إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصوم/الفصل الثاني



الفصل الثاني

في أسرار الصوم وشروطه الباطنة


اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العمووم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا حتى قال أرباب القلوب: من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة، فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل الله عز وجل وقلة اليقين برزقه الموعود، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين ولا يطول النظر في تفصيلها قولاً ولكن في تحقيقها عملاً، فإنه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه وتلبس بمعنى قوله عز وجل "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور: الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل قال "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله عز وجل إيماناً يجد حلاوته في قلبه" وروى جابر عن أنس عن رسول الله أنه قال "خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة". الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان. وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم. رواه بشر بن الحارث عنه. وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقال "إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم" وجاء في الخبر "أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحاً وقال : قل لهما قيئا فيه ما أكلتما فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً غريضاً وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك فقال هاتان صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما. قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم" الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى "سماعون للكذب أكالون للسحت" وقال عز وجل "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت" فالسكوت على الغيبة حرام وقال تعالى "إنكم إذاً مثلهم" ولذلك قال "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم مصراً فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله. وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره. وقصد الصوم تقليله. وقد قال "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش" فقيل هو الذي يفطر على الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام? حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى. وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها. فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلا ينتفع بصومه. بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوي فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدراً من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء. وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" ومن جعل في قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب. ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل. السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين? وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها فقد روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك. وعن الأحنف بن قيس: أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك فقال: إني أعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه. فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم. فإن قلت: فمن اقتصر على كف شهوة البطن والفرج وترك هذه المعاني فقد قال الفقهاء. صومه صحيح فما معناه? فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة لاسيما الغيبة وأمثالها، ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا الدخول تحته. فأما علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول وبالقبول الوصول إلى المقصود. ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل وهو الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان فإنهم منزهون عن الشهوات. والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة. والملائكة مقربون من الله عز وجل والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، وليس القرب ثم بالمكان بل بالصفات. وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخر طول النهار? ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش" ولهذا قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم! ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغتربين. ولذلك قال بعض العلماء كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم. والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه. ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه مرة مرة فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل. ومثل من جمع بينهما كمن غسل كل عضو ثلاث مرات فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال. وقد قال "إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته" ولما تلا قوله عز وجل "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" وضع يده على سمعه وبصره فقال: السمع أمانة والبصر أمانة" ولولا أنه من أمانات الصوم لما قال "فليقل إني صائم" أي إني أودعت لساني لأحفظه فكيف أطلقه بجوابك? فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهراً وباطناً وقشراً ولباً ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات. فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب.