نزهة المشتاق في اختراق الآفاق/الإقليم الثاني/الجزء الثالث


إن الذي تضمن هذا الجزء الثالث من الإقليم الثاني من الأرضين بعض أرض ودان وأكثر بلاد كوار وبعض بلاد التاجوين المجوس وأكثر بلاد فزان.

وأما أرض ودان فإنها جزائر نخل متصلة بين غرب وشمال إلى ناحية البحر وكانت فيما سلف أكثر الأرض عمارة وكان الملك في أهلها ناشئاً متوارثاً إلى أن جاء دين الإسلام فخافوا من المسلمين فتوغلوا هرباً في بلاد الصحراء وتفرقوا ولم يبق بها الآن إلا مدينة داود وهي الآن خراب ليس بها إلا بقايا قوم من السودان معايشهم كدرة وأمورهم نكدة وهم في سفع جبل طنطنة وإبلهم قليلة وأكثر أهلها يحفرون أصول نبات يسمى أغرسطس وهو النجيل وهو عندهم من نبات الرمال فيجففونه ويدقونه بالحجر ويخبزونه خبزاً يتقوتون به ويأكلون منه ويأكل جلتهم وخيارهم اللحوم الجمالية مقددة ويشربون ألبان الإبل وأكثر نيرانهم يقدونها في بعر الجمال وبعض الشوك والحطب عندهم قليل.

وفي جهة الشمال من هذه المدينة مدينة زويلة بناها عبد الله بن خطاب الهوري وسكنها هو وبنو عمه في سنة ست وثلاث مائة وهي منسوبة إلى هذا الرجل وبه اشتهر اسمها وهي الآن عامرة وسنأتي بذكرها في موضعها من الإقليم الثالث بعون الله.

وفي جبل طنطنة معدن حديد جيد وفي جنوب هذه الأرض مسارح ومرابع لازقار وهم قوم من البربر رحالون في هذه الأرض منتجعون بابلهم وقد ذكرنا لمعاً من أخبارهم.

ومما جاء في جنوب هذا الجزء بقية من أرض كوكو والدمدم وهناك بقية من جبل لونيا وترابه أبيض رخو ويقال إن به حيات قصار الطول في رأس كل حية منها قرنان ويقال أيضاً إن به حيات ذوات رأسين.

وقد اختلف قوم كثير من السودان في نهر كوكو فبعض قال إنه يخرج من جبال لونيا ويمر في جهة الجنوب حتى يمر بكوكو ثم يجوز بها ويمر في الصحراء وبعض قالوا إنما هو نهر يمد نهر كوكو وإن نهر كوكو على الصحة يخرج من أسفل جبل يتصل رأسه بالنيل وزعموا أن النيل يغوص تحت ذلك الجبل ويخرج من طرفه الآخر حيث يظهر خروجه ويمر حتى يتصل بكوكو ثم يمر مغرباً في الصحراء فيغوص في الرمال.

ويتصل بهذه الأرض من جهة المشرق أكثر كوار وهي أرض مشهورة وبلادها مقصودة ومنها يخرج الشب المعروف بالشب الكواري ولا يعدله شيء في الطيب وبلاد كوار يحويها بطن واد يأتي من جهة الجنوب ماراً إلى الشمال لا ماء به إلا أن الماء إذا حفر عليه وجد به معيناً بهيراً وعلى هذا الوادي من البلاد مدينة صغيرة تسمى القصبة وهي مدينة حسنة البناء يحيط بها من جميع جوانها نخل وأنواع من الشجر البري وأهلها متحضرون يلبسون الفوط والأزر والقنادير المتخذة من الصوف وأهلها مياسير وتجولهم وسفرهم إلى سائر البلاد كثير وشربهم من آبار فيها ماء كثير حلو.

ومن هذه المدينة إلى مدينة أخرى تليها في جهة الجنوب يومان واسمها قصر أم عيسى وليست بالمدينة الكبيرة لكن أهلها مياسير ولهم إبل يسافرون بها شرقاً وغرباً وأكبر بضاعتهم الشب وهو رأس أموالهم وحول هذه المدينة نخيلات وآبار ماء حلوة ومنها يشربون.

ومنها إلى مدينة انكلاس أربعون ميلاً في بطن الوادي وهي مدينة من أكبر بلاد كوار قطراً وأكثرها تجارةً وعندهم معادن الشب الخالص المتناهي في الطيب ويوجد في أجبلها كثيراً لكنه يتفاضل في الجودة والطيب وأهل هذه المدينة يتجولون حتى ينتهوا في جهة المشرق بلاد مصر ويتصرفون في جهة المغرب فيصلون بلاد وارقلان وسائر أرض المغرب الأقصى وأهلها يلبسون المقندرات من الصوف ويربطون على رؤوسهم كرازي الصوف ويتلثمون بفواضلها ويسترون أفواههم وهي عادة من عوائدهم توارثها الأبناء عن الأباء لم ينتقلوا عنها ولا تتحولوا منها وفي هذه المدينة في هذا الوقت رجل ثائر من أهل البلد وله عصبة وقرابة يقوم بهم وهم يعضدونه وله كرم مشهور وسيرة حسنة وأحكامه شرعية وهو مسلم.

ومن مدينة انكلاس إلى مدينة صغيرة تسمى ابزر مسافة يومين وابزر هذه على تل تراب وحولها نخيل ومياهها عذبة وبالقرب من هذه المدينة معدن شب فائق الجودة لكنه يتجرف كثير الرخاوة ولباس أهل هذه المدينة الفوط ومآزر الصوف وهم يتجرون بالشب.

ومن ابزر إلى مدينة تلملة يوم وهي أيضاً مدينة صغيرة ومياهها قليلة ونخلها أيضاً قليل وتمرها طيب جليل وبها معدن شب قليل الفائد لأن معدنه يخالطه عروق تراب كثيرة وإنما يخلط بغيره ويباع من التجار وهي من مدن كوار ومدينة تلملة قد ذكرناها فيما سلف من الإقليم الأول.

وهذا الشب الذي يكون في بلاد كوار بالغ في نهاية الجودة وهو كثير الوجود ويتجهز منه في كل سنة إلى سائر البلاد بما لا يحصى كثرةً ولا يقاوم وزناً ومعادنه لا تنقص كبير نقص وأهل تلك الناحية يذكرون أنه ينبت نباتاً ويزيد في كل حين بمقدار ما يؤخذ منه مع الساعات ولولا ذلك لأفنوا الأرض كلها لكثرة ما يخرج منه ويتجهز به إلى جميع الأرض.

وعلى مقربة من ابزر وفي جهة المغرب بحيرة كبيرة عميقة القعر طولها اثنا عشر ميلاً وعرضها ثلاثة أميال وفيها حوت كبير كثير شبيه بالبوري له شحم عذب المأكل يسمونه البقق ويستخرج منه من هذه البحيرة كثير ويملح ويحمل إلى جميع بلاد كوار وهو بها رخيص موجود.

وأما ما حاز هذا الجزء من أرض التاجوين وهم السودان الذين ذكرناهم قبل هذا في الإقليم الأول وقلنا إنهم مجوس لا يعتقدون شيئاً فإنهم بشر كثير وجمع غزير ولهم إبل كثيرة وفي بلادهم مراع كثيرة وهم رحالة لا يقيمون في مكان واحد من جاورهم يغزوهم ويغير عليهم ويتحيل على أخذهم وليس لهم مدن إلا مدينتان وهما تاجوة وسمية وقد تقدم ذكرهما في الإقليم الأول ويحيط بشمال هذه الأرض جبل مقور وهو جبل أغبر إلى البياض وفيه عروق ترابية لينة تنفع من أوجاع العين الرمدة مثل ما ينفع رهج الغار الذي بقفر مديبة طلبيرة من بلاد الأندلس النافع من جرب العين ويأكل ما فيها وهو غبار وجد هناك لونه أخضر ما هو وهذا الغبار هو مشهور المنفعة في جميع بلاد الأندلس معروف بالتجربة.

وأيضاً إن هذه الأرض تتصل بها أرض الواحات الخارجة وهي الآن تعرف بأرض سنترية وسنترية هذه محدثة قريية العهد سنأتي بذكرها بعد هذا وفيها مما يلي جنوبها مدينة هي الآن خراب وقد كانت فيما سلف عامرة بالخلق آهلة بالناس وتسمى هذه المدينة تثرو وقد تهدم بناؤها وغارت مياهها وتشرد حيوانها وتنكرت معالمها فلم يبق منها إلا طلل دارس واثر طامس وبها بقايا نخل ماحلة وربما بلغتها العرب عند تصرفها في أكناف هذه الأرض وبشرقي هذه المدينة مع الشمال جبل وعر ليس بكثير العلو لكنه ممتنع الصعود إليه لانقطاع أحجاره وفي أسفله بحيرة كبيرة دورها نحو من عشرين ميلاً ماؤها عذب لكنه قليل العمق وفي وسطها نبات وبها حوت كثير الشوك سهك الطعم ويمد هذه البحيرة عين ماء تأتيها من جهة الجنوب وتقع فيها وعلى هذه البحيرة ينزل رحالة أهل كوار وربما زاحمهم العرب عليها فأوقعوا الضرر بهم وبهذه الأرض في وقتنا هذا مدينة مرندة وهي مدينة عامرة بأهلها والداخل إليها قليل لقلة بضاعاتهم واختصار صنائعهم وعدم الخيرات لديهم لكنها ملجأ وسكن للوارد والصادر من رحالتهم وظواعنهم.

وبشمال هذه الأرض يتصل بها مدينة زالة وزالة هذه بها حصن منيع فيه رجل ثائر بنفسه وبين هذه المدينة وبلد سرت تسعة أيام بين غرب وشمال إلى ناحية البحر ومن زالة أيضاً إلى أرض ودان ثمانية أيام ومن زالة إلى زويلة عشرة أيام متحرفة إلى الجنوب مع الغرب وقد ذكرنا في هذا الجزء ما يحتاج إليه مستقصى بحمد الله وتأييده.

نجز الجزء الثالث من الإقليم الثاني والحمد الله ويتلوه الجزء الرابع منه إن شاء الله.