الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: طرق البحث التجريبي في بعض المعتقدات وفي أنواع الحوادث التي زعموا أنها خارقة للعادة

​الفصل الثالث: طرق البحث التجريبي في بعض المعتقدات وفي أنواع الحوادث التي زعموا أنها خارقة للعادة​ المؤلف غوستاف لوبون


الفصل الثالث

طرق البحث التجريبي في بعض المعتقدات وفى أنواع الحوادث
التي زعموا أنها خارقة للعادة


١ – نقص طرق الاختبار العادية .

إن الأوهام التي ذهب ضحيتها العلماء الذين درسوا حوادث استخدام الأرواح تثبت لنا أن طرق الاختبار المفيدة في ميدان المعرفة لا تنفع في ميدان المعتقد ، نقول إنها لا تنفع لان العالم يرى نفسه حينئذ في أحوال استثنائية يجب عليه فيها أن يبطل عمل التدليس المتوالي الذي لا صلة بينه وبين تجارب العلم العادية وأن يقاوم الأوهام التي لُقتها . فلكي نصل إلى بعض النتائج يقتضى تجديد طريقة البحث في الحوادث التي يجدر اتخاذها أصلاً لبعض المعتقدات ، وبما أن هذا الموضوع يخرج قليلا من دائرة هذا الكتاب فانني اكتفى بايجاز السبب في كون الطرق المزاولة حتى الآن لا قيمة لها مبينا المواضيع التي تفيد فيها طريقة الاختبار العادي .

ونلاحظ قبل كل شيء أن المؤمنين بحوادث السحر يقولون انها لا تقع متى اردنا ، إذ ليس على الآلهة الموجبة لها أن تسير حسب أهوائــا ، فالمشترى يرسل الصواعق متى شاء وإله البحر يثير الموج ويسكنه غير ملتفت الى دعاء الربابنة والملاحين .

غير أن استحالة التنبؤ باحدى الحادثات لا يمنع الانسان من فحصها فحصا علميا عند ظهورها ، ولذا نرى أن الصعوبة التي لاحظناها ليست على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة الى الصعوبات التي سوف نلمع اليها .

۲ – قيمة الشهادة والاختبار في البحث في المعتقدات

الشهادة هي أصل البحث في التاريخ ، والاختبار هو المرشد الهادى في مسائل العلم ، وأما في أمور السحر فـلا قيمة للشهادة ولا ينتفع بالتجربة والاختبار الا في أحوال مستثناة ، فما هو السبب في رفض الشهادة حتى عند تواتر الروايات وتوافقها ؟

أجيب عن ذلك بأن تاريخ أغلب حوادث السحر يثبت لنـا أن الوفا من الشهود ذكروا أنهم شاهدوا وقوع أمور ظهر بعدئذ أن مصدرها تهوس الأفراد أو الجموع ، ومن تلك الحوادث اتفاق الشهادات – في دعاوى قضائية عديدة أقيمت في القرون السابقة – بأن كتائب السحرة اجتمعت بالجن بين الرياح ، فمع أن حوادث التاريخ قلما تجد دعائم مثل تلك تستند اليها لإثبات صحتها فإنه لا يجرؤ اليوم أحد على المناضلة عن حوادث السحر ، وليس الآن حظ المعجزات التي شاهدها مئات من الناس في القرون الغابرة بأحسن من حظ تلك من حيث صحتها وثبوت وقوعها .

وعليه يجدر بنا أن لا نعتمد على الشهادات ولاعلى الاختبار الفردي في درس الحوادث الخارقة ، فالتلقين هو المصدر الدائم لهذه الأمور ، ويؤثر التلقين في الشاهد على الخصوص بأن يجعله يتوهم أنه يحقق وقوع احدى الحادثات ، حينئذٍ يستحوذ الموس عليه من كل جانب فيعتقد أنه يشاهد حقائق لا ريب في صحتها ، فلتصغ إلى ما يقصه علينا المؤمنون خوفا من أن يستولى الغم والحزن عليهم ولكن لنجدد في أنفسنا ما يحدثوننا به من قصص الخوارق للعادة .

تتجلى لنا صعوبة البحث في الحوادث الخارقة عند ما نعلم أنه ليس من السهل أن تختبر أبسط الأمور اختباراً دقيقا، قال الأستاذ ( بونيس ) : « إن تحقيق الحادثة الواحدة غير هين فنحن نميل بطبيعتنا الى تشويه ما نشاهده من الأمور على رغم أنوفنا وجعله ملائما لأفكارنا الشخصية وعاداتنا النفسية والطرز الذي ننظر به الى العالم .»

٣- قيمة تجربة الفرد وتجربة الجماعة .

بعد أن نقضنا أمر الشهادة والاختبار لم يبق لدينا شيء آخر سوى التجربة فالتجربة سهلة في المواضيع العادية ، وأما المواضيع التي ينظر اليها من خلال المعتقد فان التجربة في الغالب تؤيد ما فيها من خطأ وضلال بدلاً من كشف حقيقتها ، نعم قد يستعين المرء بالتجربة ، ولكن ما الفائدة في تطبيقها على أمور خفية غير منظورة ؟ فتذرع الرجل بآلة يحقق بهـا تنقل الشيء في وقت يقلبه الوسيط من وراء حجاب لا يؤدي الى تدقيق نافع .

ولصعوبة التجربة في مسائل السحر يجتمع العلماء بعضهم على بعض كى يتوصلوا الى نتيجة حاسمة فيها ، فهذا الاجتماع لا يجدي نفعا ، لأن العلماء وهم يجتمعون يلقن احدهم الآخر فينقص ما فيهم من ملكة الانتقاد ، د ، و بعد أن ينخفض مستواهم النفسي على هذا الوجه يتهون الى نتائج غير صحيحة ، ولا أظن ان اكتشافا كبيرا تَمَّ على يد جماعة حتى الآن ، فاذا اكتُشف شيء ينير السبيل في أمر السحر فأن ذلك لا يكون الا من قبل عالم على انفراد .

ولم يؤد تحقيق أمور السحر في انكلترا وفرنسا وإيطاليا الى شيء جديد سوى تأييد ما ذكرناه من الملاحظات أي أن الوسيط الواحد في هذه البلدان عُدَّ بحسب نفسية الحضور وقابليتهم للتأثر من التلقين إما مدلسَا وإمَّا بالعكس ذا قدرة - ۱ كالتي عزاها الناس في الماضي الى الشيطان ، وأكثر تلك التحقيقات أنشية – سواء جهة ما أنفق في سبيلها من مال وزمان أو من جهة شخصية المجربين البارزة -- من هو التحقيق الذي قام به معهد العلوم النفسية في باريس ، فعلى رغم الخمسة والعشرين الف فرنك التي بذلها والثلاثة والأربعين اجتماعا التي عقدها في هذا السبيل لم يتوصل المعهد المذكور الا الى نتائج ضئيلة ، ولم يتفق الحاضرون على حادث ظهر في الاجتماعات المذكورة فينوروا المسئلة ولو قليلا . 4 4 - ضرورة تحليل الحوادث والتدقيق في كل عنصر من عناصرها على حدته . تطبق ذلك على حادثة الرفع ا ا أن الفشل الذي أصاب تحقيق معهد العلوم النفسية يثبت لنا ضعف قيمة طرق البحث الحاضرة ، وعندي أنه يجمل بالباحث أن يحصر نظره في تدقيق حادث واحد حتي يظفر بنتيجة بدلا من أن يشعب ذهنه الى كثير من الحوادث دفعة واحدة، فلما لم يدرك احد فائدة هذا النهج رأيت أن اطبقه بنفسي على احدى الحادثات وهي منفردة اعنى حادثة رفع احد الأجسام من غير أن يامسه شيء ، وبعد أن عاينت الوسيطة ( اوزابيا ) مستعينا بالاستاذ ( داستر ) بقى فينا بعض الشك في أمرها مع أنه ليس في حادثة الرفع ما يأباه العقل ، اذ قد يتصف الوسيط بقوة خاصة يقدر بها على جـذب الأشياء كما يجذب المغناطيس الحديد" ، غير أننا رأينا قبل أن نتباحث في شأن تلك القوة أنه يقتضى اثبات وجودها قبل كل شيء . ولیکی ادعم شکوكي في امكان وقوع حوادث الرفع عزمت على مراجعة جميع الوسطاء الذين يزعمون أنهم قادرون على رفع الاشياء من غير لمس ، فخصصت مع البرنس ( رولان بوناپارت ) احد اعضاء مجمع العلوم والدكتور ( داريه ) مدير مجلة العلوم النفسية جائزة قدرها الفا فرنك تعطى للوسيط الذي يستطيع أن يرفع شيئا دون أن يمسه ، وقد نشرت خبر هذه الجائزة مع مقالة في جريدة ( الماتن ) التي هي من أهم الصحف ليطلع عليها الوسطاء فتناقلت اكبر جرائد العالم تلك المقالة أن التجربة التي اقترحتها ستكون دليلا قاطعا لاجدال فيه عنـد تحققها ، لأنى ( ۱۲ ) – الآراء - WA - اشترطت أن تقع نهاراً في مختبر الاستاذ ( داستر ) في كلية الصور بون وفى حضرة اثنين من المشعوذين وفوطوغرافى لأخذ تفاصيل التجربة بالصور المتحركة وأربعة . کے اعضاء المجمع العلمي ليكونوا شاهدين على الكيفية التي تتمع بها التجربة فقط ولم يمكن الاعتراض على تلك الشروط بأن حوادث الرفع لا تقع إلا في الظلام بعد أن صرح أكثر السحرة في الوقت الحاضر بأنهم لا يرون فرقا في ذلك بين الليل والنهار وبعد أن نصر الموسيو ( ماكسويل ) في كتابه على إمكان وقوع حوادث الرفع في وسط النهار وبعد أن قال الموسيو ( بواراك ) مدير المجمع العلمي في ( ديجون) إنه جذب خوانا مرات عديدة في النهار دون أن يمسه : ولماذا لم يسع الموسيو (بواراك) في نيل جائزة التي الفرنك وفيه تلك القدرة ؟ سوی اعلاني لاجائزة المذكورة أدى الى اخذى بضع مئات من الرسائل ، الا أنه لم يحضر لكسبها خمسة وسطاء ، وقد اخبرتهم بالشروط المذكورة آنفا وعاهدتهم على اقامة الاجتماعات التي يطلبونها فوعدوني جميعهم بالحضور في اليوم المعين ، ولكن لم يأت احد منهم في الأجل المضروب . ( ومع أن الوسيطة ( اوزابيا ) عجزت عن إمالة كفة ميزان الرسائل بعد أن روقبت مراقبة جدية فإن مستخدمى الارواح لا يزالون يدعون مؤكدين بأن الوسطاء يقدرون على رفع ما وزنه مئتا كيلو من غير لمس ، قال الاستاذ ( مورسيللى ) : « لا شك في صحة حادثة رفع الاخونة ، فالخوان قد يرتفع دون أن يمس ويبقى معلقاً مدة ثمان وسبعين ثانية ، على هذا الوجـه استطاع وسيط شاب شاعر أن يحرك خزانة وزنها ۱۸ کیلو . » وأنا لنأسف على كون الشاعر الشاب - الذي استطاع أن يزحزح ۱۸۰ كيلو من غير أن يمسها – لم يسع في نيل جائزة الفي الفرنك برفعه بضعة غرامات فقط . وأظننى اتيت بخدمة جليلة بأثباتي ندرة حوادث الرفع على فرض تسليمنا بامكان وقوعها ، وهو أمر لم نعثر قط على ما يؤيده . وقد اراد معهد العلوم النفسية أيضاً أن يحقق حوادث الرفع فعانى كثيراً من - i )) - ۱۱۹ - المتاعب في ذلك السبيل ، ومن دواعي الأسف أن ما تى به من التجارب والصور المؤيدة لتلك الحوادث لا تقنع أحداً . وما أسعد حظ علماء ايطاليا ، فقد رأوا أيديا روحانية ترفع الوسيطة ( اوزابيا ) في الهواء ، وبعد أن نال ( لومبروزو ) شرف المحادثة مع شبح أمه أيقن بصحة ما وقع ، وهذا ما قاله في حديث نشرته جريدة ( الماتن ) : « نعد صعود ( اورابيا ) – التي كانت جالسة مربوطة اليدين والرجلين ربطا وثيقا - على الخوان رويداً رويداً من الأمور الخارقة للمادة وما رأينا في اثناء صعودها سوى بدين روحانيتين آخذتين بابطيها لتساعداها على ذلك . » ا غير أن الروح التي أعانت بيديها الروحانيتين ( اوزابيا ) على رفع نفسها أو على رفع اخونة ثقيلة بسهولة لم تعضداها عندما أخذ بعض المرتابين يفحصون الأمر فحصاً جديا ، كانت هذه الوسيطة تميل في معهد المعلوم النفسية كفة ميزان الرسائل دون أن تمسها فأخذ الحضور يعتقدون صحة ذلك ، وفي تلك الأثناء لاح لأحدهم أن مصدر الميل ناشىء عن شعرة تمسكها الوسيطة بين اصابعها فكسى الكفة وسائر الميزان بسواد الدخان ليظهر عليه كل أثر للشعرة عندما تمسه ، ومنذ تلك اللحظة . لم تستطع ( اوزابيا ) أن تحرك كفة الميزان ولو مرة واحدة من غير أن تلمسها . وقد جربت ( اوزابيا ) أن تغير وزنها أمام معهد العلوم النفسية ، وفعلاً دل الميزان على نقص في الوزن غير قليل ، إلا أنه ثبت أنها أثرت بيديها في عقرب الميزان . ثبت مما تقدم أن حادثة الرفع التي هي أبسط ما يحدث عنه مستخدمو الأرواح ليست حقيقية ، وما اتينابه من البحث والتدقيق في المذهب الروحاني لم يخل من فائدة، فقد دلنا على انتشار دين جديد اعتنقه عـدد غير يسير من أفاضل العلماء الذين لم يستطيعوا العيش من غير أن يتمسكوا باحد المعتقدات ، فالآلهة قد تزول أحيانا ولكن النفسية الدينية لا تموت أبدأ .

ا

٥ –من هو جدير بالبحث في الأمور الروحانية؟ ؟

الآن أصل الى مسألة ذات بال يجب الاسهاب في بيانها ، وأعنى بها وصف الاشخاص الذين يستطيعون أن يحققوا الحوادث الروحانية .

فمن الخطأ الشائع بين الناس زعمهم ان العالم الاختصاصي قادر على اختبار أمور بعيدة من دائرة معرفته ولا سيما الأمور التي للوهم والتدليس شأن كبير فيها ، فالعلماء لما كانوا عائشين خالصي النية صادقى الطوية موطنين أنفسهم على تصديق ما يشاهدونه بمساعدة آلانهم الفنية أصبحوا بالحقيقة أكثر الناس تعرضا للحياة والخداع ، أثبت ذلك بالمثال الآتى الغريب الذي نشرته مجلة « تقاويم العلوم النفسية » واليكه :

« دعا الموسيو ( دافي ) اليه عدداً غير قليل من كبار أهل النظر وفيهم عالم من أشهر بعلماء انكلترا هو المستر ( والاس ) وتقدم لهم أشياء لمسوها بأيديهم وختموها كما شاؤوا ثم أجرى أمامهم جميع ظواهر هذا الفن من تجسيم الارواح والكتابة على السبورة وغيرهما ، وكتبوا له شهادات قالوا فيها إن المشاهدات التي وقعت أمامهم لا تنال الابقوة فوق قوة البشر فلما صارت الشهادات في يده قال لهم إن مافعله شعوذة بسيطة جداً ، قال راوي الحادثة : والذي يوجب الدهش والاستغراب في بحث الموسيو (دافي ) ليس إبداعه ومهارته في الحركات التي قام بها بل ضعف الشهادات التي كتبها أولئك الشهود الذين كانوا يجهلونها فقد ذكروا روايات كثيرة واقعية كلها خطأ ولو صح وصفهم الحوادث التي يروونها لتعذر تفسيرها بالشعوذة ، على أن الطريقة التي استنبطها الموسيو ( دافي ) بسيطة يدهش الإنسان لبساطتها من جرأته على استعمالها ، ولقد كان له من التأثير في افكار جماعته ما جعلهم يرون ما لم يروا. »

ذلك شأن التلقين على الدوام ، فتأثيره في ذوى النفوس السامية الذين يتذرعون مقدما بالحذر والاحتراز يثبت ماله السلطان الكبير .

إذا لا يقـدر العلماء أن يحققوا حوادث استخدام الأرواح تحقيقاً شافيا . فأولو النظر الذين يستطيعون ذلك هم الذين تمرنوا على خلق الأوهام وإيقاع الناس فيها أعنى المشعوذين وإنا لنحزن على كون معهد العلوم النفسية لم يدرك ذلك ، فلو استعان هذا المعهد ببعض المشعوذين لا أتفق خمسة وعشرين ألف فرنك، في سبيل تجارب لاطائل تحتها .

ومن الأمور المعلومة أن المؤمنين يرتابون بالمشعوذين ارتيابا شديدا خوفا من تبديد ما ران على قلوبهم من الاوهام ، فلما اقترح الاستاذ ( بينيه ) على معهد العلوم النفسية إحضار مشعوذين ماهرين لكشف الغطاء عما استحوذ على النفوس من الاضاليل عدل المعهد المذكور عن دعوته لحضور الاجتماعات كما جاء في رسالة أرسلها ذلك الاستاذ الىَّ .

ولا يسعنا الا أن نأسف على كون ذلك المعهد لم يرنح الى دعوة المشعوذين، والّا فما هي العلة التي تبرر رفض المعهد المذكور للاستعانة بأولئك المشعوذين الذين هم وحدهم يقدرون على ابطال عمل الحبل ؟ وكيف لم يشعر أعضاء اللجنة بضرورة الاستفادة من خبرة أناس تعودوا إيهام الناس ؟ ، ولقد اثبت الانكليز أنهم على جانب كبير من الصواب ، إذ اختارت جمعية المباحث النفسية في انكلترا مشعوذ يسمى ( مسكلاين ) لاكتشاف حقيقة الوسيط الذي اختبره معهد العلوم النفسية في باريس ، فاثبت هذا المشعوذ تدليس ذلك الوسيط .

حقًا إن طرق البحث في الحوادث الخارقة تتطلب شروطاً خاصة كما بينت ، فلما جهل كبار أهل النظر هذه الشروط وقعوا في ضلال مبين