الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الرابع: بحث في بعض الحوادث اللاشعورية التي هي مصدر المعتقدات


الفصل الرابع

بحث في بعض الحوادث اللاشعورية التي هي مصدر المعتقدات

١ – تأثير الإيمان في الاعضاء والشفاء.

سأذكر بين المباحث القائمة على التجربة تأثير بقايا أجساد القديسين والحج والمياه ذات المعجزات الخ. والمؤمنون من كل دين يسلمون بان هذه الاشياء قادرة على الشفاء . يؤيد ذلك ما علق على جدران معابد الآلهة من الذخائر المنذورة منذ القرون الغابرة .

ومن المحقق أن حج ألوف من المؤمنين سواء الى ( مكة ) أو الى (لورد ) أو الى ضفتي نهر (الغانج) لم يكن عبئًا في كل وقت ، فعندما يحرك الايمان الشديد قوى اللاشعور الخفية تبدو هذه القوى في الغالب أنها أشد تأثيراً من الوسائل التي يتذرع بها علم الطب لمداواة الأمراض ومما اعتقد أنه يفتح أفقا واسعا غير منتظر في علم وظائف الأعضاء هو إيضاح درجة تأثير التلقين الناشيء عن الصلوات و بقايا اجساد الأولياء والتعاويذ والتمائم في الأعضاء .

لاریب في أن هذا البحث المهم لا يكون جديا قبل أن يمضى وقت كبير ، إذ لم يبحث حتى الآن عن الشفاء القائم على تأثير الخوارق غير أناس مرتابين متصلبين في ارتيابهم أو مؤمنين أعمى الايمان بصائرهم ، فما أن هاتين الصفتين متساويتان في شل قوة الاختبار في الإنسان ولا يلبث المرتاب في تلك المواضيع أن يكون في بعض الأحيان معتقداً من حيث لا يشعر لم يسهل الوصول الى حقائق واضحة فيها .

ولقد بقيت جميع تلك الأمور- وهي محدودة أو مسلم بها على غير دليل تجريبى - مُقْصَاة في ميدان المعتقد غير جديرة بالاهتمام ، وما كان يلوح للأعين شيء أكثر استحالة من تحقيق وعود المبشرين القائلين بتأثير المياه والمساحيق العجيبة و بقايا القديسين وخواتم السحر الخ .

إلا أن المباحث العصرية في التلقين دلتنا على أن تلك المزاعم ليست عبئا ، إذ ۱۸۴ - أدت في الغالب الى شفاء في الجسم وزيادة في قوته ومنحت القلوب شجاعة واحيت في النفوس آمالاً . وهكذا ظهر لنا أن الحقائق العلمية ليس فيها ما في الأضاليل من فائدة في بعض الأوقات . وعل في الأعضاء قوى مجهولة تعملى عملها بتأثير الخيال ؟ لم يستطع أحد حتى الآن أن يجيب عن هذا السؤال جوابا قاطعاً ، ومع ذلك يمكننا أن نأتي بالفرضية الآتية هي : إن الخيال لاكان صادراً عن أحوال عضوية فان استمراره قد ينعكس على تلك الاحوال فيؤثر فيها ، ولهذا يكفى لنيل الشفاء احداث خیالات نفسية شديدة . وقد علم ذلك الأمر منذ زمن بعيد ، فقد أشار الفيلسوف الايطالي ( بومبانازی ) في رسالة نشرها سنة ١٥٣٥ الى أن عظاما للحيوانات بيعت على أنها من أجساد القديسين المشهورين كانت تشفى الناس كعظام هؤلاء القديسين الحقيقية ، ثم إن الشفاء بفعل الايمان قد استعان به الطبيب الشهير ( شاركو ) في أيامنا الحاضرة مرات عديدة بوجود ۲ - الأوهام الناشئة عن تلقين الفرد وتلقين الجماعة ، للتلفين سلطان عظيم على النفوس ، فيه آمن مدة سنتين أفاضل علماء الطبيعة - الذين أشرنا اليهم آنفا . أشعة خاصة لم تلبث أن اختفت بعد أن علموا أنها عبارة عن أوهام ، وهو الذي يجعل الناس يسلمون بصحة حوادث مستحيلة كتجسيم الأرواح بغتة ، على هذا الوجه اعتقد الكيماوي الشهير (كروكس ) خروج شيخ ( كاني كينغ ) من الوسيطة مع أن هذا الشبح لم يكن غير الوسيطة نفسها ، وقد قبض أخيراً على هذه الوسيطة في برلين عند ارتكابها جرم التدليس الذي كانت بمثله أوهمت العالم الانكليزي المشار اليه . أفلا يوجد في العالم أناس ذوو قدرة عظيمة على التلقين يستطيعون أن يؤثروا الناس تأثيراً كبيراً ؟ يغاهر أن بعض الحوادث تؤيد ذلك ، ؟ من بها في من يحيط ومنها حوادث الرفع التي يأتى بها الوسطاء أمام الجمهور قائلين إنهم اقتبسوها من دراويش الهند ا ا والتقين في الأمور الروحانية تأثير عظيم الى الغاية ، وقد اعترف بذلك دعة المذهب الروحاني من أنفسهم ، فقد قال ( ماكسويل ) : « يلقن الحاضرون بعضهم بعضا فلا يلبثون أن يكون عندهم هوس جامع ، ومما سمعته أن أحد الحضور أشار الى أنه يرى نورا في جهة معينة فالتفت الباقون ورأوا ما رآه ، ثم أعلن رجل أنه يشاهد صورة فشاهد الآخرون ما شاهده ، هذا هو هوس الجماعة ، وقد أيدت لي تجاربي الشخصية أن حاسة البصر هي أكثر الحواس استعداداً لقبول الانطباعات الوهمية . » للتلقين في بعض الاحيان تأثير خارق ، فقد بلغ في إغوائه للسحرة في القرون الوسطى مبلغا جعلهم يرضون مطمئنين بحرقهم كتكفير عن خطيئاتهم الخيالية ، ويلوح لنا أن مزاج المختبرين النفسي في الوقت الحاضر - ومنهم أفاضل العلماء – يقرب من مزاج اولئك السحرة من هذه الجهة ، لأننا على رغم ادعائهم بأنه لا سبيل للوهم فيهم الا في أحوال شادة نراهم عاجزين عن التفلت من حكمه ، فليس من الهين أن يتحرر الانسان من ربقة المعتقد . ، وكلما حاول ذلك عاد اليها بفعل التلقين الذي يستولى على عقله و بصيرته . وقد أوضح الأستاذ ( غراسيه ) هـذا الأمر ايضاحاً جيداً حيث قال : « إن من الأمور الغريبة ما يطرأ على المختبرين من أحوال غير طبيعة عندما يحاولون درس ذلك ، فبعد أن أوضح ( لومبروزو ) في مذكراته تجارب علمية دقيقة في أمور الطب أخذ يشرح فيها صحة ظهور الأموات ومناجاتهم ورفع الاشياء من غير أن تمس كندور ان (هوم)حول نوافذ أحد القصور دورانها أفقيا من دون أن يلمس شيئا وكركض أخوى ( روفو ) الصغيرين خمسا وأربعين كيلو متراً في مدة لا تزيد على خمس عشرة دقيقة وكتقمص الأرواح لقسم من جوهر الوسيط تقمصا موقتا كي تبدو تامة الأعضاء ، وهكذا نرى أن خيرة العلماء ينسون قواعد العلم ومناهجه حينما يكونون إزاء حوادث السحر ولكن هذا الاستعداد النفسي يختلف باختلاف الأفراد والشعوب ، فقد أتى الوسيط الواحد بنتائج مختلفة في انكلترا وفرنسا وإيطاليا أي إن هـذه النتائج كانت كالعدم في انكلترا ومتوسطة في فرنسا وباهرة في ايطاليا . t 140 و يتجلى ما لتنين بعض الوسطاء للحضور ومنهم العلماء التأثير الكبير عطالعة تقرير معهد العلوم النفسية في باريس الباحث عن الوسيطة ( أوزابيا ) ، واليك المثال الآتي الذي تنقله منه : « رجت الوسيطة ( اوزابيا ) الموسيو ( دارسونقال ) أن يرفع الخوان المستدير فرفعه بسهولة ثم منعته من الرفع فلم يقدر على زحزحته ثم وضمت يدها على الخوان فرفعه بدون صعوبة ، ثم قالت للخوان كن خفيفا فرفعه على وجه أسهل من ذي قبل تثبت هذه التجربة تأثير بعض الوسطاء في الناس بواسطة التلقين ، ، ومع ذلك سألت مستغربا عن تسليم ذلك العضو في المجمع العلمي بأن أحد الناس قد يكون ذا قدرة خارقة يستطيع أن يغير بها وزن الأجسام تغييراً متفاوتا إلى الغاية من دون أن يخطر بباله أن يحقق الأمر بالميزان ، نعم حاول معهد العلوم النفسية أن يعيد تجار به مرة أخرى ، إلا أنه أجراها في أحوال اعترف بأنها لا تنشىء طمأنينة في النفس ، فمثل تلك الحادثة يقتضى تكريرها ألف مرة لا مرة واحدة . ويحتمل أن الوهم قد استحوذ على الموسيو ( دارسونقال ) عند ما تصور بتأثير تلقين ( اوزابيا ) أنه حقق تغيير وزن الشيء الواحد كما استحوذ عليه وقتها توهم وجود أشعة ( 1 ) فالقى عنها محاضرة حماسية قال فيها بصحة جميع حوادثها المزعومة ، فالسهولة التي لقن بها جميع علماء الطبيعة الفرنسوبين فيما يتعلق بتلك الأشعة هي من الأدلة البارزة التي يستدل بها على عظم شأن التلقين في تكوين المعتقدات - تحول الارواح الفردية الى روح جامعة . ا إن مبحث تكوين روح الجموع هو أحد مباحث علم النفس الغامضة التي يجب الإكتفاء إزاءها بالملاحظة والمشاهدة ، وما يمكننا أن نقوله في ذلك هو أن الجموع ذات وحدة في المشاعر لا في الذكاء ، وما في المشاعر من الاستعداد للانتقال بالعدوى يوضح لنا السبب في كون الناس عند ما يجتمعون يكتسبون ما تتصف به الجماعة من صفات وأخلاق أي تتكون في الاجتماع المذكور روح جامعة على الفور فيظهر فيه زعيم ومسوسون . وما هو كله تلك العدوى ؟ أشعاع ذو طبيعة خاصة أم شيء آخر ؟ يستحيل علينا أن نجيب عن ذلك او يصعب علينا أيضا أن نكتشف طريقة تجريبية تؤدى الى حل المسئلة المذكورة ، فتكوين روح الجماعات وتطورها وانحلالها عبارة عن ألغاز في علم النفس ، وكل ما يقوله علم النفس هو أن روح الجموع ذات تأثير جوهري في حياة الأمم .

٤ – انحلال الذات .

تكلمت هذه الحادثة في فصل سابق ، فعندي أن الذات هي ثمالة تنتقل بالإرث ملتحمة الأجزاء على قدر الإمكان ، إلا أن كثيراً من المؤثرات كالتنويم المغناطيسي وملازمة الوسطاء والحوادث الثورية الشديدة الخ تحل تلك الثمالة فتتألف من أجزائها ذات جديدة موقتة تختلف بأفكارها وأقوالها وأعمالها . الأصلية اختلافا تاما ، وقد طبقت هذه النظرية على بعض رجال الثورة الفرنسوية الذين لم يبد منهم قبل نشوبها ما يدل على ما سيقترفونه فيها من الآثام والذين لم يدركوا كمنه المحرض لهم على ذلك بعد سكونها .