بالفائدة المنشودة. وفي السنة ٨٧٩ دعا باسيليوس إلى مجمع مسكوني عام لإعادة النظر في قضية فوطيوس. فأوفد البابا يوحنا الثامن من مثله واجتمع في القسطنطينية واحد وثمانون مطراناً ومئتان أسقفاً، فوافق الآباء على براءة فوطيوس مـا نسب إليه وكسروا قرارات المجمع الذي انعقد في السنة ٨٦٩ وتلوا قانون الإيمان كمـا أقره الآباء في المجمعين المسكونيين الأول والثاني أي بدون العبارة «والابن» واعتبروا بابا رومة بطريركاً كسائر البطاركة يتقدم غيره في الكرامة ولكنه لا يتسلط على الكنيسة جمعاء ولا يثبت انتخاب البطريرك المسكوني10. فثار ثائر البابا وأوفد إلى القسطنطينية من احتج على كل ما جاء في أعمال هذا المجمع ضد رومة وطالب بامتيازات في بلغارية. فأوقف باسيليوس الرسول الروماني وأودعه السجن. ووقفت رومة عند هذا الحد. ولم ينشأ أي انشقاق فوطيوسي ثانٍ كما كان يظن سابقاً11.

ودخل الروم في القرن العاشر في عصر ذهبي جديـد. وتولى العرش الإمبراطوري رجال أفذاذ تمكنوا من توطيد السلطة وإحراز النصر فدخلت قيليقية وشمال سورية وأنطاكية في حوزتهم وكذلك قبرص وكريت. ثم بسطوا سلطانهم على شبه جزيرة البلقان. وأصبح الروم أعظم قوة عسكرية بحرية في الشرق والغرب معاً. وفيما هم فاعلون سطا أوتون الألماني على إيطاليا وادعى حق السلطة على جميع أنحائها. وكانت كنيسة رومة قد دخلت في محنة مؤلمة فرقي سدتها في السنة ٩٥٥ يوحنا الثاني وهو لا يزال في الثامنة عشرة فلجأ إلى أوتون الأول وجعل منه في السنة ٩٦٢، إمبراطوراً رومانيا مقدساً، فأثار بذلك سخط نيقوفوروس الإمبراطور الجالس في القسطنطينية ذا الفتوحات العظيمة. ولم يرض أوتون الأول عن سياسة البابا الشاب يوحنا الثاني عشر فأكرهه على الخروج من رومة في السنة ٩٦٣ وأجلس محله لاوون الثامن وجعله يرقى درجات الكهنوت كلها في يومين. وجاء يوحنا الثالث عشر صنيع أوتون يحاول التقريب بين الإمبراطورين فأوفد إلى القسطنطينية من يخطب أميرة شرقية لأمير غربي ابن أوتون وكتب بذلك إلى نيقوفوروس فجعل الإمبراطور الشرقي «إمبراطور اليونان» واحتفظ باللقب «إمبراطور الرومان» لاوتون سيده! فاغتاظ نيقوفوروس ورد الطلب مؤكداً سلطته على جميع إيطالية وحرم بواسطة البطريرك المسكوني استعمال اللاتينية في الكنائس الإيطالية الخاضعة للكرسي القسطنطيني12. وأمسى بابا رومة خصماً سياسياً لا بد من مقاومته، وحدث مثل هذا في عهد الإمبراطور باسيليوس الثاني. فالبابا بندكتوس الثامن (١۰۱۲ - ١٠٢٤) الذي كان مديناً بتبوئه السدة الرومانية لهنريكوس الثاني إمبراطور الغرب أهدى سيده هذا كرة ذهبية يعلوها صليب رمز السلطة العالمية. فأعتبر باسيليوس إقدام البابا على صنع هذه الكرة وتقديمها إلى هنريكوس عملا عدائياً. وشاركه البطريرك المسكوني هذا الشعور.








  1. Andréadès, A., Population de l'Emp. Byz., Bull. Inst. Arch. Bulgare, 1935, 117 ; Baynes Moss, Byzantium, (Econ. Life); Bréhier, L. Civilisation, 81 ff.; Dolger, F., Rom in der Gedankenwelt der Byzantiner Zeit. Kirchengesch.. 1937, 13 ff.
  2. Dolger, F., Die Familie de Konige im Mittelalter, Hist. J b., 1940, 397-420.
  3. Ostrogorsky, G., Byzantine State, 163-164
  4. Schonegger, A., Die Kirchenpolitische Bedeutung des Constitum Constantini, Zeit. Kath. Th.. 1918, 327-371: Buchner, M., Lex. Theol. Kirche, 1934, VI, Caols. 166 168; Leclercq, H., Dict. Arch. Chrét. Lit., III, Cols. 2676 - 2683.
  5. Migne, J. P., Pat. Lat., vol. 130; Villien. A., Dict. Theol. Cath., IV, Cols. 212 222; Naz, R., Dict. Dr. Can., IV, Cols. 1062 1064.
  6. Burn, H. E., Some Spanish Mss. of the Const. Creed, J.T.S., 1908, 301-303 Meester, P., Le Filioque, Rev. Ben., 1907, 86 103; Jugie, A. A., Origine de la Controverse etc., Rev. Sc. Phil. Theol., 1939, 369 385, Kelly, J. N. D., Early Christian Creeds, 1950, 358 - 367.
  7. Epist. Nicolai. 86, 98; Mon. Germ. Hist. VI, 454 ff. 488 ff: Dolger, Reg. 464.
  8. Grummel, Reg. 481.
  9. Ostrogorsky, G., The Byzantine state, (1958), 208; Mansi XVI, Col 16-207.
  10. Vasiliev, A. A., The Byzantine Empire, 330 331 Hergenrother, J., Photius, II, 462, 524.
  11. Dvornik, F., The Photian Schisan, 202 - 236.
  12. Liulprand, Relatio, 47 52: Jaffé Watoenbach, 3727; Vasiliev, A. A., Byzantine Empire, 336.