إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/17

16
18


فصل

وللحيل التي يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة المثال

الأول: إن استأجر منه أرضا أو بستانا أو دارا سنين ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان بنوع من أنواع المكر والغدر ولو لم يكن إلا بأن يدعي أن أجرة المثل في هذه الحال أكثر مما سمى فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يسمي لكل سنة أجرا معلوماويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة وأقلها للسنين الأول فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك

وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره في المستقبل جعل معظم الأجرة في السنين الأول وأقلها في الأواخر

المثال الثاني: أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة ولا من إخراجها

فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يؤجرها رب الدار من المرأة فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا فإن كان قد أجرها من الزوج وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له وأنها في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا وإن كفل المرأة وقت العقد أنها ترد إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك

المثال الثالث: أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه في الأجرة ويفسخ عقده إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك أو يتحيل عليه حتى يبطل عقده

فالحيلة في أمنه وتخليصه: أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذي وقع عليه العقد فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها وعدم فسخها للزيادة

المثال الرابع: أن يخاف أن يؤجره ما لا يملك فيأبى المالك ويفسخ العقد ويرجع عليه بالأجرة فالحيلة في تخليصه: أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى

المثال الخامس: أن يخاف فلس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة

فالحيلة في فسخه: أن يشهد عليه في العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر أو السنة ويكون حدوث الفلس عيبا في الذمة يتمكن به من الفسخ كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مسوغا للفسخ وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطا معلوما ولا يعين مقدار المدة بل يقول آجرتك كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملك المؤجر الفسخ وإن أفلس بعد مضي شيء منها فهل يملك الفسخ على وجهين:

أحدهما: لا يملكه لأن مضي بعضها كتلف بعض المبيع وهو يمنع الرجوع

والثاني: يملكه وهو قول القاضي وهو الصحيح لأن المنافع إنما تملك شيئا فشيئا بخلاف الأعيان فإنها تملك في ان واحد فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع

المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق في ذلك

فالحيلة في ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج الدار إلى عمارته من أجرتها ويقدر لذلك قدرا معلوما فيقول مثلا: بمائة فما دونها أو يقول: من عشرة إلى مائة فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها وأنه غير متبرع به وحسب له من الأجرة

وكذلك إذا استأجر منه دابة واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك

فإن قال: أذنت لك أن تنفق على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فادعى قدرا وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر

والحيلة في قبول قول المستأجر: أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعه إليه ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فالقول حينئذ قوله لأنه أمين

فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذي قبضه ويقول: إنه تلف وهو أمانة فلا يلزمني ضمانه فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يقرضه إياه ويجعله في ذمته ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك

المثال السابع: إذا آجره دابة أو دارا مدة معلومة وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة فطريق التخلص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأجرتها بعد لكل يوم دينار أو نحوه فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة

المثال الثامن: إذا كان له عليه دين فقال: اشتر له به كذا وكذا ففعل لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئا لنفسه من دين الغير بفعله

وطريق التخلص: أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برىء منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه فكما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه وإنما برىء بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا فقالوا: لا يصح العقد لأنا لا نعلم على أي المسافتين وقع العقد

قالوا: والحيلة في تصحيحه: أن يسمي للمكان الأقرب أجرة ثم يسمي منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى فيقول مثلا: آجرتك إلى الرملة بمائة ومن الرملة إلى مصر بمائة لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى ويكون قد أقام في المكان الأقرب فالحيلة في تخلصه: أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه ويصح اشتراط الخيار في عقد الإجارة إذا كانت على مدة لا تلي العقد والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان ولا غرر في ذلك ولا جهالة

وكذا إذا قال: إن خطت هذا الثوب روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإن العمل إنما يقع على وجه واحد

وكذلك قطع المسافة فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة فلا يشبه هذا قوله: بعتكه بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة فإنه إذا أخذه لا يدري بأي الثمنين أخذ فيقع التنازع ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما بخلاف عقد الإجارة

فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا فيجب أجرة عمله

المثال العاشر: إذا زرع أرضه ثم أراد أن يؤجرها والزرع قائم لم يجز لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض

وطريق تصحيحها: أن يؤجره يبيعه الزرع ثم يؤجر الأرض فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة فالحيلة: أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإذا تم العقد اشترى منه الزرع فعاد الزرع إلى ملكه وصحت الإجارة المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر لم يصح

لأن الخراج تابع لرقبة الأرض فهو على مالكها لا على المنتفع بها: من مستأجر أو مستعير

وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا

وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة ويوكله في إنفاقه عليها

والقياس يقتضي صحة العقد بدون ذلك فإنا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة يجوز أن يكون بعض الأجرة والبعض الآخر شيء مسمى

المثال الثاني عشر: لا تجوز إجارة الأشجار لأن المقصود منها الفواكه وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها

قالوا: والحيلة في جوازه: أن يؤجره الأرض ويساقيه على الشجر بجزء معلوم

قال شيخ الإسلام: وهذا لا يحتاج إليه بل الصواب جواز إجارة الشجر كما فعل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير فإنه آجرها سنين وقضى بها دينه

قال: وإجارة الأرض لأجل ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والذيار في الكرم حتى تحصل الثمرة كما يقوم على الأرض بالحرث والسقي والبذر حتى يحصل المغل فثمرة الشجر تجري مجرى مغل الأرض

فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغل من البذر وهو ملك المستأجر والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه في الأرض وسقيه والقيام عليه بخلاف استئجار الشجر فإن الثمرة من الشجرة وهي ملك المؤجر

والجواب من وجوه:

أحدها: أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه وإنما هو فرق عديم التأثير

الثاني: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذي ينبته الله سبحانه وتعالى بدون بذر من المستأجر فهو نظير ثمرة الشجرة

الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة والقيام على الشجرة فهي متولدة من عمل المستأجر ومن الشجرة فللمستأجر سعي وعمل في حصولها

الرابع: أن تولد الزرع ليس من البذر وحده بل من البذر والتراب والماء والهواء فحصول الزرع من التراب الذي هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة والبذرفي الأرض قائم مقام السقي للشجرة فهذا أودع في أرض المؤجر عينا جامدة وهذا أودع في شجرة عينا مائعة ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله وهذا من أصح قياس على وجه الأرض

وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثرة في الأحكام ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه فهو إجماع منهم

ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم أو وقفا فإن المؤجر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذ ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق في أجارة الأرض فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يخسره في عقد آخر ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد في عقد بأن يقول: إنما أساقيك على جزء من ألف جزء بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا فإن هذا لا يصح فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة وبالله التوفيق

المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هي وأجرتها فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع وأنه ضامن لما غرمه المشتري من ذلك ويصح ضمان الدرك حتى عند من يبطل ضمان المجهول وضمان ما لم بجب للحاجة إلى ذلك فإن ضمن من يخاف استحقاقه: كان أقوى فإن خاف أن يظهر استحقاق على وارثه بعد موته ضمن الدرك ورثة البائع أو ورثه من يخاف استحقاقه إن أمكنه فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين وهذا قول ضعيف جدا فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفي المنفعة بلا عوض والعوض الذي بذله في مقابلة العين لا للانتفاع فإلزامه بالأجرة إلزام بما لا يلتزمه وكذلك نقول في المستعير: إذا استحقت العين لم يلزمه عوض المنفعة لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانا بلا عوض بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعوض ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذي دخل عليه

وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها ثم استحقت لم يلزمه المهر لأنه دخل على أن يطأها مجانا بخلاف الزوج فإنه دخل على أن الوطءفي مقابلةالمهر ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور لأنه معذور غير ملتزم للضمان وهو محسن غير ظالم فما عليه من سبيل وهذا هو الصواب فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانة خاصة ولا يرجع عليه بما التزم غرامته

فإذا غرم المودع أو المتهب قيمة العين والمنفعة رجع على الغار بهما وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين دون قيمة المنفعة إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى حيث لم يلتزم ضمانه وإذا ضمن وهو مشتر أو مستعير قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى

والمقصود: أن هذا المشتري متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع فالحيلة في تخلصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة

المثال الرابع عشر: إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشتري له جارية معينة ثم خاف الموكل أن تعجب وكليه فيتزوجها أو يشتريها لنفسه فطريق التخلص من ذلك في الجارية، أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهي حرة ويصح هذا التعليق والعتق وأما الزوجة: فمن صحح هذا التعليق فيها كمالك وأبي حنيفة نفعه وأما على قول الشافعي وأحمد فإنه لا ينفعه

فطريق التخلص: أن يشهد عليه أنها لا تحل له وأن بينهما سببا يقتضي تحريمها عليه وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلا

فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى فالحيلة: أن يعزل نفسه عن الوكالة ثم يعقد عليها لنفسه ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلا لنفسه عن الوكالة

فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفي يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل فأراد التخلص من ذلك فالطريق في ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه فإنه إذا اشتراها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه في غيبة موكله وهو ممتنع فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلا

المثال الخامس عشر: إذا وكله في بيع جارية ووكله آخر في شرائها فإن قلنا: الوكيل يتولى طرفي العقد جاز إن يكون بائعا مشتريا لهما وإن منعنا ذلك فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه ثم يشتريها لموكله فإن خاف أن لا يفي له المشتري الذي توثق منه فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار فإن وفى له بالبيع وإلا كان متمكنا من الفسخ

المثال السادس عشر: لا يملك خلع ابنته بصداقها فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها فالطريق: أن يتملكه عليها ثم يخلعها من زوجها به فيكون قد اختلعها بماله والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز ذلك وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها وربما كان هذا خيرا لها

المثال السابع عشر: إذا وكله أن يشتري له متاعا فاشتراه ثم أراد أن يبعث به وإليه فخاف أن يهلك فيضمنه الوكيل فطريق التخلص من ذلك: أن يستأذن الوكيل أن يعمل في ذلك برأية ويفوض إليه ذلك فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه

المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يسلم وعنده خمر أو خنازير وأراد أن لا يتلف عليه فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام ثم يسلم ويكون له المطالبة بالثمن سواء أسلم المشتري أو بقي على كفره نص على هذا أحمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن الذي قد وجب له يوم باعه

المثال التاسع عشر: إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلا فالحيلة: أن يلقي فيه أولا ما يمنع تخمره فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته ولم يجز له حبسه حتى يتخلل فإن فعل لم يطهر لأن حبسه معصية وعوده خلا نعمة فلا تستباح بالمعصية

المثال العشرون: إذا كان له على رجل دين مؤجل وأراد رب الدين السفر وخاف أن يتوى ماله أو احتاج إليه ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول فأراد ان يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه فقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة فأجازها ابن عباس وحرمها ابن عمر وعن أحمد فيها روايتان أشهرهما عنه: المنع وهي اختيار جمهور أصحابه والثانية: الجواز حكاها ابن أبي موسى وهي اختيار شيخنا

وحكى ابن عبد البر في الاستذكار ذلك عن الشافعي قولا وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول ولا يحكونه وأظن أن هذا إن صح عن الشافعي فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط بل لو عجل له بعض دينه وذلك جائز فأبرأه من الباقي حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم صح عنده لأن الشرط المؤثر في مذهبه: هو الشرط المقارن لا السابق وقد صرح بذلك بعض أصحابه والباقون قالوا: لو فعل ذلك من غير شرط جاز ومرادهم الشرط المقارن

وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط ولا بدونه سدا للذريعة وأما أحمد فيجوزه في دين الكتابة وفي غيره عنه روايتان واحتج المانعون بالآثار والمعنى

أما الآثار: ففي سنن البيهقي عن المقداد بن الأسود قال: أسلفت رجلا مائة دينار ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله فقلت له: عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير فقال: نعم فذكرت ذلك لرسول الله فقال: أكلت ربا مقداد وأطعمته وفي سنده ضعف

وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه: قد سئل عن الرجل له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه

وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال: لرجل علي دين فقال لي: عجل لي لأضع عنك قال: فنهاني عنه وقال: نهى أمير المؤمنين يعني عمر أن يبيع العين بالدين

وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال: لا آمرك أن تأكل هذا ولا تؤكله رواه مالك في الموطأ

وأما المعنى: فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه وذلك عين الربا كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين فقال: زدني في الدين وأزيدك في المدة فأي فرق بين أن تقول: حط من الأجل وأحط من الدين أو تقول: زد في الأجل وأزيد في الدين

قال زيد بن أسلم: كان ربا الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضي أم تربي فإن قضاه أخذه وإلا زاذه في حقه وأخر عنه في الأجل رواه مالك

وهذا الربا مجمع على تحريمه وبطلانه وتحريمه معلوم من دين الإسلام كما يعلم تحريم الزنى واللواطة والسرقة

قالوا: فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر

قال المبيحون: صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: أعجل لك وتضع عني وهو الذي روى أن رسول الله لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل فقال النبي  : ضعوا وتعجلوا قال أبو عبد الله الحاكم: هو صحيح الإسناد

قلت: هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات: وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به وقال البيهقي: باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله فوضع عنه طيبةبه أنفسهما وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط بل هذا عجل وهذا وضع ولا محذور في ذلك

قالوا: وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين فهذا ضد الربا صورة ومعنى

قالوا: ولأن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة فتشتغل الذمة بغير فائدة وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين وينتفع ذاك بالتعجيل له

قالوا: والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون وسمى الغريم المدين: أسيرا ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر وهذا لازم لمن قال: يجوز ذلك في دين الكتابة وهو قول أحمد وأبي حنيفة فإن المكاتب مع سيده كالأجنبي في باب المعاملات ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين ولا يبايعه بالربا فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته ويضع عنه باقيها لما له في ذلك من مصلحة تعجيل العتق وبراءة ذمته من الدين لم يمنع ذلك في غيره من الديون ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال: لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة وعوض الخلع والصداق لكان له وجه فإنه في القرض يجب رد المثل فإذا عجل له وأسقط باقيه خرج عن موجب العقد وكان قد أقرضه مائة فوفاه تسعين بلا منفعة حصلت للمقرض بل اختص المقترض بالمنفعة فهو كالمربي سواء في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد وجعل العوض حالا أنقص مما كان وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل لكن تحيلا عليه والعبرة في العقود بمقاصدها لا بصورها فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه

فتلخص في المسألة أربعة مذاهب:

المنع مطلقا بشرط وبدونه في دين الكتابة وغيره كقول مالك

وجوازه في دين الكتابة دون غيره كالمشهور من مذهب أحمد وأبي حنيفة

وجوازه في الموضعين كقول ابن عباس وأحمد في الرواية الأخرى

وجوازه بلا شرط وامتناعه مع الشرط المقارن كقول أصحاب الشافعي والله أعلم

المثال الحادي والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه في شهر كذا من سنة كذا فإن لم يفعل فعليه مائتان فقال القاضي أبو يعلى: هو جائز وقد أبطله قوم آخرون

والحيلة في جوازه على مذهب الجميع: أن يعجل رب المال حط ثمانمائة بتا ثم يصالح عن المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما

المثال الثاني والعشرون: إذا كاتب عبده على ألف يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى فهي كتابة فاسدة ذكره القاضي لأنه علق إيجاب المال بخطر ولا يجوز ذلك

والحيلة في جوازه: أن يكاتبه على ألفي درهم ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون قد علق الفسخ بخطر فيجوز وتكون كالمسألة التي قبلها

المثال الثالث والعشرون: إذا كان له عليه دين حال فصالحه على تأجيله أو تأجيل بعضه لم يلزمه التأجيل فإن الحال لا يتأجل والصحيح: أنه يتأجل كما يتأجل بدل القرض وإن كان النزاع في الصورتين فمذهب أهل المدينة في ذلك هو الراجح وطريق الحيلة في صحة التأجيل ولزومه: أن يشهد على إقرار صاحب الدين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذي تفقا عليه وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق فإذا فعل هذا أمن رجوعه في التأجيل المثال الرابع والعشرون: إذا اشترى من رجل دارا بألف فجاء الشفيع يطلب الشفعة فصالحه المشتري على نصف الدار بنصف الثمن جاز ذلك لأن الشفيع صالح على بعض حقه كما أنه لو صالح من ألف على خمسمائة فإن صالحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن يقوم البيت ثم تخرج حصته من الثمن جاز أيضا لأن حصته معلومة في أثناء الحال فلا يضر كونها مجهولة حالة الصلح كما إذا اشترى شقصا وسيفا فللشفيع أن يأخذ الشقص بحصته من الثمن وإن كانت مجهولة حال العقد لأن مآلها إلى العلم وقال القاضي وغيره من أصحابنا: لا يجوز لأنه صالحه على شيء مجهول ثم قال: والحيلة في تصحيح ذلك: أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمى ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة ومساومته بالبيت تسليم للشفعة

فإن أراد الشفيع شراء البيت المعين وبقاءه على شفعته في الباقي فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة بل يصبر حتى يبتدىء المشتري فيقول: هذا البيت أخذته بكذا وكذا فيقول الشفيع: قد استوجبته بما أخذته به ولا يكون مسلما للشفعة في باقي الدار وليس في هذه الحيلة إبطال حق غيره وإنما فيها التوصل إلى حقه

المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليق الوكالة على الشرط كما يجوز تعليق الولاية والإمارة على الشرط وقد صح عن النبي تعليق الإمارة بالشرط وهي وكالة وتفويض وتولية ولا محذور في تعليق الوكالة بالشرط البتة

والحيلة في تصحيحها: أن ينجز الوكالة ويعلعق الإذن في التصرف بالشرط وهذا في الحقيقة تعليق لها نفسها بالشرط فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونفوذه والتوكل وسيلةوطريق إلى ذلك فإذا لم يمتنع تعليق المقصود بالشرط فالوسيلة أولى بالجواز

المثال السادس والعشرون: يجوز تعليق الإبراء بالشرط ويصح وفعله الإمام أحمد وقال أصحابنا: لا يصح

قالوا: فإذا قال: إن مت فأنت في حل مما لي عليك فإن علق ذلك بموت نفسه صح لأنه وصية وإن علقه بموت من عليه الدين لم يصح لأنه تعليق البراءة بالشرط ولا يصح كما لا يصح تعليق الهبة فيقال: أولا الحكم في الأصل غير ثابت بالنص ولا بالإجماع فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط وقد صح عن النبي أنه علق الهبة بالشرط في حديث جابر لما قال: لو قد جاءمال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا ثم هكذا ثلاث حثيات وأنجز ذلك له الصديق رضي الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله

فإن قيل: كان ذلك وعدا قلنا: نعم والهبة المعلقة بالشرط وعد وكذلك فعل النبي لما بعث إلى النجاشي بهدية من مسك وقال لأم سلمة: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت علي فهي لك وذكر الحديث رواه أحمد

فالصحيح: صحة تعليق الهبة بالشرط عملا بهذين الحديثين

وأيضا فالوصية تمليك وهي في الحقيقة تعليق للتمليك بالموت فإنه إذا قال: إن مت من مرضي هذا فقد أوصيت لفلان بكذا فهذا تميلك معلق بالموت وكذلك الصحيح: صحة تعليق الوقف بالشرط نص عليه في رواية الميموني في تعليقه بالموت

وسائر التعليق في معناه ولا فرق البتة ولهذا طرده أبو الخطاب وقال: لا يصح تعليقه بالموت والصواب طردالنص وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو مذهب مالك ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه

وفي المسألة وجه ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت دون غيره من الشروط وهذا اختيار الشيخ موفق الدين وفرق بأن تعليقه بالموت وصية والوصية أوسع من التصرف في الحياة بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم والحمل والصحيح: الصحة مطلقا ولو كان تعليقه بالموت وصية لامتنع على الوارث ولا خلاف أنه يصح تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون بطنا بعد بطن وأن كونه وقفا على البطن الثاني مشروط بانقضاء البطن الأول وقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. وقال النبي المسلمون عند شروطهم

والقياس الصحيح: يقتضي صحة تعليقه فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة اتفاقا وكذلك إذا كان على آدمي معين في أقوى الوجهين وما ذاك إلا لشبهه بالعتق

والمقصود: أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله فمنعه مخالف لموجب الدليل والمذهب

ويقال ثانيا: لا يلزم من بطلان تعليق الهبة بطلان تعليق الإبراء بل القياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه لأنه إسقاط محض ولهذا لا يفتقر إلى قبول المبرىء ولا رضاه فهو بالعتق والطلاق أشبه منه بالتمليك

وعلى هذا فيستغنى بالصحة في ذلك كله عن الحيلة

فإن احتاج إلى التعليق وخاف أن ينقض عليه فالحيلة: أن يقول: لا شيء لي عليه بعد هذا الشهر أو العام أو لا شيء لي عليه عند قدوم زيد أو كل دعوى أدعيها عليه بعد شهر كذا أو عام كذا أو عند قدوم زيد بسبب كذا أو من دين كذا فهي دعوى باطلة أو يقول: كل دعوى أدعيها في تركته بعد موته: من دين كذا أو ثمن كذا فهي دعوى باطلة

وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى شيء من ذلك

المثال السابع والعشرون: إذا أعسر الزوج بنفقة المرأة ملكت الفسخ فإن تحملها عنه غيره لم يسقط ملكها للفسخ لأن عليها في ذلك منة كما إذا أراد قضاء دين عن الغير فامتنع ربه من قبوله لم يجبر على ذلك وطريق الحيلة في إبطال حقها من الفسخ: أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير فتصح الحوالة وتلزم على أصلنا إذا كان المحال عليه غنيا

وطريق صحة الحوالة: أن يقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنة أو شهرا أو نحو ذلك ثم يحيلها الزوج عليه فإن لم يمكنه الإجبار على القبول لعدم من يرى ذلك وكل الزوج الملتزم لنفقتها في الإنفاق عليها والزوج مخير بين أن ينفق عليها بنفسه أو بوكيله

وهكذا العمل في مسألة أداء الدين عن الغريم سواء

المثال الثامن والعشرون: إذا خاف المضارب أن يضمنه المالك بسبب من الأسباب التي لا يملكها بعقد المضاربة كخلط المال بغيره أو اشترائه بأكثر من رأس المال والاستدانة على مال المضاربة أو دفعه إلى غيره مضاربة أو إبضاعا أو إيداعا أو السفر به فطريق التخلص من ضمانه في هذا كله: أن يشهد على رب المال أنه قال له: اعمل برأيك أو ما تراه مصلحة

المثال التاسع والعشرون: إذا كان لكل من الرجلين عروض وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان ففي ذلك روايتان

إحداهما: تصح الشركة وتقوم العروض عند العقد ويكون قيمتها هو رأس المال فيقسم الربح على حسبه أو على ما شرطاه وإذا أرادا الفسخ رجع كل منهما إلى قيمة عروضه واقتسما الربح على ما شرطاه وهذا القول هو الصحيح

والرواية الثانية: لا تصح إلا على النقدين لأنهما إذا تفاسخا الشركة وأراد كل واحد منهما الرجوع إلى رأس ماله أو يقتسما الربح لم يعلم ما مقدار رأس مال كل منهما إلا بالتقويم وقد تزيد قيمة العروض وتنقص قبل العمل فلا يستقر رأس المال

وأيضا فمقتضى عقد الشركة: أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر وهذه الشركة تفضي إلى ذلك لأنه قد تزيد قيمة عروض أحدهما ولا تزيد قيمة عروض الآخر فيشاركه من لم تزد قيمة عروضه وهذا إنما يصح في المقومات كالرقيق والحيوان ونحوهما فأما المثليات فإن ذلك منتف فيها ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض: جوازها بالمثليات فالصحيح: الجواز في الموضعين لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين وكل من الشريكين متردد بين الربح والخسران فهما في هذا الجواز مستويان فتجويز ربح أحدهما دون الآخر في مقابلة عكسه فقد استويا في رجاء الغنم وخوف الغرم وهذا هو العدل كالمضاربة فإنه يجوز أن يربحا وأن يخسرا وكذلك المساقاة والمزارعة

وطريق الحيلة في تصحيح هذه المشاركة عند من لا يجوزها بالعروض: أن يبيع كل منهما بعض عروضه ببعض عروض صاحبه فإذا كان عرض أحدهما يساوى خمسة آلاف وعرض الآخر يساوي ألفا فيشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذي يساوي ألفا بسدس عرضه الذي يساوي خمسة آلاف فإذا فعلا ذلك صارا شريكين فيصير للذي يساوي متاعه ألفا سدس جميع المتاع وللآخر خمسة أسداسه أو يبيع كل منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى ثم يتقابضان فيصير مشتركا بينهما ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد وعلى قدر رءوس أموالهما عند الشافعي والخسران على قدر المال اتفاقا

المثال الثلاثون: إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح والشرط لازم هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه صح عن عمر وسعد ومعاوية ولا مخالف لهم من الصحابة وإليه ذهب عامة التابعين وقال به أحمد

وخالف في ذلك الثلاثة فأبطلوا الشرط ولم يوجبوا الوفاء به

فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك ولم يكن عندها حاكم يرى صحة ذلك ولزومه فالحيلة لها في حصول مقصودها: أن تمتنع من الإذن إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها أو نقلها من دارها أو تزوج عليها فهي طالق أو لها الخيار في المقام معه أو الفسخ فإن لم تثق به أن يفعل ذلك فإنها تطلب مهرا كثيرا جدا إن لم يفعل وتطلب ما دونه إن فعل فإن شرط لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى وجعلته حالا ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه أو يشرط لها ما سألته

فإن قيل: فعلى أي المهرين يقع العقد

قيل: يقع على المهر الزائد لتتمكن من إلزامه بالشرط فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت ويستقر عليه المهر الزائد فالحيلة: أن يشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئا من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى وأنها متى ادعت به فدعواها باطلة فيستوثق منها بذلك ويكتب هو والشرط ولها أن تطالب بالصداق الزائد إذا لم يف لها بالشرط لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهرا إلا في مقابلة منفعة أخرى تسلم لها وهي المقام في دارها أو بلدها أو يكون الزوج لها وحدها وهذا جار مجرى بعض صداقها فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى

المثال الحادي والثلاثون: إذا زوج ابنته بعبده صح النكاح فإن حضره الموت فخاف هو أو المرأة أن ترث جزءا منه فينفسخ النكاح

فالحيلة في بقائه: أن يبيع العبد من أجنبي فإن شاء قبض ثمنه وإن شاء جعله دينا في ذمته يكون حكمه حكم سائر ديونه فإذا ورثت نصيبها من ثمنه لم ينفسخ نكاحها وإن باع العبد من أجنبي قبل العقد ثم زوجه الابنة أمن هذا المحذور أيضا

وكذلك إذا أراد أن يزوج أمته بابنه وخاف أن يموت فيرث الابن زوجته فينفسخ النكاح باعها من أجنبي ثم زوجها الابن أو يبيعها من الأجنبي بعد العقد

المثال الثاني والثلاثون: إذا أحاله بدينه وخاف المحتال أن يتوى ماله عند المحال عليه وأراد التوثق لماله

فالحيلة في ذلك أن يقول: لا تحلني بالمال ولكن وكلني في المطالبة به واجعل ما أقبضه في ذمتي قرضا فيبرآن جميعا بالمقاصة

فإن خاف المحيل أن يهلك المال في يد الوكيل قبل اقتراضه فيرجع عليه بالدين

فالحيلة له: أن يقول للمحال عليه: اضمن عني هذا الدين لهذا الطالب فيضمنه فإذا قبضه قبضه لنفسه فإن امتنع المحال عليه من الضمان احتال الطالب عليه على أنه إن لم يوفه حقه إلى وقت كذا وكذا فالمحيل ضامن لهذا المال ويصح تعليق الضمان بالشرط فإن وفاه المحيل عليه وإلا رجع إلى المحال وآخذه بالمال

المثال الثالث والثلاثون: إذا كان له دين على رجل فرهنه به عبدا فخاف أن يموت العبد فيحاكمه إلى من يرى سقوط الدين بتلف الرهن

فالحيلة في تخليصه من هذا المحذور: أن يشتري العبد منه بدينه ولا يقبض العبد فإن وفاه دينه أقاله في البيع وإن لم يوفه الدين طالبه بالتسليم وإن تلف العبد كان من ضمان البائع ورجع المشتري إلى دينه الذي هو ثمنه

المثال الرابع والثلاثون: إذا كان له عليه دين فرهنه به رهنا ثم خاف أن يستحق الرهن فتبطل الوثيقة

فالحيلة فيه: أن يضمن دينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن فإذا استحقه عليه طالبه بالمال أو يضمنه درك الرهن أو يشهد عليه أنه لاحق له فيه ومتى ادعى فيه حقا فدعواه باطلة

المثال الخامس والثلاثون: إذا كان له عليه مائة دينار خمسون منها بوثيقة وخمسون بغير وثيقة وجحده الغريم القدر الذي بغير وثيقة

فالحيلة له في تخليص ماله: أن يوكل رجلا غريبا بقبض المال الذي بالوثيقة ويشهد على وكالته علانية ثم يشهد شهودا آخرين: أنه قد عزله عن الوكالة ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال ويثبت شهود وكالته فإذا قبض الخمسين دينارا دفعها إلى مستحقها وغاب ثم يطالبه المستحق بهذه الخمسين فإن قال: دفعتها إلى وكيلك أقام البينة أنه كان قد عزله عن الوكالة فيلزمه الحاكم بالمال ويقول له: اتبع القابض فخذ مالك منه

فإن كان الغريم حذرا لم يدفع إلى الوكيل شيئا خشية مثل هذا ويقول: لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكل وإقراره أنك وكيله فتبطل هذه الحيلة

المثال السادس والثلاثون: إذا حضره الموت ولبعض ورثته عليه دين وأراد تخليص ذمته فإن أقر له به لم يصح إقراره وإن وصى له به كانت وصية لوارث

فالحيلة في خلاصه: أن يواطئه على أن يأتي بمن يثق به فيقر له بذلك الدين فإذا قبضه أوصله إلى مستحقه فإن خاف الأجنبي أن يلزمه الحاكم أن يحلف أن هذا الدين واجب لك على الميت ولم تبرئه منه ولا من شيء منه لم يجز له أن يحلف على ذلك وانتقلنا إلى حيلة أخرى وهي أن يقول له المريض: بع دارك أو عبدك من وارثي بالمال الذي له علي فيفعل فإذا لزمته اليمين بعد هذا حلف على أمر صحيح فإن لم يكن له ما يبيعه إياه وهب له الوارث عبدا أو أمة فقبضه ثم باعه من الوارث بالدين الذي على الميت

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34