إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصوم/الفصل الثالث



الفصل الثالث

في التطوع بالصيام وترتيب الأوراد فيه


اعلم أن استحباب الصوم يتأكد في الأيام الفاضلة وفواضل الأيام بعضها يوجد في كل سنة وبعضها يوجد في كل شهر وبعضها في كل أسبوع. أما في السنة بعد أيام رمضان فيوم عرفة ويوم عاشوراء والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم. وجميع الأشهر الحرم مظان الصوم وهي أوقات فاضلة "وكان رسول الله يكثر صوم شعبان حتى كان يظن أنه في رمضان" وفي الخبر "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" لأنه ابتداء السنة فبناؤها على الخير أحب وأرجى لدوام بركته. وقال "صوم يوم من شهر حرام أفضل من ثلاثين من غيره وصوم يوم من رمضان أفضل من ثلاثين من شهر حرام" وفي الحديث "من صام ثلاثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله له بكل يوم عبادة تسعمائة عام" وفي الخبر: إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان ولهذا يستحب أن يفطر قبل رمضان أياماً فإن وصل شعبان برمضان فجائز فعل ذلك رسول الله مرة فصل مراراً كثيرة ولا يجوز استقبال رمضان بيومين أو ثلاثة إلا أن يوافق ورداً له وكره بعض الصحابة أن يصام رجب كله حتى لا يضاهى بشهر رمضان. فالأشهر الفاضلة: ذو الحجة والمحرم ورجب وشعبان. والأشهر الحرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، واحد فرد وثلاثة سرد. وأفضلها ذو الحجة لأن فيه الحج والأيام المعلومات والمعدودات. وذو القعدة من الأشهر الحرم وهو من أشهر الحج، وشوال من أشهر الحج وليس من الحرم "والمحرم ورجب ليسا من أشهر الحج. وفي الخبر "ما من أيام العمل فيهن أفضل وأحب إلى الله عز وجل من أيام عشر ذي الحجة إن صوم يوم منه يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه تعدل قيام ليلة القدر" قيل: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى، قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا من عقر جواده وأهريق دمه" وأما ما يتكرر في الشهر: فأول الشهر وأوسطه وآخره، ووسطه الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وأما في الأسبوع: فالاثنين والخميس والجمعة فهذه هي الأيام الفاضلة فيستحب فيها الصيام وتكثير الخيرات لتضاعف أجورها ببركة هذه الأوقات. وأما صوم الدهر فإنه شامل للكل وزيادة وللسالكين فيه طرق فمنهم من كره ذلك إذ وردت أخبار تدل على كراهته. والصحيح أنه إنما يكره لشيئين؛ أحدهما: أن لا يفطر في العيدين وأيام التشريق فهو الدهر كله والآخر أن يرغب عن السنة في الإفطار ويجعل الصوم حجراً على نفسه مع أن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. فإذا لم يكن شيء من ذلك ورأى صلاح نفسه في صوم الدهر فليفعل ذلك. فقد فعله جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وقال فيما رواه أبو موسى الأشعري "من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم وعقد تسعين" ومعناه لم يكن له فيها موضع، ودونه درجة أخرى وهو صوم نصف الدهر بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً وذلك أشد على النفس وأقوى في قهرها، وقد ورد في فضله أخبار كثيرة لأن العبد فيه بين صوم يوم وشكر يوم فقد قال "عرضت علي مفاتيح خزائن الدنيا وكنوز الأرض فرددتها وقلت أجوع يوماً وأشبع يوماً أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت" وقال "أفضل الصيام صوم أخي داود كان يصوم ويفطر يوماً" ومن ذلك "منازلته : لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصوم وهو يقول؛ إني أطيق أكثر من ذلك، فقال : صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: إني أريد أفضل من ذلك، فقال : لا أفضل من ذلك" وقد روي "أنه ما صام شهراً كاملاً قط إلا رمضان" بل كان يفطر منه ومن لا يقدر على صوم نصف الدهر فلا بأس بثلثه وهو أن يصوم ويفطر يومين. وإذا صام ثلاثة من أول الشهر وثلاثة من الوسط وثلاثة من الآخر فهو ثلث، وواقع في الأوقات الفاضلة. وإن صام الاثنين والخميس والجمعة فهو قريب من الثلث. وإذا ظهرت أوقات الفضيلة فالكمال في أن يفهم الإنسان معنى الصوم وأن مقصوده تصفية القلب وتفريغ الهم لله عز وجل. والفقيه بدقائق الباطن ينظر إلى أحواله فقد يقتضي حاله دوام الصوم وقد يقتضي دوام الفطر وقد يقتضي مزج الإفطار بالصوم. وإذا فهم المعنى وتحقق حده في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب لم يخف عليه صلاح قلبه وذلك لا يوجب ترتيباً مستمراً. ولذلك روي أنه "كان يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم وينام حتى يقال لا يقوم ويقوم حتى يقال لا ينام" وكان ذلك بحسب ما ينكشف له بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات. وقد كره العلماء أن يوالى بين الإفطار أكثر من أربعة أيام تقديراً بيوم العيد وأيام التشريق وذكروا أن ذلك يقسي القلب ويولد رديء العادات ويفتح أبواب الشهوات ولعمري هو كذلك في حق أكثر الخلق لاسيما من يأكل في اليوم والليل مرتين. فهذا ما أردنا ذكره من ترتيب الصوم المتطوع به والله أعلم بالصواب.

تم كتاب: أسرار الصوم، والحمد لله بجميع محامده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم على جميع نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وكرم وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب: أسرار الحج، والله المعين لا رب غيره وما توفيقي إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.