نزهة الفتيان في تراجم بعض الشجعان/عبد الله بن الزبير



بعض الشجعان من أولاد الصحابة والتابعين

عبد الله بن الزبير بن العوام

أبو خُبيب القرشي الأسدي أمه أسماء بنت أبي بكر، ولد عام الهجرة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وعمره سبع سنين، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم مرة فأعطاه الدم، وقال له: «أهرقه حيث لا يراك أحد»، فلما خرج من البيت شربه، فلما رجع قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما صنعت بالدم»؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلك شربته»؟ قال: نعم، «ويل للناس منك، وويل لك من الناس، لا تمسك النار إلا تحلة القسم»، أخرجه أبو يعلى في «مسنده»، والبيهقي في «الدلائل».

قال أبو عاصم: فكانوا يرون أن القوة التي كانت به من ذلك الدم.

كان رضي الله عنه أحد الشجعان المعدودين، وأحد الفاتحين حضر وقعة اليرموك مع أبيه الزبير، وحضر فتح أفريقية مع عبد الله بن أبي سَرْح أميرًا على الجيش، ففتحوا طرابلس، وتقدموا نحو تونس فحشد لهم جرجير ملك أفريقيا جمعًا عظيمًا وصمد لهم في مائة ألف، وكان المسلمون في عدد قليل فاستشار ابنُ أبي سرح عبد الله بن الزبير فأشار عليه بأن ينتخب عددًا من الشجعان ويتركهم ناحية ويقاتل العدو بباقي الجيش حتى إذا اشتد القتال واختلطت الأبطال حمل أولئك الشجعان الجالسون على جيش جرجير من ورائه حتى يخالطوا فُسطاطه فأرجو من الله النصر فقبل ابن أبي سرح مشورته وقال له: كن أنت الأمير على أولئك المنتخبين، فقال: نعم، فلما اشتد القتال حمل ابن الزبير بأصحابه حتى وصل فسطاط الملك جرجير فقتله وأخذ ابنته سبية وقتل أكثر جيشه، وفرَّ الباقون فكتب ابن أبي سرح بالفتح والبشارة إلى عثمان، وأرسل ابن الزبير بشيرًا بذلك، وقاتل عن عثمان لما حُوصر، وحضر وقعة الجمل مع عائشة، وكان البشير الذي بشرها بأنه لم يمت عشرة آلاف، ثم اعتزل حروب علي ومعاوية، فلما بويع معاوية بالخلافة سنة أربعين بايعه ابن الزبير، فلما أراد أن يبايع لابنه يزيد؛ امتنع من ذلك ابن الزبير، فلما مات معاوية لحق بمكة، وتعوَّذ بالحرم، فأرسل يزيد جيشًا للحجاز من أهل الشام، فكانت وقعة الحرَّة على أهل المدينة، وفتك فيها أهل الشام فتكًا ذريًعا، ثم ذهبوا إلى ابن الزبر بمكة فحاصروه بها مدة، ورموا الكعبة بالمنجنيق، ثم جاءهم الخبر بوفاة يزيد بن معاوية، فصالحوا ابن الزبير وذهبوا إلى بلادهم بعد أن راودوه على الذهاب معهم ليبايعوه بالخلافة فأبى عليهم، وبايعه جميع الأمصار بالخلافة بعد موت يزيد إلا أهل الأردن؛ فإنهم بايعوا مروان بن الحكم، ثم غلب مروان على بقية الشام، ثم على مصر، وبقي تحت أمر ابن الزبير الحجاز واليمن والعراق ثم مات مروان، وتولى ولده عبد الملك فغلب على العراق، وقتل مصعَب بن الزبير، ثم جهز الحجاجَ في جيش إلى ابن الزبير فحاصره بمكة، ونصبوا المجانيق على أبي قُبَيس وقعيقعان يرمون بها أهل مكة فقاتل الشاميين قتالًا شديدًا حتى تفرق عنه أصحابه، وأخذوا الأمان فبقى وحيدًا مدة، ودخل المسجد وجلس يصلي يومًا فرمى أهل الشام الكعبة بالمنجنيق وهم يقولون:

خطارة مثل الفَنِيقِ الُمزْبد
يرمي بها عْوَّاذَ أهل المسجد

فلما رأى ذلك ابن الزبير خرج إليهم بسيفه وقاتلهم قتالًا شديدًا حتى جفَلوا من قدَّامه مثل النعام، فناداه الحجاج: ويلك يا ابن الزبير، اقبل الأمان، وادخل في طاعة أمير المؤمنين؛ يعني: عبد الملك، فرجع ودخل على أمه أسماء بنت أبي بكر وكانت إذ ذاك عمياء عمرها مائة سنة، فقال لها: ما تأمريني به؛ فإن القوم قد أعطوني الأمان؟ قالت: أرى أن تموت كريمًا ولا تتبع فاسقًا لئيمًا، وأن يكون آخر نهارك أكرم من أوله، قال: أخشى أن يمثلوا بي بعد الموت، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يضره السلخ فقبَّل رأسها وودعها، وضمته إلى نفسها، فخرج من عندها، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؛ إن الموت قد تغشاكم سحابه، وأحدق بكم ربابه، واجتمع بعد تفرق، وأرجحنَّ بعد تمش ورجس نحوكم رعده وهو مفرغ عليكم ودقه، وقاد إليكم البلايا تتبعها المنايا، فاجعلوا السيوف لها غرضًا، واستعينوا عليها بالصبر، ثم اقتحم يقاتل، وهو يقول:

قد سن أصحابك ضرب الأعناق
وقامت الحرب لها على ساق

وحمل يقاتل وحده حتى أخرجهم من المسجد، وخاض في وسطهم إلى أن بلغ الحجون، وكلما اجتمعوا عليه فرقهم وذادهم حتى أثخن بالجراحات، وجاءه حجر من المنجنيق فأصابه في جبهته فسقط، فبادر إليه أهل الشام فقطعوا رأسه، وكان حين يحتمل عليهم فيهزمهم، يقول: يا له فتحًا لو كان معي رجال، أو كان أخي مصعب حيًّا، وكانت وفاته سنة ثلاثة وسبعين من الهجرة، وبويع بالخلافة سنة أربع وستين، وكان  الإمام مالك رضي الله عنه يقول: ابن الزبير أحق بالخلافة من مروان وابنه، والعلماء قاطبة على أنهما باغيان على ابن الزبير.