الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الخامس: كيف تستقر النفس في دائرة المعتقد؟ وهل من حد للسذاجة وسرعة التصديق؟

​الفصل الخامس: كيف تستقر النفس في دائرة المعتقد؟ وهل من حد للسذاجة وسرعة التصديق؟​ المؤلف غوستاف لوبون


الفصل الخامس

كيف تستقر النفس في دائرة المعتقد
وهل من حد للسذاجة وسرعة التصديق ؟


١ – معرفة العلماء ومعتقدهم .

أود أن أزيد الأدلة التي جاءت في هذا الكتاب إثباتا وتأييداً ، ولذا أبحث بحثا موجزاً عن الكيفية التي يترك بها أرباب الملكات العلمية دائرة المعرفة عند ما يدخلون دائرة المعتقد بفعل أنواع المنطق التي شرحناها في الفصول السابقة . لإدراك السبب في كون كثير من أكابر العلماء الذين تعودوا تجارب العلم الوثيقة لا يلبثون أن يؤمنوا ببعض الخوارق كتجسيم الأرواح يجب أن لا ننسى أن المنطق العقل والمنطق الديني يبقيان في النفس الواحدة مهما تكن ، فدوائر العقل والتدين والعاطفة مستقل بعضها عن بعض وتكون مصادر الايمان مختلفة بحسب الانتقال من احدى تلك الدوائر الى الأخرى .

إن الارتياب في دائرة العقل هو القاعدة ولا دليل فيها غير التجربة والاختبار ، وأما في دائرة المعتقد حيث يسيطر المنطق الديني فلا حد للسذاجة وسرعة التصديق ، ولكن كيف يترك العالم المرتاب دائرة العقل ليدخل في دائرة المعتقد ؟ يدل الواقع على أنه يدخل فيها غير مختار و إن كان لا يعدل عن تجاربه ، وبما أن الايمان يدخل في قلبه على وجه غير شعوري من حيث لا يعلم فان تجاربه تتطور على شكل بتأيد به إيمانه الجديد وتسير على ما يلائم معتقـده لا إرادته ، يؤيد ذلك تاريخ الأديان المفعم بخوارق العادات .

٢ – كيف يصبح العالم مؤمناً ؟

لنفرض أن عالما كثير الشك والارتياب أراد أن يحث في حوادث السحر بحثا تجريبياً ، فيجب عليه قبل كل شيء أن يلازم مكان السحرة حيث تتجلى تلك الحوادث أي أن يزيج بين أناس مجتمعين في وسط مظالم ، وبعد أن ينتظر طويلا يسمع ضوضاء وزحولا في الأمتعة ويؤكد له جانبوه أنهم يرون وميضا وصوراً تقمصتها أرواح الخ ، ولما كان هذا العالم متصلبا في ارتيابه فانه يخرج من دون أن يطرأ شيء على شكوكه .

ومع ذلك فان أموراً تقرع ذهنه بعد الاجتماع المذكور ، فيلوح له أنه سمع فيه ضوضاء غريبا وأن مجانبيه – وهم من أشرف الناس رأوا وميضا وشاهدوا الأمتعة تنتقل من غير أن يمسها الوسيط ، فيرغب في الحضور مرة أخرى للبحث عن أسباب تلك الحوادث .

يعود الى الاجتماع فيكون هدفا للتلقين والعدوى النفسية ثم تستحوذ عليه - YAA — الوساوس والشبهات ، فيرى أنه لا بد من أن يكون شيء خلف الحوادث المذكورة التي سلم بصحتها عدد غير قليل من العلماء ، ثم يعود الى الاجتماع مرات عديدة فتستأنف تلك المؤثرات النفسية عملها فيه فيتدرج الى فقد ارتيابه حتى تغيب ملكة الانتقاد فيه فيدخل في دائرة المعتقد راسخ الايمان . ومع ان ذلك التدرج دليل على تقهقر منطقه العقلى لا يعترف بالواقع فيأتى بتجارب جديدة مستعينا بآلاته وأدواته العلمية وينصب حبائل لاصطياد الأشباح . ولكن لما كانت الأشباح أمراً لا تناله يد المراقبة فان تجارب قاما العلم تنجح في شؤونها ، حينئذ يكتفى العالم بظواهر الأمور وتفوته عوامل التدليس مهما تكن ظاهرة ، وهكذا حتى يتم قهر منطقه العقلي فيعلن العالم ايمانه بالمعتقد الجديد على رؤوس الأشهاد، على هذه الصورة تمت مباحث كثير العلماء في الوقت الحاضر، ومن هؤلاء العلماء الأستاذ الشهير ( لومبروزو ) الذي كان شديد الارتياب عند ما باشر تدقيقاته فاصبح شديد الإيمان في نهاية الأمر كما يشهد بذلك كتابه الأخير . تبين مما سبق كيف أن العلم لا يقدر على تحرير الانسان من أوهام المعتقـد ، ولو طبتمنا أحكامنا على انتشار الأديان التاريخية لاتضح الأمر أكثر من تطبيقها على أمور السحر ، فالأديان تذيع في الغالب بين أناس بسطاء عاطلين من ملكة النقد عاجزين عن التعقل والتجربة والاختبار ، وفي هؤلاء الناس قد تؤثر عوامل الايمان ولا سيما النفوذ والعدوى النفسية أكثر مما تؤثر في العلماء الذين يتذرعون بوسائل يمكنها أن تقيهم فعل هذه العوامل ، نقول قد تؤثر لأننا نعلم أن العالم والجاهل وإن اختلفا من الوجهة العقلية يتقاربان من الوجهة الدينية والعاطفية في أغلب الأوقات ، وقاما تكون معتقدات العالم الشهير الدينية والسياسية والاجتماعية أعلى معتقدات أحقر الرعاة . --- حدود السذاجة وسرعة التصديق يدلنا هذا الفصل والفصول السابقة على أنه لا حد للسذاجة وسرعة التصديق في ميدان المعتقد وأنه لا فرق فيه بين العالم والجاهل ، فالعالم الذي يشك في الكسور . - ۱۸۹ -- العشرية قد يؤمن من غير صعوبة بخروج محارب على رأسه خوذة من جسم أحد الوسطاء وبمشيه في احدى القيعان وبتعريضه نفسه للحضور کی بجسوا نبضه و يعتقدوا نه ليس شيخا فارغاً أو غازاً لا يمكن مسه . ولا قرار لسرعة التصديق والسذاجة فقد جاء في عدد من مجلة استخدام الأرواح التي يديرها أحد اساتذة كلية الطب في باريس ما يأتى : اولا حكاية وسيط رفع ساعة كبيرة من غير أن يمسها ، ثانيا صور بعض الارواح ، ثالثا البحث عن جن يسكنون الغابات ، رابعا قصة أربعة اشباح أنشدت نشيد ( المرسيلياز ) الخ . إذا لا يفضل العالم الجاهل من حيث سذاجته وسرعة تصديقه ، فالسذاجة المتناهية هي حال نفسية قد تهيمن علينا جميعا عند ما تخرج من دائرة المعرفة لندخل في دائرة المعتقد الأسرار حقا إن بضاعة العلم مزجاة ، فهو لا يوضح سوى عدد يسير من المحيطة بنا ، الا أنه يقول إن الحوادث تابعة لنواميس ثابتة غير متقلبة . وما تخلص البشر من الهمجية النفسية الأولى إلا بعد أن ضرب بالخرافات والاساطير القديمة عرض الحائط وصار لا يخاف سلطان المشعوذين والخوارق والسحرة، ولم يكتشف مستخدمو الأرواح في كل جيل حقيقة مجهولة أن طرق العلم ومناهجه تخرج من العدم عالما مؤلفا من العجائب ، فلنترك زمر الاشباح والأرواح التي هي بنات الليل الى أرباب النفوس المريضة والننظر الى النور الذي يتبدد أمامه جيش الظلام . ا لا جدال في هذه النتائج ، غير أنها لم تحل المشكلة من جميع وجوهها ، فجميع الناس في كل زمن سكبوا في قالب المعتقد الذي هو ضروري لحاجات النفس الأبدية ، ذلك لأن العلم يحرم على نفسه الخوض في مصير الدنيا مع أن النفس ترى مثلها الأعلى وآمالها في هذا المصير ، فالنفس تقرع على الدوام باب حصن الأسرار الحصين أملاً في اكتشاف سبب الأشياء ومصيرها ، وبما أنها لم تقدر حتى الآن على فتح ذلك فانها ملأت الحصن المذكور بأوهام وأحلام . فلا نقل ببطلان تلك الجهود ، لأن المعتقدات التي هي بنتها قد أورثت القلوب سلوانا وأنارت لها سبل الحياة ، وها هو العلم القليل التسامح في الماضي أخذ يحترم المبادىء الخارجة عن منطقة نفوذه ، فالعلم والمعتقد اى العقل والمشاعر ينتسبان الى ممثلين مستقلين لا يؤثر احدها في الآخر .

والعالم الذي سوف يعالج هذا الموضوع بعد الف سنة لا أدرى كيف يرى نفسه إزاء حوادث مشابهة لحوادث الوقت الحاضر أفيأتى ببيان صريح عن علة الملل ام لا ، وانما لا اشك في انه سينص على آلهة ومعتقدات جديدة مهيمنة على البشر الذي لا غنية له عنها .