المزهر/النوع التاسع والأربعون
►معرفة المواليد والوفيات | معرفة الشعر والشعراء | معرفة أغلاط العرب ◄ |
قال ابن فارس في فقه اللغة: الشعرُ كلام موزونٌ مقفّى دالّ على معنى ويكون أكثرَ من بيت وإنما قلنا هذا لأنه جائز اتفاق سطر واحد بوزن يشبه وزنَ الشعر عن غير قصد فقد قيل: إنَّ بعض الناس كَتَبَ في عُنوان كتاب: * للإمام المسيِّب بن زُهَيْرٍ ** من عِقَالِ بن شَبَّة بن عِقال * فاستوى هذا في الوزن الذي يسمى الخفيف ولعل الكاتب لم يقصِد به شعرًا.
وقد ذكر نَاسٌ في هذا كلمات من كتاب الله تعالى كَرِهْنَا ذِكْرَها، وقد نزّه الله سبحانه كتابَه عن شَبَهِ الشعر كما نزَّه نبيه ﷺ عن قوله.
فإن قال قائل: فما الحكمةُ في تنزيه الله تعالى نَبيّه عن الشعر؟
قيل له: أولُ ما في ذلك حكم الله تعالى بأنَّ { الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } وأنَّهُمْ { في كلِّ وَادٍ يَهيمُونَ وأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ }. [ ثم قال: { إلا الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات } ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإن كان أفضلَ المؤمنين إيمانًا وأكثر الصالحين عملًا للصالحات ] فلم يكن ينبغي له الشِّعر بحال لأن للشعر شرائط لا يسمَّى الإنسان بغيرها شاعرًا وذلك أن إنسانًا لو عمل كلامًا مستقيمًا موزونًا يتحرَّى فيه الصدق من غير أن يُفْرِط أو يتعدى أو يَمين أو يأتي فيه بأشياء لا يمكن كونها بَتَّة لما سماه الناس شاعرًا ولكان ما يقوله مَخْسولًا ساقطًا. وقد قال بعض العقلاء - وسئل عن الشعر - فقال: إن هَزل أضْحك وإن جَدَّ كذب؛ فالشاعر بين كذب وإضحاك وإذ كان كذا فقد نزّه الله نبيه ﷺ عن هاتين الخَصلتين وعن كل أمر دَنِيّ.
وبعد، فإنا لا نكاد نرى شاعرًا إلا مادحًا ضارعًا أو هاجيًا ذا قَذَع وهذه أوصافٌ لا تصلح لنبيّ. فإن قال: فقد يكونُ من الشعر الحكمة كما قال رسول الله ﷺ: " إن من البيان لسِحرًا وإن من الشعر لحكمة " أو قال: " حُكْمًا "، قيل له: إنما نزه الله نبيه عن قيل الشعر لما ذكرناه فأما الحكمةُ فقد آتاه الله من ذلك القِسْمَ الأجزل والنصيبَ الأوفر في الكتاب والسُّنَّة.
ومعنى آخر في تنزيهه عن قيل الشعر أن أهل العَرُوض مُجْمِعُون على أنه لا فرق بين صناعة العَرُوض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تَقْسِم الزمان بالنَّغَم وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة، فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع والإيقاعُ ضرب من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله ﷺ، وقد قال رسول الله ﷺ: " ما أنَا من دَدٍ ولا دَدٌ مِني ".
ثم قال ابن فارس: والشعر ديوان العرب وبه حفظت الأنساب وعُرِفت المآثر ومنه تُعُلِّمت اللغة وهو حُجَّة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله ﷺ وحديث صحابته والتابعين. وقد يكون شاعرٌ أشعر وشِعْرٌ أحلى وأظرف فأما أن تتفاوت الأشعار القديمة حتى يتباعد ما بينها في الجودة فلا، وبكلٍّ يُحتج وإلى كل يُحتاج. فأما الاختيارُ الذي يراه الناس للناس فشهوات، كلٌّ يستحسن شيئا.
والشعراء أُمَراء الكلام يَقْصرون الممدود ويَمُدُّون المقصور ويُقَدِّمون ويؤخرون ويومِئون ويشُيرون ويختلسون ويُعيرون ويَسْتعيرون. فأمّا لحنٌ في إعراب أو إزالة كلمة من نَهج صواب فليس لهم ذلك.
وقال ابن رشيق في العمدة: العرب أفضل الأمم وَحِكْمَتُها أشرف الحِكَم كفضل اللسان على اليد. وكلام العرب نوعان: منظوم ومنثور لكل نوع منهما ثلاث طبقات: جيدة ومتوسطة ورديئة فإذا اتفقت الطبقتان في القَدْر وتساوتا في القيمة ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرًا في التسمية لأن كل منظوم أحسنُ من كل منثور من جنسه في معترف العادة ألا ترى أن الدُّرَّ وهو أخو اللفظ ونسيبُه وإليه يقاس وبه يشبّه إذا كان منظومًا يكون أظهر لحسنه وأصْونَ له وكذلك اللفظ إذا كان منثورًا تَبَدَّد في الأسماع وتَدَحْرَجَ في الطباع ولم يستقر منه إلا المفرطة في اللطف فإذا أخذه سِلْكُ الوَزْنِ وعِقْد القافية تألفت أشْتاته وازدوجت فرائده وأمن السرقة والغَصب وقد أجمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر وأقلّ جيدًا محفوظًا وأن الشعرَ أقلُّ وأكثر جيدًا محفوظًا لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جَيِّد المنثور.
وكان الكلامُ كله منثورًا فاحتاجت العرب إلى الغِناء بمكارم أخلاقها وطَيِّب أعراقها وذكرِ أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفُرسَانها الأَنجاد وسمحائها الأجواد لتهزّ نفوسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا لأنهم قد شَعروا به أي فَطِنوا له.
وقال: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يُحفظ من المنثور عُشْره ولا ضاع من الموزون عشره.
فإن احتج أحد على تفضيل النثر على الشعر بأن القرآن منثور وقد قال تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاه الشِّعرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } قيل له: إن الله بعث رسوله آية وحجة على الخلْق وجعل كتابه منثورًا ليكون أظهر برهانًا بفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون قادرًا على ما يحب من الكلام وتحدَّى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك فكما أن القرآن أعجَز الشعراء وليس بِشِعْر كذلك أعجزَ الخطباء وليس بخُطبة والمترسلين وليس بترسل وإعجازُه الشعراء أشدُّ برهانًا ألا ترى العرب كيف نسبوا النبي ﷺ إلى الشعر لَمَّا غُلِبوا وتبين عجزهم فقالوا: هو شاعر لمَا في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته وأنه يقع منه ما لا يُلحَق والمنثور ليس كذلك فمن هنا قال تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قِبَلكم الدليل.
قال ابن رشيق: وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنَّأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبْن بالمزَاهِر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال والولْدَان لأنه حِماية لأعراضهم وذَبٌّ عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادَةٌ لِذِكْرِهِمْ وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تُنتج.
وقال محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء: لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من القبائل العرب وكان الشِّعْر في الجاهلية عند العرب ديوانَ علمهم ومنتهى حكمتهم به يأخذون وإليه يَصِيرون.
[ذهاب الشعر وسقوطه]
قال ابن عوف عن ابن سيرين: قال: قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: كان الشِّعْرُ علم قوم لم يكن لهم علم أصحُّ منه فجاء الإسلامُ فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولَهَتْ عن الشعر وروايته؛ فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّ العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَئِلُوا إلى ديوان مُدَوَّن ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب مَنْ هلك بالموت والقتل فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عنهم منه كثير، وقد كان عند آل النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدِح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه.
قال يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلْمٌ وشِعر كثير.
قال محمد بن سلّام الجُمَحي: ومما يدلّ على ذهاب الشعر وسقوطه قلةُ ما بأيدي الرواة المصحِّحين لطرفة وعَبيد اللَّذين صحَّ لهما قصائد بقدر عشر وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتَّقْدِمة وإن كان ما يروى من الغث لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة ويروى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر وكانا أقدم الفحول فلعل ذلك لذلك فلما قل كلامُهما حُمِل عليهما حملًا كثيرا.
[أولية الشعر]
ولم يكن لأوائل العرب من الشِّعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته وإنما قُصِّدت القصائد وطوّل الشعر على عهد عبد المطَّلب أو هاشم بن عبد مناف وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتُبَّع فمن قديم الشعر الصحيح قول العَنْبر ابن عمرو بن تميم وكان مجاورًا في بَهْراء فَرَابه رَيْبٌ فقال:
قد رَابَني من دَلْوَى اضطرابها ** والنأي في بهراء واغترابها
إلا تجئْ ملأى يجئ قرابها
ومما يروى من قديم الشعر قول دُويد بن زيد بن نَهْد حين حضره الموت:
اليوم يُبنى لدُوَيْد بيتُه ** لو كان للدَّهر بِلًى أَبْلَيْتُه
أو كان قِرني واحدًا كَفَيْتُه ** يا رُبَّ نَهْب صالح حَويْتُه
ورب غَيْلٍ حسنٍ لويتُه ** [ ومعصم مخضب ثنيته ]
ومن قدماء الشعراء أعصر بن سعد بن قَيْس عيلان بن مضر وهو مُنْبه أبو باهلة وغنيّ والطُّفاوة.
ومنهم المستوغر بن ربيعة بن كعب بن نَهْد وكان قديمًا وبقي بقاء طويلًا حتى قال:
ولقد سئمتُ من الحياةِ وطُولها ** وازدَدْتُ من عَدَدِ السنين مِئينا
مائة أتت من بعدها مائتان لي ** وازددت من عدد الشهور سنينا
ومنهم زهير بن جَنَاب الكلْبي كان قديمًا شريفًا وهو القائل:
إذا قالت حَذام فصدِّقوها ** فإنَّ القولَ ما قَالتْ حَذَام
ومنهم جَذِيمة الأبْرش ولجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو القائل:
من كل ما نالَ الفتى ** قد نلته إلا التحِيّه
وقال امرؤ القيس بن حُجْر:
عُوجَا على طَللِ الديار لَعلَّنا ** نبكي الدِّيارَ كما بكى ابن حِذام
وهو رجل من طيّئ لم نسمع شعره الذي بكى فيه ولا شعرًا غير هذا البيت الذي ذكره امرؤ القيس.
وكان أول من قصَّد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغْلِبيّ في قتل أخيه كليب؛ قال الفرزدق: * ومهلهل الشعراء ذاك الأول * وزعمت العرب أنه كان يتكثَّر ويدَّعِي في قوله بأكثر من فعله.
[تنقل الشعر في القبائل]
وكان شعراء الجاهلية في ربيعة أولهم المهلهل وهو خال امرئ القيس بن حُجْر الكِنْدِيّ والمُرَقِّشان والأكبر منهما عم الأصغر والأصغر عم طَرَفة بن العبد واسم الأكبر عَوْف بن سعد واسم الأصغر عمرو بن حَرْملة وقيل ربيعة بن سفيان.
ومنهم سعد بن مالك وطَرَفة بن العبد وعمرو بن قَمِيئة والمتلمِّس وهو خال طرفة والأَعْشى والمُسَيِّب بن عَلَس والحارث بن حلِّزة ثم تحوَّل الشعر في قَيس فمنهم النابغتان وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب ولبيد والحطيئة والشَّمَّاخ وأخوه مُزَرِّد وخِدَاش بن زهير ثم آل إلى تميم فلم يزل فيهم إلى اليوم؛ ومنهم كان أَوْس بن حَجَر شاعر مُضَر في الجاهلية لم يتقدمه أحد منهم حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وبقي شاعرَ تميم في الجاهلية غير مدافَع وكان الأصمعي يقول: أوْس أشعر من زُهَير ولكنّ النابغة طَأطأ منه وكان زهير راوية أَوْس وكان أوس زوج أم زهير.
وقال عمر بن شبّة في طبقات الشعراء: للشعر والشعراء أولٌ لا يُوقَفُ عليه وقد اختلف في ذلك العلماء وادَّعت القبائلُ كلّ قبيلة لشاعرها أنه الأول ولم يدّعوا ذلك لقائل البيتين والثلاثة لأنهم لا يُسَمون ذلك شعرًا فادَّعت اليَمانية لامرئ القيس وبنو أسد لعبيد بن الأبرص وتَغْلِب لِمُهَلْهل وبكر لعمرو بن قَمِيئة والمرقِّش الأكبر وإياد لأبي دُؤَاد قال: وزعم بعضهم أن الأفوه الأوْدِي أقدمُ من هؤلاء وأنه أول من قَصَّد القصيد قال: وهؤلاء النفر المدَّعى لهم التقدم في الشعر متقاربون لعل أقدَمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها.
وقال ثعلب في أماليه: قال الأصمعي: أول مَنْ يُروَى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم ثم ضَمْرة رجل من بني كنانة والأضبط بن قريع قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير.
وقال ابن خالويه في كتاب ليس: أول من قال الشعر ابن حِذام.
[مشاهير الشعراء]
وقال ابن رشيق في العمدة: المشاهير من الشعراء أكثر من أن يُحَاطَ بهم عددًا، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم وسار شعرهم وكثر ذكرهم حتى غلبوا على سائر من كان في زمانهم ولكل أحد منهم طائفة تُفَضِّلُه وتتعصَّب له وقلما تجتمع على واحد إلا ما رُوِي عن النبي ﷺ في امرئ القيس أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار يعني شعراء الجاهلية والمشركين قال دِعْبِل بن علي الخُزاعي: ولا يقود قومًا إلا أميرهم.
وقال عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب وقد سأله عن الشعراء: امرؤ القيس سابقهم، خَسَف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عُورٍ أصَحَّ بَصَر.
قال عبد الكريم: خسف لهم من الخَسِيف وهي البئر التي حُفِرت في حجارة فخرج منها ماء كثير وقوله: افْتقر أي فَتح وهو من الفقير وهو فم القناة وقوله: عن معان عُور يريد أن امرأ القيس من اليمن وأن أهل اليمن ليست لهم فصاحة نزار فجعل لهم معاني عورًا فتح امرؤ القيس أصح بصر فإن امرأ القيس يماني النسب نزاري الدار والمنشأ.
وفَضَّله علي رضي الله عنه بأن قال: رأيته أحسنَهم نادرة وأسبقَهم بادرة وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة.
وقد قال العلماء بالشعر إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتَّبَعوه فيها لأنه أول من لطَّف المعاني ومن استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمَهَا والبَيْض وشبه الخيل بالعِقْبانِ والعصي وفَرَق بين النسيب وما سواه من القصيدة وقرّب مأخذ الكلام فَقَيَّد الأوَابِد وأجاد الاستعارة والتشبيه.
وحكى محمد بن سلام الجمحي: أن سائلًا سأل الفرزدق مَنْ أَشْعَرُ الناس فقال: ذو القُرُوح.
وسئل لبيد: من أشعر الناس فقال: الملك الضِّلِّيل قيل: ثم مَنْ قال: الشاب القتيل قيل: ثم من قال: الشيخ أبو عقيل؛ يعني نفسه.
وكان الحُذَّاق يقولون: الفحول في الجاهلية ثلاثة وفي الإسلام ثلاثة متشابهون: زهير والفرزدق، والنابغة والأخطل، والأعشى وجرير.
وكان خلف الأحمر يقول: أجمعهم الأعشى. وقال أبو عمرو بن العلاء: مَثَلُه مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره. وكان أبو الخطاب الأخفش يُقدِّمه جدًا لا يقدِّم عليه أحدًا.
وحكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشُّعَراء أربعة: زهير إذا رَغِب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طَرِب وعنترة إذا كَلِب وزاد قوم وجرير إذا غضب.
وقيل لكُثَيِّر أو لنُصَيْب: من أشعر العرب فقال: امرؤُ القيس إذا رَكِبَ وزهير إذا رَغِب والنابغة إذا رَهِب والأعشى إذا شَرِب.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يقدم النابغة ويقول: هو أحسنهم شعرًا وأعذبهم بحرًا وأبعدهم قَعْرًا.
وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إن أبا عُبَيدة قال: أصحابُ السبع التي تسمى السِّمط: امرؤُ القيس وزُهير والنابغة والأعشى ولَبيد وعمرو وطَرَفة.
قال: وقال المفضَل: من زعم أن في السبع التي تسمى السِّمْط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل وأسقطا من أصحاب المعلقة عنترة والحارث بن حلّزة وأثبتا الأعشى والنابغة.
وكانت المعلقات تسمى المُذَهَّباتُ وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القُبَاطِيّ بماء الذهب وعلِّقت على الكعبة فلذلك يقال: مُذَهَّبة فلان إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غيرُ واحد من العلماء.
وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: عَلِّقوا لنا هذه لتكون في خِزَانته.
وقال الجُمحي: سأل عكرمة بن جرير أباه جريرًا: مَنْ أشعر الناس قال: أعَن الجاهلية تَسألني أم الإسلام قال: ما أردت إلا الإسلام فإذْ ذكرتَ الجاهلية فأخْبِرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم قال: قلت: فالإسلام قال: الفرزدق نَبْعة الشعر، قلت: والأخطل قال: يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر، قلت: فما تركتَ لنفسك قال: دعني فإني نحرت الشعر نحرًا.
وسئل الفرزدق مرة: من أشعر العرب فقال: بشر بن أبي خازم قيل له: بماذا قال: بقوله:
ثوى في مَلْحَدٍ لا بد منه ** كفى بالموت نأيًا واغترابًا
ثم سئل جرير فقال: بِشر بن أبي خازم قيل له: بماذا قال: بقوله:
وهينُ بِلًى وكلُّ فَتًى سيْبَلَى ** فَشُقِّي الجيبَ وانْتَحبي انْتِحَابا
فاتفقا على بِشْر بن أبي خازم كما ترى.
وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسألُه عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعرُ الجاهلية امرؤ القيس وأَضْربَهُم مثلًا طَرَفَة، وأما شعراء الوقت فالفرزدق أفخرهم وجرير أهجاهم والأخطل أوصفهم.
وأما الحطيئة فسُئِل مَنْ أشعر الناس فقال: أبو دؤاد حيث يقول:
لا أعُدّ الإقتار عُدْمًا ولكن ** فَقْدُ مَنْ قد رُزِئْتُه الإعدام
وهو وإن كان فحلًا قديمًا وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه ويَرْوِي شعره فلم يقل فيه أحد من النُّقَاد مقالَة الحطيئة.
وسأله ابن عباس مرة أخرى فقال: الذي يقول:
ومَنْ يجعل المعروف من دون عِرْضِه ** يَفِرْهُ ومن لا يَتَّقِ الشتَم يُشْتَم
وليس الذي يقول:
ولستَ بِمُسْتبِقٍ أخًا لا تَلُمُّه ** على شَعَثٍ أيُّ الرجال المهذب
ولكن الضَّراعة أفسدته كما أفسدت جَرْولًا، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم، قال ابن عباس: كذلك أنت يا أبا مُلَيكة.
وزعم ابن أبي الخطاب أن أبا عمرو يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس والنابغة وطَرَفة ومهلهل، قال: وقال المفضل: سئل الفرزدق فقال: امرؤ القيس أشعر الناس. وقال جرير: النابغة أشعر الناس. وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس. وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس. وقال ذو الرُّمة: لَبيد أشعر الناس. وقال نَضْر بن شُمَيْل: طَرَفة أشعر الناس. وقال الكُمَيْت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس. وهذا يدلك على اختلاف الأهواء وقلة الاتفاق.
وكان ابن أبي إسحاق وهو عالم ناقد ومقدم مشهور يقول: أشعر الجاهلية مُرَقِّش الأكبر، وأشعر الإسلاميين كُثَيِّر. وهذا غُلوّ مُفْرِط غير أنهم مُجْمِعون على أنه أَوَّلُ من أطال المدح.
وسأل عبدُ الملك بن مروان الأخطل مَنْ أشعر الناس، فقال: العبد العَجْلاني يعني ابن مُقْبل، قال: بم ذاك؟ قال: وجدتُه في بَطْحَاء الشعر والشعراء على الجَرْفين، قال: أعرف له ذلك كرهًا!
وقيل لنُصَيْب مرة: من أشعر العرب فقال: أخو تميم يعني عَلْقَمة بن عَبَدة وقيل: أَوْس بن حَجَر.
وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس ما لزهير والنابغة والأعشى في النُّفُوس، والذي أتت به الرواية عن يونس بن حبيب الضبي النحوي أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرًا والنابغة، وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحدًا، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحدًا.
ثم قال محمد بن سلّام يرفعه عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشِدْنِي لأشعر شعرائكم قلت: ومَنْ هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: وكان كذلك، قال: كان لا يُعَاظِل بين الكلام ولا يتبع حُوشِيّة ولا يمدح الرجل إلا بما فيه.
ثم قال ابن سلّام: قال أهل النظر: كان زهير أحصفَهم شعرًا وأبعدَهم من سُخْف وأجمَعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق وأما النابغة فقال مَنْ يحتج له: كان أحسنَهم ديباجةَ شعر وأكثَرهم رَوْنَقَ كلام وأجْزَلَهم بيتًا كان شعرُه كلامًا ليس فيه تكلف وزعم أصحاب الأعشى أنه أكثرهم عروضًا وأذهبهم في فنون الشعر وأكثرهم طويلة جيدة مدحًا وهجاء وفخرًا وصفة.
وقال بعض مُتَقَدِّمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة قيل له: فأين الخبر عن النبي ﷺ أن امرأَ القيس بيده لواءُ الشعر فقال: بهذا الخبر صحَّ للأعشى ما قلت وذلك أنه ما من حامل لواء إلا على أمير فامرؤ القيس حامل اللواء والأعشى الأمير.
وسئِل حسان بن ثابت رضي الله عنه مَنْ أشعر الناس فقال: أرَاحِلًا أم حيًّا قيل: بل حيًا قال: أشعر الناس حيًّا هذيل قال محمد بن سلام الجمحي: وأشعر هُذَيْل أبو ذؤيب غير مُدافَع.
وحكى الجُمَحِيّ قال: أخبرني عمرو بن مُعاذ المعريّ قال: في التوراة مكتوب أبو ذؤيب [ مؤلف زورًا ]، وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف زورًا فأخبرت بذلك بعضَ أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فأعجب منه وقال: بلغني ذلك.
وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء ألسنًا وأعربهم أهل السَّرَوات وهنّ ثلاث وهي الجبال المطَّلة على تِهامة مما يلي اليمن فأولها هُذيل وهي تلي الرمل من تهامة ثم عليه السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها ثم سَرَاة الأزد أزد شَنُوءة وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نَصْر بن الأزْد.
وقال أبو عمرو أيضا: أفصح الناس عُلْيا تميم وسُفْلى قيس.
وقال أبو زيد: أفصح الناس سافلةُ العالية وعالية السافلة، يعني عَجُز هوازن وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها ولغتهم ليست بتلك عنده.
وقوم يرون تقدمة الشعر لليمن في الجاهلية بامرئ القيس وفي الإسلام بحسان ابن ثابت وفي المولَّدين بالحسن بن هانئ وأصحابه، وأشعرُ أهل المَدِر بإجماع من الناس والاتفاق حسان بن ثابت.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ختم الشعر بذي الرُّمة والرجز برؤْبة العجاج.
وزعم يونس أن العجاج أشْعَرُ أهلِ الرَّجَز والقصيد وقال: إنما هو كلام وأجودهم كلامًا أشعرهم والعجاج ليس في شعْره شيء يستطيع أحد أن يقول: لو كان مكانه غيره لكان أجود وذكر أنه صنع أُرجَوزَته: * قد جَبَر الدِّين الإلهُ فجبرْ * في نحو من مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها.
وقال أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك إذا حارب أو شاتم أو فاخر حتى كان العجاج أول من أطاله وقَصَّدَه وشَبَّب فيه وذكر الديار واستوقف الركاب عليها واستوصف ما فيها وبكى على الشَّباب ووصف الراحلة كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرُّجاز كامرئ القيس في الشعراء.
وقال غيره: أولُ من طوّل شعر الرجز الأغلب العِجْلي وهو قديم وزعم الجُمَحِيّ وغيره أنه أول من رجز.
وقال ابن رشيق في العمدة: ولا أظن ذلك صحيحًا لأنه إنما كان على عهد رسول الله ﷺ ونحن نجد الرَّجز أقدم من ذلك.
وكان أبو عبيدة يقول: افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بابن هَرْمة.
وقالت طائفة: الشعراء ثلاثة: جاهلي وإسلامي ومولد فالجاهلي امرؤ القيس والإسلامي ذو الرُّمة والمولد ابن المعتز وهذا قول من يُفَضِّل البديع وخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر وطائفة أخرى تقول: بل الثلاثة: الأعشى والأخطل وأبو نواس وهذا مذهب أصحاب الخمر وما ناسبها ومَنْ يقول بالتصرف وقلة التكلف وقال قوم: بل ثلاثة: مهلهل وابن أبي ربيعة وعباس بن الأحنف وهذا قول من يؤثر الأنفة وسهولة الكلام والقدرة على الصنعة والتجويد في فن واحد وليس في المولدين أشهر اسمًا من الحَسَن ثم حبيب والبُحْتُري ويقال: إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد ثم تبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز وطار اسم المعتز حتى صار كالحَسَن في المولدين وامرئ القيس في القدماء ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا. هذا كله كلام ابنِ رَشِيق.
[المقلون من الشعراء]
ثم قال: باب المقلين من الشعراء ولما كان المشاهير من الشعراء كما قدمت أكثر من أن يحصوْا ذكرت من المقلّين من وسع ذكره في هذا الموضع:
فمنهم: طرفة بن العبد وعَبيد بن الأبرص وعَلْقمة الفحل وعدي بن زيد وطرفةُ فضل الناس بواحدة عند العلماء وهي المعلقة: * لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ ببرقة ثَهْمَدِ * وله سواها يسير لأنه قتل صغيرًا حول العشرين فيما روى وأصحُّ ما في ذلك قول أخته ترثيه:
عددنا له ستًَّا وعشرين حِجَّة ** فلما توفَّاها اسْتَوَى سَيِّدًا ضَخْمًا
فُجعِنا به لما رجونا إيابه ** على خير حال لا وليدا ولا قَحما
أنشده المبرد. والقَحْم: المتناهي في السن.
وعَبيد بن الأبرص: قليل الشعر في أيدي الناس على قِدَم ذكره وعِظَم شهرته وطول عمره يقال: إنه عاش ثلثمائة سنة وكذلك أبو دؤاد.
ولِعَلْقَمة الفَحْل: ثلاث قصائد مشهورات إحداها قوله: * ذَهَبْتِ مِن الهِجران في كل مَذْهَب * والثانية قوله: * طَحَابك قَلْبٌ في الحِسان طَرُوب * والثالثة قوله: * هل ما علمت وما استودعت مكتوم *
وأما عدي بن زيد: فمشهوراته أربع قوله: * أَرَوَاحٌ مُوَدِّعٌ أَمْ بُكُورُ * وقوله: * أتعرفُ رسمَ الدار مِن أُمِّ مَعْبَدِ * وقوله: * ليس شيء على المَنون بباقي * وقوله:
لم أرَ مثل الفتيان في غير الـ ** أيام ينسون ما عواقبها
وقال أبو عمرو: عَدِيٌّ في الشعراء مثل سُهَيل في النجوم يعارِضها ولا يجري معها؛ هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها قليلة في أيدي الناس ذهبتْ بذهاب الرُّوَاة الذين يحملونها.
ومن المقلين: سلامة بن جُنْدَب وحُصَيْن بن الحُمام المُرّي والمتلمِّس والمسيَّب ابن عَلَس كل أشعارهم قليلة في ذاتها جيد الجملة ويروى عن أبي عبيدة أنه قال: اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمِّس والمسيَّب بن علَس وحصين بن الحُمام المُرّي. وأما أصحاب الواحدة فطَرَفة أولهم، ومنهم عنترة والحارث بن حلِّزة وعمْرو بن كلثوم أصحاب المعلقات المشهورات وعمرو بن معدي كرب والأشعر بن حُمران الجُعْفى وسُوَيْد بن أبي كاهل والأسود بن يَعْفُر. وكان امرؤ القيس مقلًا كثير المعاني والتصرف لا يصح له إلا نيف وعشرون شعرًا بين طويل وقطعة.
[المغلبون من الشعراء]
وأما المغلَّبون: فمنهم نابغة بني جَعْدة ومعنى المُغلَّب الذي لا يزال مغلوبًا قال امرؤُ القيس:
فإنك لم يفخر عليك كفاخِر ** ضعيف ولم يغلبك مثل مُغلَّب
يعني أِنه إذا قدر لم يبْق، وقد غُلّب على الجَعْدي أوس بن مَغْراء السعدي وليلى الأَخْيَليَّة وغيرهما. وقيل: إنّ موت الجَعْدي كان بسبب ليلى الأخيلية فرّ من بين يديها فمات في الطريق مسافرًا قال الجُمَحيّ: وكان الجَعْدي مختلف الشعر سُئِل عنه الفَرزدق فقال: مثله مثل صاحب الخُلْقان ترى عنده ثوب عَصب وثوب خَزّ وإلى جنبه سَمَل كساء وكان الأصمعي يمدحه بهذا وينسبه إلى قلة التكلف فيقول: عنده خِمار بوافٍ ومُطْرَف بآلاف.
بواف: يعني بدرهم.
ومن المغلّبين الزِّبْرِقان غلبه عمرو بن الأهتم وغلبه المَخبّل السعدي وغَلَبه الحطيئة وقال يونس بن حبيب: كان البعِيث مغلّبًا في الشعر غَلّابًا في الخُطَب.
فصل [القدماء والمحدثون]
قال ابن رَشيق في العمدة: باب في القدماء والمحدثين:
كل قديم من الشعراء فهو محدَث في زمانه بالإضافة إلى مَنْ كان قبله وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد حسُن هذا المولّد حتى هممت أن آمُر صِبيَانَنا برِوَايته يعني بذلك شِعْرَ جرير والفرزدق فجعله مولَّدًا بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمُخضْرَمِين وكان لا يَعُدّ الشعر إلا ما كان للمتقدمين قال الأصمعي: جلستُ إليه عشر حِجَج فما سمعتُه يحتجُّ ببيت إسلامي وسُئِل عن المولَّدين فقال: ما كان من حَسَنٍ فقد سُبقوا إليه وما كان من قبيح فهو من عندهم ليس النمط واحدًا هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه كالأصمعي وابن الأعرابي أعني أن كلَّ واحد منهم يذهبُ في أهل عصره هذا المذهب ويقدم مَنْ قبلهم وليس ذلك لشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد وقلةِ ثقتهم بما يأتي به المولَّدون فأما ابن قتيبة فقال: لم يَقْصِر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن ولا خَصَّ قومًا دون قوم بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دَهْر وجعل كلَّ قديم حديثًا في عصره.
[طبقات الشعراء]
ثم قال ابن رشيق في باب آخر: طبقاتُ الشعراء أربع: جاهلي قديم ومُخَضْرَم - وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام - وإسلامي ومُحْدَث ثم صار المحدثون طبقات: أولى وثانية على التدريج هكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا فليعلم المتأخِّرُ مقدارَ ما بقي له من الشعر فيتصفح أشعارَ مَنْ قبله لينظرَ كم بين الْمُخَضْرَم والجاهلي وبين الإسلامي والمُخضْرَم وأن للمحْدَث الأول فضلًا عمن بعده دونهم في المنزلة ففي الجاهليين والإسلاميين مَنْ ذهب بكل حلاوة وَرشَاقَةٍ، وسبق إلى كل طلاوة ولباقة.
قال أبو الحسن الأخفش: يقال: ماء خَضْرَم إذا تناهى في الكثرة والسعة فمنه سُمِّي الرجل الذي شهد الجاهلية والإسلام مُخَضْرَمًا كأنه استوفى الأَمْرَين قال: ويقال أُذُنٌ مخضرمة إذا كانت مقطوعة فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام.
وحكى ابن قتيبة عن الأصمعي قال: أَسْلَم قومٌ في الجاهلية على إبل قطعوا آذانها فمسِّي كل من أدرك الجاهلية والإسلام مُخَضرَمًا وزعم أنه لا يكون مُخَضْرَمًا حتى يكون إسلامه بعد وفاة النبي ﷺ وقد أدركه كبيرًا فلم يسلم.
قال ابن رشيق: وهذا عندي خَطَأ لأن النابغة الجَعدي ولَبِيدًا قد وقع عليهما هذا الاسم فأما علي بن الحسن كُراع فقد حكى: شاعر مُحَضْرَم بحاء غير معجمة مأخوذ من الحضرمة وهي الخَلْطُ لأنه خلط الجاهلية والإسلام.
وقالوا: الشعراء أربعة: شاعر خِنْذِيذ وهو الذي يجمع إلى جَوْدَةِ شعره روايةَ الجيِّد من شعر غيره وسئل رؤبة عن الفحول فقال: هم الرُّوَاة وشاعر مُفْلِق وهو الذي لا رِوَاية له إلا أنه مُجَوِّد كالخِنْذيذ في شعره وشاعر فقط وهو فوق الرديء بدرجة وشُعرور وهو لا شيء قال بعض الشعراء:
يا رابعَ الشعراء كيف هجوتَنِي ** وزعمت أني مفْحَم لا أنْطِقُ
وقيل: بل هم: شاعر مُفْلِق وشاعر مُطبق وشُوَيْعِر وشُعرور. والمُفلق: الذي يأتي في شعره بالفَلْقِ وهو العَجَب وقيل: الداهية.
قال الأصمعي: الشُّوَيْعِر مثل محمد بن حُمران بن أبي حُمران سماه بذلك امرؤ القيس ومثل عبد العزيز المعروف بالشُّوَيْعِر، قال الجاحظ: والشُّويعر أيضا عبدياليل من بني سعد بن ليث. وقيل: اسمه ربيعة بن عثمان وقال بعضهم: شاعر وشُويعر وشُعرور قال العبدي في شاعر يُدْعَى المفوَّف من بني ضَبَّة ثم من بني خَمِيس:
ألا تنهى سراة بني خميس ** شُوَيْعِرَها فُوَيْلِتَةَ الأفاعي
فسماه شويعرًا، وفَالِتة الأفاعي: دُوَيِبّة فوق الخنفساء فصغَّرها أيضا تحقيرًا له.
وزعم الحاتمي أن النابغةَ سُئِل: من أشعر الناس فقال: من استُجيد جيده وأضحك رديه وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة لأنه إذا أضحك رَدِيّه كان من سفلة الشعراء إلا أن يكون ذلك في الهجاء خاصة وقال الحطيئة:
الشِّعْرُ صعب وطويل سُلَّمُه ** والشِّعْر لا يسطيعه مَن يظلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه ** زلّت به إلى الحَضيضِ قدمُه
يريد أن يعربه فيعجمه
وقال بعضهم:
الشعراء فاعلمنّ أربعة ** فشاعر لا يُرتجى لمنفعه
وشاعر ينشد وسط المَعْمَعة ** وشاعر آخر لا يُجْرى معه
وشاعر يقالُ خمر في دَعَه
قال ابن رشيق: إنما سمي الشاعر شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره.
قال ابن خَالَوَيْه في شرح الدريدية: يقال أنشدته مقلَّدات الشعراء أي أبياتهم الطنانة المستحسنة.
ويقول آخرون: إن المقلَّد من الشعر ما كان اسم الممدوح فيه مذكورًا في قافيته ويقال: هذا البيتُ عُقْر هذه القصيدة أي أجود بيت فيها كما يقال هذا بيت طنان. اهـ.
وفي المقصور والممدود للقالي قال أبو عبيدة في قول النابغة الذبياني:
يصد الشاعر الثُّنْيَانُ عني ** صُدُودَ البَكْر عن قَرْمٍ هِجَان
قال: الثُّنيان الذي هو شاعر وأبوه شاعر ككعب بن زهير وعبد الرحمن بن حسان ورُؤْبة بن العجاج.
وقال أبو عمرو الشيباني: الثُّنْيَان الذي يُسْتَثْنَى فيقال: ما في القوم أشعر من فلان إلا فلان ففلان المستثنى هو الأفضل الأشعر.
وقال الأصمعي الثُّنيان الذي تثنى عليه الخناصر في العدد لأنه أول.
وقال ابن هشام: هو الذي يُسْتَثنى من الشعراء لأنه دونهم وقال غيره: الثُّنيان: الضعيف.
وقال القالي: الثُّنيان عندي: الذي يُسْتَثنى من القوم رفيعًا أو ضعيفًا فيقال للدون والضعيف: ثُنْيان وللرفيع والشاعر: ثُنْيان.
وقال القالي في المقصور والممدود: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: ذكر أبو عبيدة وأحسب الأصمعي قد ذكره أيضا قال: لَقِيَت السِّعلاة حسانَ بن ثابت في بعضُ طُرُقَاتِ المدينة وهو غلام قبل أن يقول الشعر فبركت على صدره وقالت: أنت الذي يرجو قومك أن تكون شاعرهم قال: نعم قالت: فأنشدني ثلاثة أبيات على رويّ واحد وإلا قتلتك فقال:
إذا ما تَرَعْرعَ فينا الغُلامُ ** فما إنْ يُقالُ له مَنْ هُوَهْ
فقالت: ثَنِّه فقال:
إذا لم يَسُدْ قبل شَدِّ الإزار ** فَذلكَ فينا الذي لا هُوَهْ
فقالت: ثَلِّثْه فقال:
ولي صاحبٌ مِنْ بني الشَّيْصَبانِ ** فحينًا أقول وحِينًا هُوَهْ
فخلَّت سبيله وقالت: أَولَى لك!
قال الأصمعي: يقال السِّعلاة سَاحِرَةُ الجن.
فائدة
قال أبو إسحاق البطليوسي وقد أنشد قول الفرزدق:
وما مِثلُه في الناس إلا مُمَلَّكًا ** أبُو أمِّه حَيٌّ أبوه يُقَارِبُه
هذا وأمثاله وإن كان جائزًا في الإعراب فليس بِحسَنٍ في الشعر عند ذوي الألباب لما فيه من وَهْى النَّسْج والاضطراب والشعر إذا أحوج إلى شرح لم يَعُدْ في فاخر المساق ولا قام في الإحسان على ساق ولا عَذُب في المذاق فهو مكروه عند الحُذَّاق.
ويحتاج الشعر إلى أن يَسْبِق معناه لفظَه فتستلذّ النفوس روايَته وحفظَه وأول ما ينبغي للشاعر والمتكلم بيانُ ما يحاوله للعالم والمتعلم فإن تكلَّم بمقلوب مَجَّتْهُ الأسماع والقلوب ولم يتحصل منه الغرض المطلوب فإن قال قائل: أما ترى في أشعار العرب أمثال هذا قوله:
لها مُقْلَتَا أَدْمَاء طل خميلة ** من الوحش ما يَنْفَكّ يَرْعَى عَرارها
قيل له: وهذا أيضا قد أحالَ وهاذى، والعجب ممن تكلف مثل هذا لِم لَمْ يخفف عن نفسه الكُلْفة والملام وتعرَّض لأن يُلام وتَرَكَ بيِّن الكلام وإنما يتفاضل الكلام والشعر بحسن العبارة والدِّيباجة ورَوْنق الفصاحة حتى تكونَ ألفاظهما كالزجاجة وإلا فالمعاني مُعَرَّضة لكل جيل من أهل التوحيد والشرك حتى للزَّنْج والتَّتر والتُّرْك لكنهم قصرت بهم ألسنتهم عن بلوغ ما رامُوه من أَرَب قد تهيَّأ على ألسنة العرب وأقلُّ ما يجب على المتكلم البيانُ لمخاطبه وإلا كان كخَابِطِ الليل وحَاطِبه يخاطب العربي بالعجمية ويخاطب العجمي بالعربية وصناعةُ الشعر أشد حصْرًا وأمد عصْرًا وذلك أن الشاعر إنما هو راغب أو راهب أو مُعاتب بين يدي ملك فإن حكى عن نفسه وإلا كان جديرًا بأن يَهْلِك.
فمن ذلك ما رواه ابن جني قال: حدثنا أحمد بن زكريا حدثنا أبو عبد الله الغلابي حدثنا مهدي بن سابق حدثنا عطاء بن مُصْعَب حدثنا عاصم بن الحدثان قال: دخل النَّابغة على النعمان بن المنذر فقال:
تَخِفُّ الأرض إنْ تَفْقِدْك يومًا ** وتَبْقى ما بَقيتَ بِها ثَقِيلا
فنظر إليه النعمان نَظَرَ غَضْبَان وكان كعب بن زهير حاضرًا فقال: أصلح الله الملك إن مع هذا بيتًا ضلَّ عنه وهو:
لأنَّكَ موضعُ القِسْطاس منها ** فتمنع جَانِبَيْهَا أن تَمِيلا
فضحك النعمانُ وأمر لهما بجائزتين فلولا كعب كان قد هلك.
فإن كان الشاعر مخاطبًا مَنْ دون الملك الأشم بما لا يُفهم وكان راغبًا في دَرِّهم كان ذلك سببًا لبُطْلان حاجته وغَيْضِ مُجَاجَتِه واستهجان شعره وتحقير أمره والقدماءُ في هذا أعذر لأنها لُغَتُهم. انتهى.