نزهة المشتاق في اختراق الآفاق/الإقليم الثاني/الجزء الرابع


إن هذا الجزء الرابع من الإقليم الثاني تضمن بقية من أرض الواحات الخارجة بما اتصل بها في جنوبها من أرض التاجوين وأكثر بلاد الجفار والبحرين راجعاً أرض سنترية التي عرضنا بذكرها قبل هذا وذاهباً في مساكن بني هلال نازلاً مع الجبل المسمى جبل جالوت البربري وإنما سمي به لأن جالوت هزم عسكره به ولجأ هو وجملة من خيله إلى هذا الجبل فسمي بذلك إلى الآن وفي الشرق من هذا الجبل جملة من بلاد مصر على ضفة النيل النازل إليها من أعلى بلاد النوبة وسنذكر هذه البلاد عند وصفنا لها بلداً بلداً وقطراً قطراً مع ذكر ما يليق بها من الأخبار الكائنة بها بعون الله وما خلف النيل من العمارات المتصلة من أرض مصر إلى نواحي أهريت وشرونة وبياض التي تلي منازل بلي وجهينة وصفارة إلى أقصى الصعيد مع اتصاله بالعلاقي وأيضاً ما يلي أسفل الجزء من منازل التيم والنجوم والقبط.

فنقول إن أعلى هذا الجزء من ناحية المغرب حيث بقية أرض التاجوين كله خلاء صحار متصلة وإن كانت المياه بها كثيرة والغدر موجودة فليس بما ساكن لأن بها رمالاً سائلة تنقلها الرياح من مكان إلى مكان وليس لأحد بها مستقر لاعتداء الرمال عليها وكثرة جري الرياح بها وكذلك يتصل هذا الرمل بأعلى أرض الواحات فيعدو عليها ويغير ما فيها من الآثار وتتصل هذه الرمال بالغرب إلى أرض سجلماسة إلى البحر.

وبلاد الواحات الخارجة الآن صحراء لا أنيس بها بلقع لا عامر لها والمياه بها موجودة وكانت على القدم معمورة متصلة الثمار والعمارات وكان فيما سبق من الزمان الدخول عليها ومنها إلى مدينة غانة في طرق مسلوكة ومناهل معروفة لكنها انقطت ودرست وبالواح الخارجة أغنام وبقر متوحشة كما قدمنا ذكره فيما سبق وبين الواحات وحد النوبة مسير ثلاثة أيام في مفاوز غير عامرة وفي أرض الواحات الخارجة جبل علساى المعترض بها وهو جبل سامي الذروة عالي القمة متساو عرضه أسفل وفوق وفيه معدن يستخرج منه حجر اللازورد ويحمل إلى أرض مصر فيصنع بها ويصرف وفي أرض الواحات يكون الثعبان ولا يكون البتة في غيرها من الأرضين والثعبان على ما يحكيه أهل تلك النواحي يرى كالتل الكبير يلتقم العجل والكبش والإنسان وهو حيوان على صورة الحية ينساب على بطنه وله أذنان بارزتان وأنياب وأسنان وحركته بطيئة ويأوي إلى الكهوف والدهاس فمن قصده أو اعترضه بمساءة التقمه وأمضى عليه ولا يخرج عن هذه الأرض إلا ويموت وهذا مشهور الذكر شائع الخبر.

وأما الواحات الداخلة فإن بها قوماً من البربر وعرباً متحضرين يرعون هناك حيث المياه النيلج كثيراً والنيلج المعروف بها يفوق كثيراً من النيلج في الطيب والجودة وإليها ينسب النيلج اللواحي وهو بها معروف وتنتج بهذه الأرض مع ما اتصل بها من أعلى أرض أسوان حمير صغار المقادير في مقدار الكباش ملمعة بسواد في بياض لا تحمل الركوب عليها وإذا أخرجت عن أرضها هلكت لا محالة وبأعلى صعيد مصر حمير ليست بكثيرة اللحم لكنها في غاية من السير وسرعة المشي وبرمال الواحات وما اتصل بها من أرض الجفار حبات كثيرة تستتر في الرمل فإذا مرت بها الجمال ثارت من الرمل ورمت بأنفسها حتى تقع في المحامل فتنهش هناك من وافقته فيموت في الحال وأيضاً إن أرض الجفار بأسفل الواحات وهي أرض خالية قفرة وكانت فيما سلف من الزمان متصلة العمارات كثيرة البركات مشهورة بالخيرات وكان أكثر زراعة أهلها الزعفران والعصفر والنيلج وقصب السكر وأما الآن فإن بها مدينتين معمورتين اسم إحداهما الجفار والثانية البحرين وهما قريتان كالحصنين قد أحدقت النخل بهما من كل النواحي وماؤهما غزير عذب ومن البحرين إلى الجفار يومان ومن الجفار إلى الواح ثلاثة أيام لا ماء فيها والواح هذه المذكورة الآن في وقتنا هذا قرى كثيرة صغار وفيها ناس أخلاط يزرعون النيلج وقصب السكر وهي في ضفة الجبل الكبير الحاجز بين أرض مصر والصحارى المتصلة بأرض السودان.

ومن البحرين إلى مدينة سنترية أربع مراحل ومدينة سنترية صغيرة وبها منبر وقوم من البربر وأخلاط من العرب المتحضرة وهي على أول الصحراء ومنها إلى البحر الشامي في جهة الشمال تسع مراحل وهناك تكون لكة الساحلية وشرب أهل سنترية من آبار وعيون قليلة وبها نخل كثير ومنها إلى جبل قلمرى أربعة أيام وفي هذا الجبل معدن حديد جيد ومن سنترية يسير من أراد الدخول إلى أرض كوار وسائر بلاد السودان وكذلك من سنترية إلى أوجلة مغرباً عشرة أيام وفي هذه الناحية جبل بريم الأحمر ويقال إن مسلتي الإسكندرية نحتتا منه.

وأما مدينة القيس التي على ضفة النيل وبغربيه فهي مدينة قديمة حسنة البناء جميلة الجهات فيها قصب السكر الكثير وأنواع التمور والخيرات الكثيرة وبينها وبين دهروط في جهة الشمال مخوض ثمانية عشر ميلاً.

ومن مدينة القيس إلى منية ابن الخصيب مقدار نصف يوم وهي قرية عامرة حولها جنات وأراض متصلة العمارات وقصب وأعناب كثيرة ومتنزهات ومبان حسان وهي في الضفة الشرقية من النيل.

ومن منية ابن الخصيب إلى مدينة الأشمونى مسافة نصف يوم أو أكثر قليلاً وهي مدينة صغيرة حسنة عامرة بها جنات وبساتين ونخيل وزروع وضروب من الحبوب والفواكه والنعم السابغة ويعمل بها ثياب معروفة كثيرة.

وأمامها من شمال النيل بوصير وهي مدينة صغيرة القدر والعمارات بها متصلة وفيما يحكى أن أكثر سحرة فرعون كانوا من هذه المدينة وبها الآن بقية من طلاب السحر.

ومن بوصير إلى أنصنا بشرقي النيل ستة أيام وهي مدينة قديمة البناء حسنة البساتين والمتنزهات كثيرة الثمار غزيرة الخصب والفواكه وهي المدينة المشهورة بمدينة السحرة ومنها جلبهم فرعون في يوم الموعد للقاء موسى النبي عليه السلام.

وهناك بلاد صغار يكون بينها وبين النيل ميلان وأكثر وأقل ومنها النجاشية وهي قرية عامرة جامعة كثيرة الخصب والثمار ومنها مما يقابلها في الغربي من النيل بلد يسمى منساوة لها نخل وزروع وضرع وبساتين وجنات.

ومنها مدينة طحا وهي أسفل من مدينة الأشمونى وهي مدينة مشهورة يعمل بها وفي طرزها ستور صوف وأكسية صوف منسوب إليها ويقال إن التمساح يضر في عدوة الأشمونى ولا يضر بعدوة أنصنا ويقال إنها مطلسمة.

ومن مدينة أنصنا المتقدم ذكرها إلى بلد صغير يسمى المراغة به نخل وقصب سكر وزراعات وجمل بساتين وبينهما نحو من خمسة أميال والمراغة بغربي النيل.

ومنها إلى مدينة تزمنت نحو من خمسة أميال وهي بغربي النيل كثيرة البساتين والجنات متصلة العمارات.

ومنها إلى قرية صول نحو من يوم وهي قرية كبيرة بها أسواق وجماعات من الناس ونخيل وثمار ومنافع وهذه القرية على فم الخليج المسمى بخليج المنهى وهو الخليج الذي يتصل بشرقي أرض الواحات ويصرف في سقي كثير من الأرضين هناك ومن هذا الخليج احتفرت خلجان الفيوم وسنأتي بذكر ذلك في موضعه بحول الله وقوته.

ومن مدينة صول إلى أخميم يوم ومدينة أخميم في شرقي النيل وتبعد.

وفي الضفة الغربية من النيل وفوق فم خليج المنهى مدينة تسمى زماخر وهي مدينة حسنة البناء كثيرة البساتين غزيرة المياه تحتوي على ضروب من الفواكه وجمل من أنواع الحبوب وهي في ذاتها جميلة حسنة.

ومنها مع ضفة غربي النيل إلى جبل الطيلمون مقدار خمسة أميال وهذا الجبل يأتي من جهة المغرب بتأريب فيعترض مجرى النيل والماء ينصب إليه بقوة جري ويخرج عنه بقهر وانضغاط يمنع المراكب الصاعدة من مصر إلى أسوان وغيرها لأن صب النيل وقوة جريه هناك يمنع الصعود في وجهه ويذكر أهل زماخر أن بأعلى هذا الجبل كانت دهية الساحرة ساكنة في قصر لم يبق منه الآن إلا رسم محال ويشيعون من أمرها أنها كانت تتكلم على المراكب فلا تقدر على الجواز علها البتة مع عون قوة جري الماء وانصبابه وانزعاج قوته عند الجبل وهذا المكان من النيل إلى الآن صعب المجاز جداً وهو معروف.

ومن هذا الجبل إلى جبل تانسف نحو مرحلتين وهذا الجبل المسمى تانسف في جانبه حافة ملساء فيها شق صغير ضيق يجتمع إليه في يوم من السنة جمل من الطير المسمى بوقير وهو طير ملون من طيور الماء فيأتي كل طائر منها فيدخل رأسه في ذلك الشق من الجبل ويخرجه ويمضي طائراً على حاله إلى أن ينطبق ذلك الشق على رأس أحدها فيبق مضطرباً حتى يموت ويتساقط ريشه وتطير الباقي من الطير فلا تعود إلا لمثل ذلك اليوم من السنة وهذا مشهور معلوم في ديار مصر وقد أثبت ذلك في كثير من الكتب.

ومن جبل الطيلمون المتقدم ذكره إلى مدينة أسيوط وهي على الضفة الغربية من النيل مجرى يوم ومدينة أسيوط مدينة كبيرة عامرة آهلة جامعة لضروب المحاسن كثيرة الجنات والبساتين مدخرة لضروب الحبوب واسعة الأرضين جميلة حسنة.

ومن مدينة أسيوط إلى أخميم صاعداً مع النيل نصف مجرى ومن مدينة أخميم إلى مدينة قفط مجرى نصف يوم بالقلاع ومدينة قفط متباعدة عن ضفة النيل من الجهة الشرقية وأهلها شيعة وهي مدينة جامعة متحضرة بها أخلاط من الناس وفيها بعض بقايا من الروم وبها مزارع كثيرة للبقول مثل اللفت والخس وذلك لأنهم يجمعون بذورها ويطحنونها ويستخرجون أدهانها ويصنعون منها أنواعاً من الصابون يتصرفون به في جميع أرض مصر ومنها يتجهز به إلى كل الجهات وصابونها معروف النظافة.

ومنها إلى مدينة قوص بالجهة الشرقية من النيل سبعة أميال ومدينة قوص مدينة كبيرة بها منبر وأسواق جامعة وتجارات ودخل وخرج والمسافر إليها كثير والبضاعات بها نافقة والمكاسب رابحة والبركات ظاهرة وشرب أهلها من ماء النيل ولها بقول طيبة وضروب من الحبوب كثيرة ممكنة ولحوم سدفة حسنة المنظر طيبة المأكل ولكثرة نعمها كان هواؤها وبائياً وأهلها مصفرة ألوانهم وقليلاً ما دخلها غريب وسلم من المرض إلا نادراً.

ومن مدينة قوص إلى دماميل بشرقي اليل نحو من سبعة أميال ومدينة دماميل محدثة حسنة البناء طيبة الهواء كثيرة الزراعات ممكنة الحنطة وسائر الحبوب وأهلها أخلاط والغالب عليهم أهل المغرب والغريب عندهم مكرم محفوظ مرعى الجانب وفي أهلها مواساة بالجملة.

ومنها إلى قرية قمولة خمسة أميال وهي كالمدينة جامعة متحضرة مكتنفة لكل نعمة وفضيلة وأخبر بعض الثقات في هذا العصر فقال رأيت بها أنواعاً من الفواكه وضروباً من الثمر من جملتها عنب ما توهمت أن على الأرض مثله طيباً وحسناً وكبراً حتى إنه دعتني نفسي إلى أن وزنت منه حبه فوجدت في زنتها اثني عشر درهماً وفي هذه القرية من الدلاع وأنواع الموز ما يجل عن المقدار المعهود وكذلك من الرمان والسفرجل والإجاص وسائر الفواكة ما لا يكون إلا بمثلها وكل شيء من ذلك كثير يباع بأيسر الأثمان.

وبشمال هذه القرية جبل يمر من الجنوب إلى الشمال إلى أن يقارب مدينة أسيوط وهذا الجبل يقال له بران يقال إن فيه كنوز ولد أشمون بن مصرايم وفيه مطالب وطلاب إلى الآن.

ومن هذه القرية إلى مدينة إسنا بغربي النيل مجرى يوم وهي من المدن القديمة من بناء القبط الأول وبها مزارع وبساتين حسنة وبما رخاء شامل وأمن وادع وبها أعناب كثيرة ولكثرته هناك يعمل منه زبيب كثير ويحمل إلى جميع أرض مصر فيعمها وهو بالغ في الطيب وجودة الحلاوة وبها بقايا بنيان للقبط وآثار عجيبة.

ومنها إلى أرمنت في الضفة الشرقية مجرى يوم وهي مدينة من بناء القبط حسنة وبها نخيل وثمر تحمل أنواعاً من الثمر المعلومة المحمودة القليل الوجود مثلها في كثير من الأقطار طيباً وحسناً ومن مدينة أرمنت إلى مدينة أسوان مجرى يوم في النيل وقد ذكرنا مدينة أسوان فيما صدر من ذكر الإقليم الأول في موضعه من الكتاب.

ولنرجع الآن إلى ذكر الخليج الخارج من معظم النيل كما قدمنا القول فيه بعون الله فنقول إن هذا الخليج يخرج إلى جهة المغرب عند مدينة صول ويسمى هناك المنهى فيمر جارياً نحو المغرب فيصل إلى مدينة البهنسا على أربع مراحل وهي بالجهة الغربية من هذا الخليج وهي مدينة عامرة بالناس جامعة لأمم شتى ومن هذه المدينة إلى مصر سبعة أيام كبار وبهذه المدينة كانت وإلى الآن طرز ينسج بها للخاصة الستور المعروفة بالبهنسية والمقاطع السلطانية والمضارب الكبار والثياب المتخيرة وبها طرز كثيرة للعامة يقيم بها التجار الستور الثمينة طول الستر منها ثلاثون ذراعاً وأزيد وأنقص مما قيمة الزوج منها مائتا مثقال وأكثر من ذلك وأقل ولا يصنع من شيء من الستور والأكسية وسائر الثياب المتخذة من الصوف والقطن إلا وفي اسم الطرز المتخذة بها كانت من طرز الخاصة أو من طرز العامة سمة مكتوبة فعلها الجيل المتقدم وتبعهم على ذلك من خلفهم من الصناع إلى حين وقتنا هذا وهذه الستور والفرش والأكسية مشهورة في جميع الأرض.

وينزل هذا الخليج مع الشمال إلى مدينة اهناس وذلك مرحلتان وهي مدينة صغيرة متحضرة كثيرة الأهل واسعة الخيرات جامعة لبركات نامية الزراعات وكل شيء من المأكول بها كثير رخيص ومتاجرها نافقة وأسواقها مربحة.

ومنها إلى اللاهون مرحلتان.

ومنها إلى مدينة دلاص وهي في الضفة الشرقية من معظم النيل وعلى بعد ميلين منه نحو من مسير يومين وبمدينة دلاص هذه تصنع اللجم الدلاصية المنسوبة صنعتها إليها وهي مدينة صغيرة عامرة جليلة وصناعة الحديد بها قائمة الذات كثيرة المصنوعات ومدينة دلاص كانت في أيام القبط كثيرة الديار مثبتة في ذكر الأمصار إلا أنها الآن في وقتنا هذا ليست بالكبيرة لأن البرابر من لواتة وشرار العرب تسلطوا على أطراف عمارات هذه البلاد فأفسدوها فقل ساكنوها لذلك وينتهي هذا الخليج إلى الفيوم ويصل إلى بحيرة أقنى وتيهمت وسنستقصي ذكر ذلك في موضعه من الإقليم الثالث بحول الله.

وأما ترفة وسمسطا فضياع وقصور بعيدة من معظم النيل على مسافة ميلين منه وهما عامرتان بالناس وفيهما مزارع للقصب السكري ويعمل بها من السكر والفانيذ ما يقوم بأكثر ديار مصر ويستغنى به عن غيره وجميع بلاد مصر تتقارب مسافاتها فلا يكون بين البلد والبلد أكثر من يوم أو يومين وهي لا تفارق ضفتي النيل من كلتا الناحيتين وعماراتها متصلة ومن مصر إلى أسوان مسافة خمس وعشرين مرحلة وقد ذكرنا في هذا الجزء ما فيه كفاية وبلاغ.

نجز الجزء الرابع من الإقليم الثاني والحمد لله ويتلوه الجزء الخامس منه إن شاء الله تعالى.