إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الطهارة/القسم الثالث



القسم الثالث من النظافة

التنظيف عن الفضلات الظاهرة


وهي نوعان أوساخ وأجزاء

النوع الأول

عدل

الأوساخ والرطوبات المترشحة

عدل

وهي ثمانية

الأول: ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن والقمل فالتنظيف عنه مستحب بالغسل والترجيل والتدهين إزالة للشعث عنه "وكان يدهن الشعر ويرجله غباً ويأمر به" ويقول عليه الصلاة والسلام: ادهنوا غباً وقال عليه الصلاة والسلام من كان له شعرة فليكرمها أي ليصنها عن الأوساخ" ودخل عليه رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال: أما كان لهذا دهن يسكن به شعره ثم قال: يدخل أحدكم كأنه شيطان" الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، والمسح يزيل ما يظهر منه وما يجتمع في قعر الصماخ فينبغي أن ينظف برفق عند الخروج من الحمام فإن كثرة ذلك ربما تضر بالسمع. الثالث ما يجتمع في داخل الأنف من الرطوبات المنعقدة الملتصقة بجوانبه ويزيلها بالاستنشاق والاستنثار. الرابع ما يجتمع على الأسنان وطرف اللسان من القلح فيزيله السواك والمضمضة وقد ذكرناهما. الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد ويستحب إزالة ذلك بالغسل والتسريح بالمشط. وفي الخبر المشهور أنه "كان لا يفارقه المشط والمدرى والمرآة في سفر ولا حضر" وهي سنة العرب وفي خبر غريب "أنه كان يسرح لحيته في اليوم مرتين"وكان كث اللحية، وكذلك كان أبو بكر، وكان عثمان طويل اللحية رقيقها وكان على عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه. وفي حديث أغرب منه قالت عائشة رضي الله عنها "اجتمع قوم بباب رسول الله فخرج إليهم فرأيته يطلع في الحب يستوي من رأسه ولحيته فقلت أو تفعل ذلك يا رسول الله? فقال: نعم إن الله يحب من عبده أن يتجمل لإخوانه إذا خرج إليهم" والجاهل ربما يظن أن ذلك من حب التزين للناس قياساً على أخلاق غيره وتشبيهاً للملائكة بالحدادين وهيهات! فقد كان رسول الله مأموراً بالدعوة وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره أعينهم فينفرهم ذلك ويتعلق المنافقون بذلك في تنفيرهم. وهذا القصد واجب على كل عالم تصدي لدعوة الخلق إلى الله عز وجل، وهو أن يراعي من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه. والاعتماد في مثل هذه الأمور على النية فإنها أعمال في أنفسها تكتسب الأوصاف من المقصود، فالتزين على هذا القصد محبوب وترك الشعث في اللحية إظهاراً للزهد وقلة المبالاة بالنفس محذور وتركه شغلاً بما هو أهم منه محبوب. وهذه أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل. والناقد بصير والتلبيس غير رائج عليه بحال، وكم من جاهل يتعاطى هذه الأمور التفاتاً إلى الخلق وهو يلبس على نفسه وعلى غيره ويزعم أن قصده الخير، فترى جماعة من العلماء يلبسون الثياب الفاخرة ويزعمون أن قصدهم إرغام المبتدعة والمجادلين والتقرب إلى الله تعالى به. وهذا أمر ينكشف يوم تبلى السرائر، ويوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور؛ فعند ذلك تتميز السبيكة الخالصة من البهرجة فنعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر السادس وسخ لأنها كانت لا يحضرها المقراض في كل وقت فتجتمع فيها أوساخ؛ فوقت لهم رسول الله قلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوماً لكنه أمر رسول الله بتنظيف ما تحت الأظفار وجاء في الأثر "أن النبي استبطأ الوحي فلما هبط عليه جبريل عليه السلام قال له: كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم وقلحاً لا تستاكون. مر أمتك بذلك" والاف وسخ الظفر، والتف وسخ الأذن وقوله عز وجل "فلا تقل لهما أف" تعبهما أي بما تحت الظفر من الوسخ، وقيل لا تتأذ بهما كما تتأذى بما تحت الظفر الثامن الدرن الذي يجتمع على جميع البدن برشح العرق وغبار الطريق، وذلك يزيله الحمام ولا بأس بدخول الحمام، دخل أصحاب رسول الله حمامات اشام وقال بعضهم: نعم البيت بيت الحمام يطهر البدن ويذكر النار: روي ذلك عن أبي الدرداء وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما. وقال بعضهم. بئس البيت بيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء. فهذا تعرض لآفته وذاك تعرض لفائدته ولابأس بطلب فائدته عند الاحتراز من آفته. ولكن على داخل الحمام وظائف من السنن والواجبات، فعليه واجبان في عورته وواجبان في عورة غيره. أما الواجبان في عورته فهو أن يصونها عن نظر الغير ويصونها عن مس الغير فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده، ويمنع الدلاك من مس الفخذ وما بين السرة إلى العانة، وفي إباحة مس ما ليس بسوءة لإزالة الوسخ احتمال، ولكن الأقيس التحريم إذ ألحق من السوأتين في التحريم بالنظر فكذلك ينبغي أن تكون بقية العورة أعني الفخذين. والواجبان في عورة الغير أن يغض بصر نفسه عنها وأن ينهى عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب، وعليه ذكر ذلك وليس عليه القبول ولا يسقط عنه وجوب الذكر إلا لخوف ضرب أو شتم أو ما يجري عليه مما هو حرام في نفسه، فليس عليه أن ينكر حراماً يرهق المنكر عليه إلى مباشرة حرام آخر. فأما قوله أعلم أن ذلك لا يفيد ولا يعمل به فهذا لا يكون عذراً بل لابد من الذكر، فلا يخلو قلب عن التأثر من سماع الإنكار واستشعار الاحتراز عند التعبير بالمعاصي وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه وتنفير نفسه فلا يجوز تركه، ولمثل هذا صار الحزم ترك دخول الحمام في هذه الأوقات إذ لا تخلو عن عورات مكشوفة لاسيما ما تحت السرة إلى ما فوق العانة؛ إذ الناس لا يعدونها عورة وقد ألحقها الشرع بالعورة وجعلها كالحريم لها ولهذا يستحب تخلية الحمام. وقال بشر بن الحرث: ما أعنف رجلاً لا يملك إلا درهماً دفعه ليخلي له الحمام. ورؤي ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام ووجهه إلى الحائط وقد عصب عينيه بعصابة وقال بعضهم: لابأس بدخول الحمام ولكن بإزارين: إزار للعورة وإزار للرأس يتقنع به ويحفظ عينيه، وأما السنن فعشرة، فالأول: النية وهو أن لا يدخل لعاجل دنيا ولا عابثاً لأجل هوى بل يقصد به التنظف المحبوب تزيناً للصلاة، ثم يعطي الحمامي الأجرة قبل الدخول فإن ما يستوفيه مجهول وكذا ما ينتظره الحمامي، فتسليم الأجرة قبل الدخول دفع للجهالة من أحد العوضين وتطييب لنفسه، ثم يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويقول بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم" ثم يدخل وقت الخلوة أو يتكلف تخلية الحمام فإنه إن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطين للعورات فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شائبة من قلة الحياء وهو مذكر للنظر في العورات، ثم لا يخلو الإنسان في الحركات عن انكشاف العورات بانعطاف في أطراف الإزار فيقع البصر على العورة من حيث لا يدري، ولأجله عصب ابن عمر رضي الله عنهما عينيه، ويغسل الجناحين عند الدخول ولا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول، وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فإنه المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه، لاسيما الماء الحار فله مئونة وفيه تعب وأن يتذكر حر النار بحرارة الحمام ويقدر نفسه محبوساً في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم، فإنه أشبه بيت بجهنم: النار من تحت والظلام من فوق نعوذ بالله من ذلك، بل العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة، فإن المرء ينظر بحسب همته. فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك داراً معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها. فكذلك سالك طرق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئاً إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة، بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكراً ونكيراً والزبانية، وإن سمع صوتاً هائلاً تذكر نفخة الصور وإن رأى شيئاً حسناً تذكر نعيم الجنة وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل إذ لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا! فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته. ومن السنن: أن لا يسم عند الدخول وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام بل يسكت إن أجاب غيره وإن أحب قال "عافاك الله" ولا بأس بأن يصافح الداخل ويقول "عافاك الله" لابتداء الكلام. ثم لا يكثر الكلام في الحمام ولا يقرأ القرآن إلا سراً ولا بأس بإظهار الاستعاذة من الشيطان ويكره دخول الحمام بين العشاءين وقريباً من الغروب فإن ذلك وقت انتشار الشياطين، ولابأس أن يدلكه غيره فقد نقل ذلك عن يوسف بن أسباط أوصى بأن يغسله إنسان لم يكن من أصحابه وقال: إنه دلكني في الحمام مرة فأردت أن أكافئه بما يفرح به وإنه ليفرح بذلك. ويدل على جوازه ما روى بعض الصحابة "أن رسول الله نزل منزلاً في بعض أسفاره فنام على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت: ما هذا يا رسول الله? فقال: إن الناقة تقحمت بي" ثم مهما فرغ من الحمام شكر الله عز وجل على هذه النعمة. فقد قيل الماء الحار في الشتاء من النعيم الذي يسأل عنه. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: الحمام من النعيم الذي أحدثوه. هذا من جهة الشرع. أما من جهة الطب فقد قيل: الحمام بعد النورة أمان من الجذام. وقيل؛ النورة في كل شهر مرة تطفىء المرة الصفراء وتنقي اللون وتزيد في الجماع. وقيل: بولة في الحمام قائماً في الشتاء أنفع من شربة دواء. وقيل: نومة في الصيف بعد الحمام تعدل شربة دواء. وغسل القدمين بماء بارد بعد الخروج من الحمام أمان من النقرس ويكره صب الماء البارد على الرأس عند الخروج وكذا شربه، هذا حكم الرجال: وأما النساء فقد قال "لايحل للرجل أن يدخل حليلته الحمام" وفي البيت مستحم، والمشهور أنه حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر" وحرام على المرأة دخول الحمام إلا نفساء أو مريضة. ودخلت عائشة رضي الله عنها حماماً من سقم بها. فإن دخلت لضرورة فلا تدخل إلا بمئزر سابغ، ويكره للرجل أن يعطيها أجرة الحمام فيكون معيناً لها على المكروه.

النوع الثاني

عدل

فيما يحدث في البدن من الأجزاء

عدل

وهي ثمانية

الأول شعر الرأس ولابأس بحلقه لمن أراد التنظيف ولابأس بتركه لمن يدهنه ويرجله إلا إذا تركه قزعاً، أي قطعاً وهو دأب أهل الشطارة، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك شعاراً لهم فإنه إذا لم يكن شريفاً كان ذلك تلبيساً الثاني شعر الشارب وقد قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "قصوا الشارب" وفي لفظ آخر "جزوا الشوارب" وفي لفظ آخر "حفوا الشوارب وأعفوا اللحى" أي اجعلوها حفاف الشفة أي حولها، وحفاف الشيء: حوله. ومنه "وترى الملائكة حافين من حول العرش" وفي لفظ آخر "احفوا" يدل على ما دون ذلك. وقال الله عز وجل "إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا" أي يستقصى عليكم، وأما الحلق فلم يرد. والإحفاء القريب من الحلق نقل عن الصحابة: نظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه فقال: ذكرتني أصحاب رسول الله . وقال المغيرة بن شعبة "نظر إلي رسول الله وقد طال شاربي فقال: تعال فقصه لي على سواك" ولابأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب، فعل ذلك عمر وغيره لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام إذ لا يصل إليه: وقوله "اعفوا اللحى" أي كثروها وفي الخبر "إن اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم فخالفوهم" وكره بعض العلماء الحلق ورآه بدعة الثالث شعر الإبط ويستحب نتفه في كل أربعين يوماً مرة وذلك سهل على من تعود نتفه في الابتداء، فأما من تعود الحلق فيكفيه الحلق إذ في النتف تعذيب وإيلام، والمقصود النظافة وأن لا يجتمع الوسخ في خللها ويحصل ذلك بالحلق الرابع شعر العانة ويستحب إزالة ذلك إما بالحلق أو بالنورة ولا ينبغي أن تتأخر عن أربعين يوماً الخامس الأظفار وتقليمها مستحب لشناعة صورتها إذا طالت ولما يجتمع فيها من الوسخ قال رسول الله "يا أبا هريرة أقلم أظفارك فإن الشيطان يقعد على ما طال منها" ولو كان تحت الظفر وسخ فلا يمنع ذلك صحة الوضوء لأنه لا يمنع وصول الماء ولأنه يتساهل فيه للحاجة لاسيما في أظفار الرجل وفي الأوساخ التي تجتمع على البراجم وظهور الأرجل والأيدي من العرب وأهل السواد، وكان رسول الله يأمرهم بالقلم وينكر عليهم ما يرى تحت أظفارهم من الأوساخ ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، ولو أمر به لكان فيه فائدة أخرى وهو التغليظ والزجر عن ذلك. ولم أر في الكتب خبراً مروياً في ترتيب قلم الأظفار ولكن سمعت "أنه بدأ بمسبحته اليمنى وختم بإبهامه اليمنى وابتدأ في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام" ولما تأملت في هذا خطر لي من المعنى ما يدل على أن الرواية فيه صحيحة إذ مثل هذا المعنى لا ينكشف ابتداء إلا بنور النبوة، وأما العالم ذو البصيرة فغايته أن يستنبطه من العقل بعد نقل الفعل إليه. فالذي لاح لي فيه والعلم عند الله سبحانه أنه لابد من قلب أظفار اليد والرجل، واليد أشرف من الرجل فيبدأ بها، ثم اليمنى أشرف من اليسرى فيبدأ بها، ثم على اليمنى خمسة أصابع والمسبحة أشرفها إذ هي المشيرة في كلمتي الشهادة من جملة الأصابع، ثم بعدها ينبغي أن يبتدىء بما على يمينها إذ الشرع يستحب إدارة الطهور وغيره على اليمين، وإن وضعت ظهر الكف على الأرض فالإبهام هو اليمين، وإن وضعت بطن الكف فالوسطى هي اليمنى، واليد إذا تركت بطبعها كان الكف مائلاً إلى جهة الأرض إذ جهة حركة اليمين إلى اليسار واستتمام الحركة إلى اليسار يجعل ظهر الكف عالياً فما يقتضيه الطبع أولى، ثم إذا وضعت الكف على الكف صارت الأصابع في حكم حلقة دائرة، فيقتضي ترتيب الدور الذهاب عن يمين المسبحة إلى أن يعود إلى المسبحة، فتقع البداءة بخنصر اليسرى والختم بإبهامها ويبقى إبهام اليمنى فيختم به التقليم. وإنما قدرت الكف موضوعة على الكف حتى تصير الأصابع كأشخاص في حلقة ليظهر ترتيبها. وتقدير ذلك أولى من تقدير وضع الكف على ظهر الكف أو وضع ظهر الكف على ظهر الكف فإن ذلك لا يقتضيه الطبع. وأما أصابع الرجل فالأولى عندي - إن لم يثبت فيها نقل - أن يبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر اليسرى كما في التخليل، فإن المعاني التي ذكرها في اليد لا تتجه ههنا إذ لا مسبحة في الرجل. وهذه الأصابع في حكم صف واحد ثابت على الأرض فيبدأ من جانب اليمنى فإن تقديرها حلقة بوضع الأخمص على الأخمص يأباه الطبع بخلاف اليدين. وهذه الدقائق في الترتيب تنكشف بنور النبوة في لحظة واحدة وإنما يطول التعب علينا. ثم لو سئلنا ابتداء عن الترتيب في ذلك ربما لم يخطر لنا. وإذا ذكرنا فعله وترتيبه ربما تيسر نا مما عاينه بشهادة الحكم وتنبيهه على المعنى استنباط المعنى، ولا تظنن أن أفعاله في جميع حركاته كانت خارجة عن وزن وقانون وترتيب بل جميع الأمور الاختيارية التي ذكرناها يتردد فيها الفاعل بين قسمين أو أقسام كان لا يقدم على واحد معين بالاتفاق بل بمعنى يقتضي الإقدام والتقديم، فإن الاسترسال مهملاً - كما يتفق - سجية البهائم، وضبط الحركات بموازين المعاني سجية أولياء الله تعالى. وكلما كانت حركات الإنسان وخطراته إلى الضبط أقرب وعن الإهمال وتركه مدى أبعد: كانت مرتبته إلى رتبة الأنبياء والأولياء أكثر وكان قربه من الله عز وجل أظهر؛ إذ القريب من النبي هو القريب من الله عز وجل والقريب من الله لابد أن يكون قريباً فالقريب من القريب قريب بالإضافة إلى غيره فنعوذ بالله أن يكون زمام حركاتنا وسكناتنا في يد الشيطان بواسطة الهوى. واعتبر في ضبط الحركات باكتحاله "فإنه يكتحل في عينه اليمنى ثلاثاً وفي اليسرى اثنتين" فيبدأ باليمنى لشرفها. وتفاوته بين العينين لتكون الجملة وتراً، فإن للوتر فضلاً عن الزوج فإن الله سبحانه وتر يحب الوتر فلا ينبغي أن يخلو فعل العبد من مناسبة لوصف من أوصاف الله تعالى. ولذلك استحب الإيتار في الاستجمار. وإنما لم يقتصر على الثلاث وهو وتر لأن اليسرى لا يخصها إلا واحدة والغالب أن الواحدة لا تستوعب أصول الأجفان بالكحل، وإنما خصص اليمين بالثلاث لأن التفضيل لابد منه للإيتار واليمين أفضل فهي بالزيادة أحق. فإن قلت: فلم اقتصر على اثنين لليسرى وهي زوج? فالجواب أن ذلك ضرورة إذ لو جعل لكل واحدة وتر لكان المجموع زوجاً إذ الوتر مع الوتر زوج، ورعايته الإيتار في مجموع الفعل وهو في حكم الخصلة الواحدة أحب من رعايته في الآحاد. ولذلك أيضاً وجه وهو أن يكتحل في كل واحدة ثلاثاً على قياس الوضوء وقد نقل ذلك في الصحيح وهو الأولى. ولو ذهبت أستقصي دقائق ما راعاه في حركاته لطال الأمر فقس بما سمعته ما لم تسمعه. واعلم أن العالم لا يكون وارثاً للنبي إلا إذا اطلع على جميع معاني الشريعة حتى لا يكون بينه وبين النبي إلا درجة واحدة وهي درجة النبوة، وهي الدرجة الفارقة بين الوارث والموروث، إذ الموروث هو الذي حصل المال له واشتغل بتحصيله واقتدر عليه والوارث هو الذي لم يحصل ولم يقدر عليه ولكن انتقل إليه وتلقاه منه بعد حصوله له، فأمثال هذه المعاني مع سهولة أمرها بالإضافة إلى الأغوار والأسرار لا يستقل بدركها ابتداء إلا الأنبياء ولا يستقل باستنباطها تلقياً بعد تنبيه الأنبياء عليها إلا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام السادس والسابع زيادة السرة وقلفة الحشفة؛ أما السرة فتقطع في أول الولادة وأما التطهير بالختان فعادة اليهود في اليوم السابع من الولادة ومخالفتهم بالتأخير إلى أن يثغر الولد أحب وأبعد عن الخطر قال "الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء" وينبغي أن لا يبالغ في خفض المرأة قال لأم عطية وكانت تخفض "يا أم عطية أشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج" أي أكثر لماء الوجه ودمه وأحسن في جماعها فانظر إلى جزالة لفظه في الكتابة وإلى إشراق نور النبوة من مصالح الآخرة التي هي أهم مقاصد النبوة إلى مصالح الدنيا حتى انكشف له وهو أمي من هذا الأمر النازل قدره ما لو وقعت الغفلة عنه خيف ضرره فسبحان من أرسله رحمة للعالمين ليجمع لهم بيمن بعثته مصالح الدنيا والدين الثامنة ما طال من اللحية وإنما أخرناها لنلحق بها ما في اللحية من السنن والبدع إذ هذا أقرب موضع يليق به ذكرها وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وقالا تركها عافية أحب لقوله "اعفوا اللحا" والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبذ إليه فلابأس بالاحتراز عنه على هذه النية. وقال النخعي عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته ويجعها بين لحيتين فإن التوسط في كل شيء حسن، ولذلك قيل كلما طالت اللحية تشمر العقل.

فصل

عدل

وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض؛ خضابها بالسواد وتبيضها بالكبريت ونتفها ونتف الشيب منها والنقصان منها والزياد وتسريحها تصنعاً لأجل الرياء وتركها شعثة إظهاراً للزهد والنظر إلى سوادها عجباً بالشباب وإلى بياضها تكبراً بعلو السن وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبهاً بالصالحين. أما الأول وهو الخضاب بالسواد فهو منهي عنه لقوله "خير شبابكم من تشبه بشيوخكم وشر شيوخكم من تشبه بشبابكم" والمراد بالتشبه بالشيوخ في الوقار لا في تبييض الشعر و "نهى عن الخضاب بالسواد وقال هو خضاب أهل النار" وفي لفظ آخر "الخضاب بالسواد خضاب الكفار" وتزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته فرفعه أهل المرأة إلى عمر رضي الله عنه فرد نكاحه وأوجعه ضرباً وقال: غررت القوم بالشباب ولبست عليهم شيبتك ويقال أول من خضب بالسواد فرعون لعنه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال "يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحو رائحة الجنة" الثاني: الخضاب بالصفرة والحمرة وهو جائز تلبيساً للشيب على الكفار وفي الغزو والجهاد فإن لم يكن على هذه النية بل للتشبه بأهل الدين فهو مذموم وقد قال رسول الله "الصفرة خضاب المسلمين والحمرة خضاب المؤمنين" وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة وبالخلوق والكتم للصفرة، وخضب بعض العلماء بالسواد لأجل الغزو وذلك لابأس به إذا صحت النية ولم يكن فيه هوى وشهوة. الثالث: تبييضها بالكبريت استعجالاً لإظهار علو السن توصلاً إلى التوقير وقبول الشهادة والتصديق بالرواية عن الشيوخ وترفعاً عن الشباب وإظهاراً لكثرة العلم ظناً بأن كثرة الأيام تعطيه فضلاً وهيهات فلا يزيد كبر السن الجاهل إلا جهلاً فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها ومن كانت غريزته الحمق فطول المدة يؤكد حماقته وقد كان الشيوخ يقدمون الشباب بالعلم. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم ابن عباس وهو حديث السن على أكابر الصحابة ويسأله دونهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما آتى الله عز وجل عبداً علماً إلا شاباً والخير كله في الشباب ثم تلا قوله عز وجل "قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" وقوله تعالى "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى" وقوله تعالى "وآتيناه الحكم صبياً" وكان أنس رضي الله عنه يقول "قبض رسول الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل له يا أبا حمزة فقد أسن فقال لم يشنه الله بالشيب فقيل أهو شين فقال كلكم يكرهه" ويقال إن يحيى بن أكثم ولي القضاء وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقال له رجل في مجلسه يريد أن يخجله بصغر سنه كم سن القاضي أيده الله فقال مثل سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله إمارة مكة وقضاءها فأفحمه وروي عن مالك رحمه الله أنه قال قرأت في بعض الكتب لا تغرنكم اللحى فإن التيس له لحية وقال أبو عمرو بن العلاء إذا رأيت الرجل طويل القامة صغير الهامة عريض اللحية فاقض عليه بالحمق ولو كان أمية ابن عبد شمس وقال أيوب السختياني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه. وقال علي بن الحسين من سبق فيه العلم قبلك فهو إمامك فيه وإن كان أصغر سناً منك، وقيل لأبي عمرو بن العلاء أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير فقال إن كان الجهل يقبح به فالتعلم يحسن به وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي يا أبا عبد الله تركت حديث سفيان بعلوه وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه فقال له أحمد لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلو ولا نزول الرابع نتف بياضها استنكافاً من الشيب "وقد نهى عليه السلام عن نتف الشيب وقال هو نور المؤمن" وهو في معنى الخضاب بالسواد وعلة الكراهية ما سبق والشيب نور الله تعالى والرغبة عنه رغبة عن النور الخامس نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس وذلك مكروه ومشوه للخلقة ونتف الفنيكين بدعة وهما جانبا العنفقة. شهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته وأما نتفها في أول النبات تشبهاً بالمرد فمن المنكرات الكبار فإن اللحية زينة الرجال فإن لله ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحى وهو من تمام الخلق وبها يتميز الرجال عن النساء وقيل في غريب التأويل اللحية هي المراد بقوله تعالى "يزيد في الخلق ما يشاء" قال أصحاب الأحنف بن قيس وددنا أن نشتري للأحنف لحية ولو بعشرين ألفاً وقال شريح القاضي وددت أن لي لحية لو بعشرة آلاف وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار والرفع في المجالس وإقبال الوجوه إليه والتقديم على الجماعة ووقاية العرض? فإن من يشتم يعرض باللحية إن كان للمشتوم لحية وقد قيل إن أهل الجنة مرد إلا هرون أخا موسى صلى الله عليهما وسلم فإن له لحية إلى سرته تخصيصاً له وتفضيلاً السادس تقصيصها كالتعبية طاقة على طاقة للتزين للنساء والتصنع قال كعب: يكون في آخر الزمان أقوام يقصون لحاهم كذنب الحمامة ويعرقبون نعالهم كالمناجل أولئك لا خلاق لهم السابع الزيادة فيها وهو أن يزيد في شعر العارضين من الصدغين وهو من شعر الرأس حتى يجاوز عظم اللحى وينتهي إلى نصف الخد وذلك يباين هيئة أهل الصلاح. الثامن تسريحها لأجل الناس قال بشر: في اللحية شركان: تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد. التاسع والعاشر النظر في سوادها أو في بياضها بعين العجب وذلك مذموم في جميع أجزاء البدن بل في جميع الأخلاق والأفعال على ما سيأتي بيانه فهذا ما أردنا أن نذكره من أنواع التزين والنظافة وقد حصل من ثلاثة أحاديث من سنن الجسد اثنتا عشرة خصلة خمس منها في الرأس وهي فرق شعر الرأس والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وثلاثة في اليد والرجل وهي القلم وغسل البراجم وتنظيف الرواجب وأربعة في الجسد هي نتف الإبط والاستحداد والختان والاستنجاء بالماء فقد وردت الأخبار بمجموع ذلك وإذا كان غرض هذا الكتاب التعرض للطهارة الظاهرة دون الباطنة فلنقتصر على هذا وليتحقق أن فضلات الباطن وأوساخه التي يجب التنظيف منها أكثر من أن تحصى وسيأتي تفصيلها في ربع المهلكات مع تعريف الطرق في إزالتها وتطهير القلب منها إن شاء الله عز وجل.

تم كتاب أسرار الطهارة بحمد الله تعالى وعونه. ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصلاة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.