نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/كنيسة رسمية


كنيسَةٌ رَسْميَّة
الإمبراطور قسطنطين الكبير
الإمبراطور قسطنطين الكبير

وكان ما كان من أمر تقهقر رومـة الداخلي ومن أزمات القرن الثالث التي حلت بها ومن هجمات القبائل البربرية عند الحدود ومطامع دولة الساسانيين الفتية فرأى غلاريوس الإمبراطور أن يكسب عطف المسيحيين وولاءهم فأصدر قبيل وفاته السنة ٣١١ براءة صفح فيها عما سلف للمسيحيين من مخالفات لأوامر الدولة وأقر حقهم الشرعي في ممارسة دينهم. ورأى قسطنطين ما رأى واعتبر وشعر أنه فاز بعطف إله النصارى فشدد في تنفيذ براءة غلاريوس وساوى بين النصارى وبين الوثنيين في الحقوق والواجبات. فأصبحت الكنيسة مؤسسة شرعيـة واضطرت أن تندمج في نظام الدولة وتنسجم معها.

وكان الإمبراطور الوثني يجمع في شخصه السيادتين المدنية والدينية فيحمل بالاضافة إلى ألقابه الرسمية العديدة لقب الحبر الأعظم. فلما أصبحت الكنيسة مؤسسة شرعية أصبح هو بطبيعة الحال رئيسها القانوني. وكان لعطف قسطنطين على الكنيسة وقع عظيم في جميع الأوساط النصرانية فاشتد الحراس له وعظمت الثقة به فهرع أفسابيوس الأسقف المؤرخ إلى تنصير «الحبرية الوثنية العظمى» في الخطبة التي أعدها لمناسبة الاحتفال بمرور ثلاثين سنة على جلوس قسطنطين1. واستعان أفسابيوس فيما يظهر بمخلفات الفيلسوف الهليني ذيوتوغينس فاطلع على مصنفه «الفسليفس»2 وجعل من الحكومة الأرضية صورة للحكومة السماوية وقال بإله واحد في السماء وحاكم واحـد على الأرض وبقانون واحد في السماء
رسم قسطنطين الثاني
رسم قسطنطين الثاني

وقانون واحد على الأرض وجعل من الإمبراطور الروماني نائباً مفوضاً من الله. وثبت إيمان قسطنطين هـذا الرأي ولاسيما إحساسه بالرسالة السماوية التي كان يحملها واهتمامه بأمور الكنيسة وسعيه لتوحيد كلمتها. ومن هنا في الأرجع قول أفسابيوس أن الأمبراطور أمسى أسقف من كان لا يزال خارج الكنيسة. وشاع اجتهاد أفسابيوس وسكت عنه الأساقفة في الشرق وفي الغرب أيضـاً. وظل خلفاء قسطنطين الأباطرة المسيحيون يستعملون اللقب الحبر الأعظم حتى عهـد غرانيانوس (٣٦٧-٣٨٣) فكان هو أول من اعتبره غير لائق بإمبراطور مسيحي فأسقطه من لائحة الألقاب الرسمية في السنة ٣٧٩.

وجاء الإمبراطور ثيودوسيوس (۳۷۹ - ٣٩٥) فأعلن في الثامن والعشرين من شباط سنة ٣٨٠ العقيدة المسيحية عقيدة الدولة. وتبنى الأرثوذكسية في الرأي أي رأي دماسوس الروماني وبطرس الإسكندري. ونعت الآخرين بالهرطقة ولم يسمح لهم أن يدعوا الأبنية التي اجتمعوا فيها كنائس فأصبحت الكنيسة كنيسة رسمية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وظل اجتهاد أفسابيوس سائداً في الشرق والغرب. واستعاض أباطرة القرن الخامس عن اللقب الحبر الأعظم باللقب الحبر المجيد «Pontifex Inclitus». وتلقب به كل من أنسطانيوس ومارقيانوس3. ومن هنا أيضاً دعاء الأساقفة المجتمعين في القسطنطينية في السنة ٤٤٨ للإمبراطور ثيودوسيوس الثاني «سنوات عديدة للأمبراطور «الكاهن الأعظم» التقي الأرثوذكسي». ومن هنا أيضاً هتاف آباء المجمع الخلقيدوني «ليحيى الكاهن الإمبراطور» ومن هنا أيضاً ورود النعت «المقــدس»، خمس عشرة مرة في الرسائل التي وجهها لاوون الأول أسقف رومـة إلى الأباطرة المعاصرين4. ويوستنيانوس هو أول المفرقين بين السلطتين الروحية والزمنية ولكنه اعتبرهما معطاتين من الله. وأوجب التآلف بينها «Symphonia» لسعادة البشر. ويلاحظ هنا أنه ليس في هذا كله أية قيصرية باباوية «Cesaropapisme» بالمعنى السائد في الأوساط اللاهوتية الكاثوليكية الغربية5. فهو ليس سوى أثر من آثار الوثنية الرومانية رضيت عنه كنائس الشرق والغرب في القرون الرابع والخامس والسادس ثم حاولت التحرر منه في الشرق والغرب أيضاً. هذا ما يراه أستاذ بلغراد جورج أوستروغورسكي 6. وهو ما يقول به أيضاً بعض علماء الكنيسة الغربية أمثال الأب فرنسيس دفورنيك7 والأستاذ لويس براهيه8. وبلغت حركة التحرر هـذه أشدها في الشرق في حروب الأيقونات في القرنين الثامن والتاسع. فالآباء القديسون العلماء آنئذ رأوا في هذه الحروب نهضة تحرر من تدخل السلطات الزمنية في شؤون العقيدة ومن ادعاء الإمبراطور لاوون الثالث في ساعة حماس شديد أنه «إمبراطور وكاهن أعظم»9. فقال الدمشقي دفاق الذهب: «نحن نطيع الإمبراطور في الأمور التي تتعلق بحياتنا اليومية في الخضوع له وفي دفع الضرائب وتسديد الحسابات المستحقـة أما في شؤون الكنيسة فلنا رعاتنا وشراح الكلمة ومن يفسر قوانيتنا الكنسية. عليه واجب النجاح في السياسة وعلى الرعاة والوعاظ تنظيم أمور الكنيسة وانتزاع هذه الصلاحية من أيديهم هو في حد ذاته سرقة». وقال ثيودوروس الأستودي: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما الله الله» وطالب باستقلال الكنيسة عن الدولة وحرية انتخاب الأساقفة وتطهير الكراسي من كل راشٍ أو مرتشٍ.

وفي السنة ٨٨٦ بانت الأباناغوغوة أو «المقدمـة» في أربعين فصلاً خلاصة وافية في أيدي القضاة وأساتذة القانون وطلابه. ولعل الفضل الأكبر في إعداد نصوصها يعود إلى البطريرك الفيلسوف فوطيوس، و كان الإمبراطور باسيليوس يهدف من وراء هذا التشريع إلى «إسقاط الإكلوغـة الهدامة» التي ظهرت في عهـد لاوون الثالث. في السنة ٧٢٦ «وإبطال أحكامها الرديئة». فجاءت وظيفة البطريرك في القانون الجديد قائمة بذاتها مستقلة وجاءت مهمته منفصلة عن مهمة الإمبراطور الفسيلفس. فالدولة في الأباناغوغة كالإنسان تتألف من أعضاء كثيرة. وأعظم هذه الأعضاء وأهمها الإمبراطور والبطريرك. فالإمبراطور يؤمن سلماً للنفوس والأجساد وسعادة والبطريرك يقوي التآلف في الإيمان الواحد ويبعد المؤمنين عن الهرطقات والخطيئة ويقودهم إلى التوبة. الإمبراطور يتوخى الإحسان والميرة فإن أخفق أساء إلى الملك الذي توارث عن السلف. أما البطريرك فإنه يهدف إلى خلاص النفوس التي ائتمن عليها إلى العيشة لأجل المسيح وإلى نكران العالم10. هذا ما جاء في الأباناغوغة وهو ما عمل الروم به في الدين والدولة11.

وقد حفظ لاوون الشماس في تاريخه نص خطاب ألقاه الإمبراطور يوحنا جيمسكي (٩٦٩ - ٩٧٦) وقال فيه: «هنالك سلطة واحدة صنعت من العدم نظام العالم المنظور وغير المنظور. وإني أعترف بسلطتين في عالمنا هذا بسلطة الكهنوت والسلطة الإمبراطورية. وقد ائتمن الخالق الواحدة على حفظ النفوس والأخرى على حكم الأجساد وليس لأية منها أن تقصر في القيام بواجبها بل يجب حفظها كاملتين نشيطتين». وقال ميخائيل بسلوس العالم والسياسي ويوحنا أفخينا قولاً مماثلاً في القرن الحادي عشر. فالإمبراطور والبطريرك عند يوحنا مقامان من الله وكلاهما للمسيح وكلاهما ممسوحان من الله12. ومن هنـا تكريس الإمبراطور ومنحه حق التناول من المائدة. ولكنه لم يكن في أي وقت من الأوقات کاهناً أو شماساً أو أسقفاً أو قيصراً وبابا. ولم يشق أساقفة الروم في أي وقت من الأوقات شقاء إخوانهم أساقفة الغرب في تسلم سلطتهم من أمراء زمنيين، والإشارة هنا إلى مشكلة التثبيت التاريخية «Investiture».

ولم يرض البطريرك المسكوني ميخائيل الأول «كيرلاريوس» (١٠٤٣ - ١٠٥٨) باستقلال السلطتين وتألفها وتعاونها بل طمع، فيما يظهر، بأكثر من هذا فاحتذى الأرجواني لون السلطة والسيادة الزمنية فاستحق تأنيب بسلوس: «أنت ديموقراطي في نفسك وتجد صعوبة في تحمل الملكية فلا تسعى للتسلط علينا ولا تلعب دور الإمبراطور لأنك إن فعلت ذلك نبذك معظم الناس. قام في ما مضى من جمع في شخصه بين الكهنوت وحماية الشعب (والإشارة هنا إلى ملكيصادق)13 ولكن اليوم ما كان مفرداً أصبح مزدوجاً. فقد ترتب لنا سلطة إمبراطورية وكهنوت»14. ويذكر سكيليجي «Seyltzes» في حولياته (کدرینوس ٢ : ٦٤٣) أن كيريلاريوس قال إن الفرق بين السلطة المدنية وسلطة الكهنوت كان قليلاً وأن الكهنوت كان أشرف من تلك. ولكن الكرسي البطريركي القسطنطيني لم يتسع في أي وقت من الأوقات إلى بابا من نـوع غريغوريوس السابع. فان كيرولاريوس خلع خلعــاً ولم تقم في القسطنطينية لا قيصرية باباوية ولا باباوية قيصرية كما جرى في رومة القديمة في ما بعد.

وقضت ظروف قسطنطين السياسية والعسكرية ببقائه في الشرق أكثر من الغرب. فالقبائل البربرية التي كانت تهدد حدود الدولة في أوروبة كانت تتأثر كثيراً بحركات القبائل الضاربة في مراعي روسية الجنوبية، والأسرة الساسانية الفنية التي كانت قد أعادت إلى فارس نشاطها وطموحها كانت قد بدأت تطمع في ولايات رومة الشرقية لتطل على البحر الأبيض المتوسط. وكانت هذه الولايات الشرقية قد احتفظت بنشاطها الاقتصادي فكانت تؤدي إلى الخزينة مبالغ عظيمة من المال تفوق بكثير ما كانت تؤديه الولايات الغربية. وكانت ولايات البلقان تقدم أفضل الرجال للجيش. ولمس قسطنطين الكبير هذا كله فرأى أن لا بد من إنشاء عاصمـة جديدة في الشرق تسهل الدفاع عن الدانوب والفرات وتضمن الطمأنينة اللازمة للولايات الشرقية مركز الثقل النوعي للإمبراطورية الرومانية. فأراد في البدء أن يجعـل مسقط رأسه نيش عاصمة لملكه ثم اتجهت أنظاره نحو صوفية وتسالونيكية. ورأى بعد ذلك أن طروادة أحق بالشرف من هذه جميعها لأنها موطن الجبابرة ومسقط رأس الرومانيين الأولين الذين أسسوا رومة. وقام إليها بنفسه وخطط العاصمة الجديدة فيها ولكنه تراءى له في حلم أن الإله بأمره بالتفتيش عن محل آخر فوقع اختياره على بيزنطة.

وكانت بيزنطة مستعمرة يونانية قديمة أسسها أبناء ميغارة في السنة ٦٥٢ قبل الميلاد للاتجار بحبوب روسية الجنوبية ومعادن حوض البحر الأسود ومصايد البوسفور، فدعا قسطنطين عدداً كبيراً من كبار الأغنياء في بلاد اليونان وآسية للإقامة فيها وأغرى آلافاً من رجال الصناعة والتجارة والفن للغرض نفسه ووزع القمح والزيت مجاناً على السكان، ودعا عدداً من شيوخ رومة القديمة ووجهائها للاقامة في رومة الجديدة فكانوا نواة مجلس شيوخها، وأنشأ فيهـا قصراً إمبراطورياً فخماً وأوغوسطايوم وأحاط هذه الساحة العمومية من جميع جوانبها بالمنشآت العامة. وأقام ملعباً كبيراً وميليونا أي نقطة انطلاق لبعـد المسافات في جميع أنحاء العالم الشرقي وكنيسة كبيرة أسماها كنيسة الحكمة المقدسة وهي غير هذه التي تعرف اليوم منذ عهد يوستنيانوس.

وكان الرسل الأطهار قد أقاموا الأساقفة في عواصم الولايات وفي عاصمة الدولة. وكان أساقفة العواصم قد تقدموا على الأساقفة في الولايات التي انتموا إليها. وكان أسقف رومة القديمة قد تقدم على سائر الأساقفة في الإكرام والاحترام كما سبق وأشرنا. وكان ثيودوسيوس الكبير قد جعل في السنة ٣٨٠ من العقيدة المسيحية عقيدة الدولة ومن الكنيسة كنيسة الدولة فلما اجتمع الآباء القديسون في القسطنطينية في السنة ٣٨١ للنظر في شؤون الكنيسة جمعاء في عهد هذا الإمبراطور وبناء على دعوته رأوا من العدل والإنصاف أن يجيء أسقف العاصمة الجديدة بعد أسقف العاصمة القديمة في الإكرام والاحترام. فجاء في قانونهم الثاني أنه «لا للأساقفة أن يتصرفوا في سياسة الكنائس خارج إدارتهم بل حسب القوانين يجب على أسقف الإسكندرية أن يدير أمور مصر فقط وعلى أساقفة الشرق أن يسوسوا المتعلقات الشرقية فقط حفظ التقـدم لكنيسة الأنطاكيين حسب نص القوانين في مجمع نيقية. وأنه يجب على أساقفة الإدارة الآسيوية أن يسوسوا إدارات آسية فقط وأساقفة البونط ما للبونط فقط وأساقفة تراقية شؤون تراقية فقط، وأنه لا يسوغ للأساقفة أن يتصدوا لسيامات خارج إدارتهم أو لإجراء أمور كنائسية أخرى دون أن يدعوا. وأنه يجب أن يحفظ القانون الذي سبق وضعه بخصوص إدارة الأحكام لأنه واضح ـن كل ولاية يدير شؤونها مجمعها وهو يتولى الحكم فيها كما تحدد في مجمع نيقية. أما شؤون كنائس الله الواقعة في الأمم البربرية فيجب أن تساس حسب عادة الآباء الجارية». ويلاحظ هنا هذا التفقيط المتكرر في تحديد رقاع السلطة وهذا السكوت المطبق عن سلطة تفرضها رومة على سائر الكنائس. وجاء في القانون الثالث بعد هذا ما نصه: «أما أسقف القسطنطينية فليكن له تقدم التكريم بعد أسقف رومة لأنها رومة جديدة». وكلمة «بعد» الواردة في متن هذا القانون الثالث لا تدل على تخفيض وتنقيص كما زعم بعض المفسرين بل على ترتيب تاريخي كما سيظهر جلياً من نص القانون الثامن والعشرين من قوانين المجمع الرابع المسكوني.

ويلاحظ هنا أن رومة القديمة لم تعترض على هذا النص ولم تثر ما كان يتحسس به بعض أساقفتها من فرض شيء من الاقتداء بهم والقول بآرائهم على سائر أساقفة الكنيسة. ويلاحظ أيضاً أن الإسكندرية اعترضت على هذا التقدم وأن نزاعاً شديداً نشأ بينهـا وبين القسطنطينية وأن رومة القديمة ساندت رومة الجديدة في موقفها من الإسكندرية. والإشارة هنا إلى سعي بطرس الثاني أسقف الإسكندرية لإيصال مكسيموس الفيلسوف الكلبي إلى الكرسي القسطنطيني وامتعاض الإمبراطور ثيودوسيوس من هذه المناورة الخاسرة ورفضه ذلك رفضاً باتاً وسن القانون المسكوني الثالث الذي إليه أشرنا. وقام ثيوفيلوس الإسكندري بمثل ما قام به سلفه بطرس فأحب أن يوصل إلى كرسي رومة الجديدة صديقه إسيدوروس ولكن إفترابيوس الخصي استقدم الذهبي الفم من أنطاكية. وكان ما كان من أمر المشادة بين ثيوفيلوس وبين الذهبي الفم ومن تأييد رومة القديمة للبطريرك القسطنطيني القديس الذهبي الفم. وهنالك «شيء من هذا» أيضاً في النزاع بين كيرلس الإسكندري ونسطوريوس القسطنطيني الذي أدى الى انعقاد المجمع المسكوني الثالث في أفسس، ومن هنا قول نسطوريوس: «إن كيرلس استدعاني للمثول أمام مجمع دعا هو إليه، ومن كان القاضي سوى كيرلس المشتكي كيرلس الذي كان أيضاً أسقف رومة، وكيرلس كيرلس كان كل شيء». ومن هنا أيضاً قول ثيودوريطس «لقد مات كيرلس فلنضع حجراً ثقيلا على قبره». وتوفي كيرلس في السنة ٤٤٤ فقام ديوسقوروس بعده يتبع السياسة نفسها ويتمادى فيها معتمداً على نفوذ خريسافيوس الخصي معارضاً الإمبراطور وأسقف رومة معاً. ولكن أسقف رومة كان في هذه المرة لاووناً عظيماً. فكتب إلى ديوسقوروس يوجب قولاً واحداً فأجاب هذا أن في الشرق بابا كما في رومة. وقدم مؤرخه القبطي بعد وفاته مرقس على بطرس! 15.

وكان مجمع مسكوني رابع في السنة ٤٥١ في خلقيدونية. فنظر الآباء القديسون في هذا الأمر وفي غيره وحكموا حكماً مبرماً في الجلسة الخامسة عشرة فاشترعوا القانون الثامن والعشرين وأوجبوا تقدم أسقف رومة الجديدة ومنحه المنزلة نفسها التي لأسقف رومـة القديمة. فقالوا: «وبما أننا في كل أمر تابعون تحديدات الآباء القديسين وعارفون بقانون الأساقفة المئة والخمسين الجزيل تورعهم الذين اجتمعوا في عهد التقي الذكر ثيوذوسيوس الكبير الذي صار ملكاً في القسطنطينية رومة الجديدة المتملكة أي القانون الذي تلي منذ برهة وجيزة نحدد نحن أيضاً ذلك التحديد عينه ونصدق عليه في تقدم الكنيسة الجزيلة القداسة كنيسة القسطنطينية عينها رومة الجديدة لأن الآباء منحوا بلياقة لكرسي رومة القديمة التقدم لأنها المدينة المتملكة. وهذا القصد عينه حرك الأساقفة المئة والخمسين الجزيل تورعهم فمنحوا كرسي رومة الجديدة الجزيل القداسة مساواة التقدم إذ رأوا من الصواب أن المدينة التي قد شرفت بالملك والمجلس الأعلى وحصلت على مساواة التقدم (مدنيا) لرومة عاصمة الملك القديمة لها أن تعظم مثل تلك في الأحوال الكنائسية أيضاً وأن تكون ثانية بعدها». ويتبين من هذا أن تقدم أسقف رومة لم يكن في نظر آباء القرن الخامس إلا لكون رومة «متملكة» وهكذا فإنه عندما تملكت القسطنطينية رومة الجديدة أعطي أسقفهـا التقدم نفسه الذي كان قد أعطي لرومة القديمة.

ولم يحضر نواب رومة هـذه الجلسة الخامسة عشرة ولعلهم شعروا بما سيجيء فيها. ولكنهم عادوا في الجلسة السادسة عشرة، وهي الأخيرة، واعترضوا على نص القانون الثامن والعشرين وادعوا أن أناطوليوس أسقف القسطنطينية اغتنم فرصة غيابهم فأتى بما يخالف التعاليم الرسوليـة والأبوية ولا سيما القانون السادس من قوانين مجمع نيقية المسكوني الأول. وأبرز كبيرهم باسكاسينوس القانون السادس النيقاوي على هذا الشكل: «إن كنيسة رومة لها الأولية على الدوام ومن ثم يكون ذلك لمصر أيضاً بأن يكون أسقف الإسكندرية ذا سلطان على الجميع لأن هذا الأمر عادة مرعية لأسقف رومة أيضاً». حينئذ تليت أعمال المجمعين المسكونيين الأول والثاني فتبين فرق في النص بين ما أبرزه باسكاسينوس الروماني وبين النص الأصلي وأن العبارة وأن كنيسة رومة لها الأولية على الدوام غير واردة في الأصل، وسأل القضاة الأساقفة الأعضاء ما إذا كانوا قد أكرهوا على سن هذا القانون فأكدوا أنهم وافقوا طوعاً وأنهم وقعوا بخط أيديهم. فلفظ القضاة ما يلي: «إننا بناء على ما ظهر من الأعمال ومن إقرار كل واحد نرى أن يحفظ قبل كل شيء التقدم والكرامة الممتازة بحسب القوانين لأسقف رومة القديمة الجزيل تورعه ويجب أيضاً أن يتمتع أسقف القسطنطينية المتملكة رومة الجديدة الجزيل بره بالتقدم نفسه في الكرامة».

وأسف الآباء الأعضاء لموقف نواب رومـة فكتبوا إلى حبرها القديس لاوون كتاباً أكدوا فيه محافظتهم على إكرام رومة القديمة قائلين «إنك كنت متقدماً فينا بواسطة نوابك مثل الرأس في الأعضاء» وقالوا أنهم بمنح أسقف القسطنطينية التقدم بعد رومة إنما أثبتوا قانون المجمع المسكوني الثاني وإن «كل ما عملوه بإلهام الله وإنهم لم يمنحوا أحداً شيئاً بغير حق ولا قاوموا أحداً بعداوة» وإنهم أرسلوا إليه أعمال المجمع «ليكون معلوماً عنده ما جرى من صحة الأحكام وثبات الأعمال». ويلاحظ هنا أن الآباء الخلقيدونيين اعتبروا المجمع المسكوني الأداة الوحيدة للحل والربط حيث قالوا: «نحدد نحن أيضاً ذلك التحديد عينـه». ويلاحظ أيضاً أن هؤلاء الآباء لم يروا مبدأ التقدم بين الأساقفة ناشئاً عن رتبة رئيس في الرسل وإنما اعتبروه منحة، من الآباء والكنيسة وأنهم لم يروا سبب هذا التقدم خلافة عن رسول من الرسل وإنما اعتبروه نتيجة طبيعية لتقدم المدن بعضها على بعض. فإنهم قدموا القسطنطينية «لكونها المدينة المتملكة» ورأوا أيضاً أن «تملك» هذه المدينة جعلها مساوية لرومة.

ولم يرض لاوون عن القانون الثامن والعشرين وكتب في ذلك محتجاً معترضاً إلى المجمع وإلى الإمبراطور، ولكن الآباء لم يقبلوا اعتراضه بل ثبتـوا قرارهم السابق. فسكت لاوون ولم يثر ضجة ولم ينقطع عن الشركة معهم لأنه أحب المسيح وأحب كنيسته محبة مسيحية حقيقية لا غش فيهـا. فأكرمه الأباطرة والأساقفة ولقبوه بأول الأساقفة واعتبروه مفسراً أميناً للعقيدة المقدسة. ولا يزال يمجد «مقراً إلهياً لنعمة الله».

وتبنى الأباطرة المسيحيون أعمـال المجامع وأشرنا فاعتبروا قراراتها قانونية شرعية نافذة سارية المفعول. وجاء بوستنيانوس (٥٢٧ - ٥٦٥) يعيد النظر في النظم والقوانين (٥٢٨ - ٥٣٤) فأصدر النوفلتين المئة والثالثـة والعشرين والمئة والحادية والثلاثين فاعتبر فيها الكنيسة الجامعة مؤلفة من خمس بطريركيات لا سادسة لها: رومة القديمة ورومة الجديدة والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم. وشملت سلطة بطريرك رومة القديمة كل الغرب وذيقوسية اليرية الشرقية. وشملت بطريركية رومة الجديدة ذيقوسيات تراقية وآسية والبونط. وخضعت مصر وصعيدها وليبية والقيروان لبطريرك الإسكندرية. واعتبر بطريرك أنطاكية متسلطاً على ذيقوسية الشرق ما عدا فلسطين الأولى والثانية والثالثة. وتبعت هذه الفلسطينيات بطريرك أوروشليم. وهذه هي المرة الأولى التي ورد فيها لقب بطريرك في معاملات رسمية. وقدم يوستنيانوس بطريرك رومة القديمة على سائر البطاركة واعتبره رأس الكنائس كلها. وجعل بطريرك رومة الجديدة الثاني بعده. ولكنه أصر في السنة ٥٥٣، لمناسبة انعقاد المجمع المسكوني الخامس، على وجوب المساواة بين البطريركيات الخمس بإرسال عدد مماثل من الأساقفة من كل منها16.

وفي السنة ٦٨٠ عقد في القسطنطينية المجمع المسكوني السادس للنظر في بدعة المشيئة الواحدة بدعوة من الإمبراطور قسطنطين الرابع وبرئاسة البطريرك القسطنطيني جاورجيوس. فقدم نواب البابا الدعوى كما في المجمع المسكوني الرابع الخلقيدوني ولكنهم لم يقولوا مثل سلفائهم: «إنـا مأمورون من أسقف مدينة الرومانيين الرسولي الجزيل الغبطة الذي هو رأس جميع الكنائس، بل وجهوا خطابهم إلى الإمبراطور وقالوا: «أيها السيد الكلي الخير. إننـا بحسب المرسوم الصادر من دولتكم المحكمة من الله إلى بابانا الجزيلي القداسة قد أرسلنا من طرفه إلى المواطىء الكلية التقوى مواطىء حلمكم المؤيد من الله ومعنا معروض منه ومعروض آخر مجمعي من الأساقفة الجزيل برهم الخاضعين له تقواهم المحصَّن من الله». ومما جاء في البيذاليون أن الإمبراطور حرر إلى البابا لاوون الثاني يقول: «إننا نجتهد في أن نأتي برعيتنا المسيحية إلى السلام والانضمام ونهـتم في انتظام كنائس الله المقدسة. وبحسب دعوتنا وأمرنا قد اجتمع الذين من طرف غبطتكم والبطاركة الجزيلو القداسة الذين بعدكم المساوون لكم في الكرسي وسائر الأساقفة الجزيل برهم وجالسوا حلمنا المحب التقوى وكنا نتذاكر في موضوع الإيمان».

وعاد الآباء في السنة ٦٩٢ إلى الاجتماع في قاعة القبة «طرولوس» في القسطنطينية لسن القوانين لأن المجمعين الخامس والسادس لم يعنيا بذلك. فدعي هذا المجمع «مجمع البنثيكني» أي الخامس السادس. فقالوا في القانون السادس والثلاثين: «إننا نجدد ما اشترع من الآباء القديسين المئة والخمسين الذين اجتمعوا في هذه المدينة المتملكة المحروسة من الله ومن الآباء الست مئة والثلاثين الذين اجتمعوا في خلقيدونية فنرسم أن يكون لكرسي القسطنطينية التقدم أسوة بتقدم كرسي رومة القديمة فيعظم مثله في الأمور الكنائسية بكونه ثانياً بعده. ويحسب كرسي المدينة العظيمة الإسكندرية بعدهما. وبعده كرسي أنطاكية. وبعد هـذا كرسي مدينة الأوروشليميين».

وهنالك قول رسمي آخر كان له اثره في علاقات الكنائس الشرقية بالغربية هو القول بوحدانية الإمبراطورية. فالإمبراطورية الرومانية نشأت مجموعة من الشعوب والبلدان لا دولة موحدة. وشعر كبار الأباطرة بهذا النقص فحاولوا تلافيه منذ عهد أوغوسطوس. وكان ديوقليتيانوس أشدهم عناية بهذا الأمر، فوحد الدولة ونظمها حول شخص الإمبراطور وأصر على تكريمـه إلى درجة السجود. وقال قسطنطين هذا القول نفسه. وأصدر فيما أصدر لهذه الغاية براءة ميلان17. ثم تنصرت الدولة فأصبح الملك لله وحده كما سبق وأشرنا وأصبح الامبراطور ممثل الواحد الأوحد في شؤون الدنيا. وشملت سلطته المسكونة «Qikoumene» بأسرها. فأصبح للدولة عاصمتان رومـة القديمة ورومة الجديدة فنشأ اللقب «المسكوني» واستعمل في القرن الخامس لتعظيم كل من أسقف رومة لاوون الأول وزميله الإسكندري ديوسقوروس. ولعل أوليمبوس أسقف أفازة هو أول من استعمل هذا اللقب فخصّ بـه ديوسقوروس في مجمع التلصص في أفسس سنة ٤٤٩. وحـذا حذو أوليمبوس الشماس الإسكندري ثيودوروس حين خاطب لاوون أسقف رومة لمناسبة المجمع الخلقيدوني سنة ٤٥١. وجاء مثل هذا أيضاً في الرسالة التي وجهها رؤساء الأديار في القسطنطينية إلى البابا أغابيتوس في السنة ٥٣٥18. وأعلن الإمبراطور زينون کتابـه الإينوتيكون فأيده فيه أكاكيوس بطريرك القسطنطينية (٤٧٢ - ٤٨٨). واعترض سمبليكيوس بابا رومة فحل الشقاق بين الحبرين فاتخذ بطريرك القسطنطينية لقب البطريرك المسكوني وتبعه في ذلك خلفاؤه. وفي السنة ٥١٨ وجهت الأوساط الإكليريكية الأنطاكية رسالة إلى البطريرك القسطنطيني يوحنا الثاني (٥١٨ – ٥٢٠) فاعتبرته بطريركاً مسكونياً. وكتب هـذا البطريرك إلى زميله الأوروشليمي ووقع متخذاً اللقب البطريرك المسكوني 19.

وجاء يوستنيانوس بقوانينه وشرائعـه فاعتبر كل بطريرك قسطنطيني بطريركاً مسكونياً، وأشار إلى أسقف رومة بما يجوز تعريبه هكذا: «صاحب القداسة رئيس أساقفة المدينة الأولى رومة وبطريركها»20. وفي أعمـال المجمع المسكوني الخامس ما يؤيد هذا كله. فالإشارة إلى أسقف القسطنطينية جاءت مقرونة باللقب البطريرك المسكوني21. وعلمت رومـة بهذا كله في حينه ولم تعترض. ثم نشبت مشادة بين غريغوريوس الأول البطريرك الأنطاكي وبـين إستيريوس والي الشرق بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية في الولاية نفسها. فعقد مجمع مكاني بسبب هذه المشادة في القسطنطينية في السنة ٥٨٧ وترأس جلساته يوحنا الصوام بطريرك القسطنطينية وخرج غريغوريوس نقي الثوب بريئاً. ولكن بيلاجيوس الثاني بابا رومـة اعترض على عقد المجمع بدون علمه وعلى اللقب البطريرك المسكوني الذي ورد في أعمال هذا المجمع مقروناً باسم بطريرك القسطنطينية. وشدد بيلاجيوس على وكيله في القسطنطينية ألا يشترك مـع يوحنا ما دام متمسكاً بهذا اللقب. فلم يكترث الصوَّام لهذا كله فاكتفى بيلاجيوس بأن شكا أمره إلى زميليه البطريرك الأنطاكي والبطريرك الإسكندري معترفاً بعمله هذا بحق هذين البطريركين في التدخل لحل المشكلة التي نشأت بين رومة القديمة ورومة الجديدة. وهو عرف لا تزال الكنائس الشرقية تعمل به عند اشتداد الأزمات.

ثم خلف بيلاجيوس غريغوريوس الكبير (٥٩٠ - ٦٠٤) فرأى في إقدام زملائه القسطنطينيين على التلقب بالمسكوني خطراً يهدد وحدة الكنيسة فكتب إلى يوحنا في السنة ٥٩٥ يرجوه المحافظة على «التواضع» الذي يحفظ اتفاق جميع

«الإخوة» ووحدة الكنيسة. فلم يعبأ الصوام بذلك وتوفي بعد ذلك بقليل (٥٩٥). ويلاحظ هنا أن الصوام وغريغوريوس اشتهرا بالورع والتقوى وأنهما اعتبرا فيما بعد قديسين في فرعي الكنيسة الواحدة الشرقي والغربي. ولا يجوز والحالة هــذه الشك في نزاهتها وإخلاصها وتواضعها. ولكن يلاحظ أيضاً أن كلاً من القديسين اعتبر نفسه محقاً فيها فعل. فطالب أسقف رومة القديمة بتقدم مرفوق بسلطة فرفض أسقف رومة الجديدة الاعتراف بهذه السلطة22. وتوفي الصوام متميزاً بالصوم والتقوى محرزاً «بالتواضع رفعة وبالمسكنة غني» فجاء بعده كرياكوس فكتب رسائل السلام إلى الكنائس وفي طليعتها كنيسة رومة القديمة فأجابه غريغوريوس مهنئاً ثم كتب له أن يترك لقب البطريرك المسكوني وكتب إلى وكيله سبنيانوس ألا يخدم القداس معه ما لم يترك اللقب. فكتب أنسطاسيوس البطريرك الأنطاكي إلى غريغوريوس ألا يفسح المجال للشر وأن يعود إلى اللطف والملاينة23.

 
* * *






  1. Eusebius, Triakontaeterikos, ed. Heikel; Baynes, N. II., Ensebius and the Christian Empire (Mélanges Bidez), 1933, 13 - 18.
  2. Diotogenes, Peri Basileias; Delalle, L., Les Traitées de la Royauté d'Ecphante, Diologene et Sthenidas, 1942.
  3. Batiffol, P. Bull. Soc. Nat. Ant. de France, 1926, 222 - 227.
  4. Kissling, W. K., Das Verhaltnis zwichen Sacerdotium und Imperium, 91.
  5. Jugie, M., Schisme Oriental, 3 - 10.
  6. Ostrogorski, G., Les Relations entre Eglise et Etat à Byzance, Seminarium Kondakovianum, 122 - 134.
  7. Dvornik, F., Emperors, Papes, and General Councils, Dumbarton Oaks, 1951. 4 - 23.
  8. Bréhier, L., Institutions. 444, 461 f.
  9. Mansi, XII, Col. 975.
  10. Zepos, J. et P., Jus Graecopomanum, II, 240 ff.
  11. Ostrogorsky, G., The Byzantine State 213, n, 2.
  12. Brehier, L., Le Schisme Oriental, 75, 275; P.G., Vol. 120 Cols. 1163, 1183.
  13. Kissling. W. K., op. cit., 140. n. 4.
  14. Salhas, K. N., Mesaionike Bibliotheke, V, 512.
  15. Baynes, N. H., Alexandria and Constantinople, Byz, Studies, 97 - 115.
  16. Brehier, L., Concile de Const., Fliche et Martin, IV, 471-472.
  17. Jalland, T. G. The Charch and the Papag, (1944); Congar. Y. Neuf Cents Ans, 13 - 14.
  18. Mansi, VI, Cols, 855, 1005, VII, 895.
  19. Mansi, VIII, Cols. 1038, 1066 - 1067.
  20. Code I, 1.
  21. Gelzer, H., Der Streit Uber den Titel des Aikumenischen Patriarchats, lahrbucher für Prot. Theologie, XIII, 49 ff.
  22. Jaffé - Wattenbach, 1352, 1357, 1360 Bréhier, L., Rome et Const., Fliche et Martin, V, 64 - 65.
  23. Jaffé Wattenbach, 1470.