تفسير المراغي/سورة الزخرف
هي مكية إلا آية 45 فإنها نزلت بالمدينة، قاله مقاتل، وآياتها تسع وثمانون، نزلت بعد الشورى.
ووجه مناسبتها ما قبلها أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك.
[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 8]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
تفسير المفردات
الكتاب: هو القرآن، المبين: أي الموضح لطريق الهدى المبعد من الضلالات، لعلكم تعقلون: أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه، أمّ الكتاب: هو علم الله الأزلى، حكيم: أي ذو حكمة بالغة، يقال ضربت عنه وأضربت عنه: أي تركته، والذكر: أي القرآن، صفحا: أي إعراضا، مسرفين: أي منهمكين في كفركم وتوليكم عن الحق، بطشا: أي قوة وجلدا، مضى: أي سلف، والمثل: الصفة.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بكتابه المبين لطريق الهدى إنه جعل هذا القرآن بلغة العرب لغة قومك ليفقهوا معناه ويحيطوا به خبرا، وإنه محفوظ في علمه تعالى فليس هو من عند محمد كما تدّعون، وإننا لن نترك تذكيركم به لأجل إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، رحمة منا ولطفا بكم، ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيرا من الأمم قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة - كذبوا رسلهم فكان عاقبتهم ما رأيتم، وحل بهم ما تشاهدون آثاره.
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في مثل هذا من قبل (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي والقرآن المبين لطريق الهدى والرشاد، الموضح لما يحتاج إليه البشر في دنياهم وآخرتهم ليفوزوا بالسعادة، فمن سلك سبيله فاز ونجا، ومن تنكّب عنه خاب سعيه، وضل سواء السبيل.
(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلناه قرآنا عربيا إذ كنتم أيها المنذرون به عربا، لتعقلوا ما فيه من عبر ومواعظ، ولتتدبروا معانيه، ولم ينزله بلسان العجم حتى لا تقولوا نحن عرب، وهذا كلام أعجمي لا نفقه شيئا مما فيه.
ثم بين شرفه في الملإ الأعلى تعظيما له، وليطيعه أهل الأرض فقال:
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي وإن هذا الكتاب في علمه الأزلى رفيع الشأن، لاشتماله على الأسرار والحكم التي فيها سعادة البشر وهدايتهم إلى سبيل الحق.
ونحو الآية قوله تعالى: « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ».
(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ؟) أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن، لانهماككم في الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه؟ كلا.
لا نفعل ذلك رحمة بكم، وقد كانت حالكم تدعو إلى تخليتكم وما تريدون حتى تموتوا على الضلال.
قال قتادة: لو أن هذا القرآن قد رفع حين ردّته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليها ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله اهـ.
أراد أنه تعالى من رحمته ولطفه بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدى من قدّر له الهداية، وتقوم الحجة على من كتب له الشقاوة.
ثم قال مسلّيا رسوله ﷺ على تكذيب قومه، آمرا له بالصبر، مهدّد للمشركين، منذرا لهم بشديد العقاب.
(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وكثيرا ما أرسلنا في الأمم الغابرة رسلا قبلك كما أرسلناك إلى قومك من قريش، وكلما أتى نبي أمته يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق استهزءوا به وسخروا منه كما يفعل قومك بك - فقومك ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل، فلا تأس على ما تجد منهم ولا يشقنّ ذلك عليك، فهم قد سلكوا سبيل من قبلهم، واحتذوا حذوهم، ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة وكن كما كان أولوا العزم من الرسل، واصبر كما صبروا على ما أوذوا في سبيل الله.
ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله تسلية لرسوله وتحذيرا لهم فقال:
(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم، وقد كانوا أشد بطشا من قومك وأشد قوة، فأحر بهؤلاء ألا يعجزونا.
ونحو الآية قوله: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً » الآية.
(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي وقد مضت سنتنا في المكذبين لرسلهم من قبلكم، ورأيتم ما حل بهم، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.
ونحو الآية قوله: « فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ » وقوله: « سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ».
[سورة الزخرف (43): الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
تفسير المفردات
مهدا: أي فراشا، وأصله موضع فراش الصبى، سبلا: واحدها سبيل، وهي الطريق، بقدر: أي بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة، فأنشرنا: أي أحيينا، ميتا: أي خالية من النبات، الأزواج: أصناف المخلوقات، لتستووا على ظهوره: أي لتستقروا عليها، سخر: ذلل، مقرنين: أي مطيقين، قال قطرب وأنشد قول عمرو بن معديكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول الآخر:
ركبتم صعبتى أشر وحيف ولستم للصعاب بمقرنينا
لمنقلبون: أي راجعون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين منهمكون في كفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن من توحيد الله والبعث - أبان هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم، فإن سألتهم عن الخالق لهذا الكون من سمائه وأرضه ليقولن: الله، وهم مع اعترافهم به يعبدون الأوثان والأصنام، ثم ذكر سبحانه جليل أوصافه، فأرشد إلى أنه هو الذي جعل الأرض فراشا، وجعل فيها طرقا، لتهتدوا بها في سيركم، ونزّل من السماء ماء بقدر الحاجة يكفى زرع النبات وسقى الحيوان، وخلق أصناف المخلوقات جميعا من حيوان ونبات، وسخر لكم السفن والدواب لتركبوها وتشكروا الله على ما آتاكم، وتقولوا: لو لا لطف الله بنا ما كنا لذلك بمطيقين، وإنا يوم القيامة إلى ربنا راجعون، فيجازى كل نفس بما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين من قومك: من خلق السموات والأرض؟ لأجابوك: خلقهن العزيز في سلطانه وانتقامه من أعدائه، العليم بهن وما فيهن لا يخفى عليه شيء من ذلك.
والخلاصة - إنهم يعترفون بأنه لا خالق لهما سواه، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأوثان.
ثم دل على نفسه بذكر مصنوعاته فقال:
(1) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي والعزيز العليم هو الذي مهد لكم الأرض وجعلها لكم وطاء تطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم، وجعل لكم فيها طرقا تنتقلون فيها من بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم لمعاشكم ومتاجركم وابتغاء رزقكم.
والخلاصة - إن الخلق كلهم يتربّون على الأرض وهي موضع راحتهم كما يربى الصبى على مهده.
(2) (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وهو الذي ينزل من السماء ماء بقدر الحاجة، فلا يجعله كثيرا حتى لا يكون عذابا كالصوفان الذي أنزل على قوم نوح، ولا قليلا لا يكفى النبات والزرع، لئلا تهلكوا جوعا، فتحيا به الأقاليم التي كانت خالية من النبات والشجر.
وكما أحيينا الأرض بعد موتها بالماء نحييكم ونخرجكم من قبوركم أحياء.
(3) (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي وهو الذي خلق سائر الأصناف مما تنبت الأرض من نبات وأشجار وثمار وأزاهير، ومن الحيوان على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها.
(4) (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي وهو الذي جعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار إلى حيث تقصدون لمعايشكم ومتاجركم، ومن الأنعام ما تركبونه في البر كالخيل والبغال والحمير، ومما سيجدّ من وسائل المواصلات وطرق النّقلة برّا وبحرا كما جاء في سورة النحل من قوله تعالى: « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».
(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي لكي تستووا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام، ثم تذكروا نعمة ربكم الذي أنعم به عليكم، فتعظموه وتمجّدوه وتقولوا تنزيها له عما يصفه المشركون: سبحان الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه، وما كنا لو لا تسخيره وتذليله بمطيقين ذلك، فالأنعام مع قوّتها ذللها للانسان ينتفع بها حيث شاء وكيفما أراد، ولو لا ذلك ما استطاع الانتفاع بها، ولقد أشار إلى نحو من هذا العباس ابن مرداس فقال في وصف الجمل:
وتضر به الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
واعلم أنه سبحانه عيّن ذكرا خاصا حين ركوب السفينة وهو قوله: « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وذكرا آخر حين ركوب الأنعام وهو قوله: « سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا » وذكرا ثالثا حين دخول المنازل وهو قوله: « رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ».
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال:
(سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
قال القرطبي: علّمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرّفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت أو طاح عن ظهرها فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق.
فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور، واتصالا بسبب من أسباب التلف، أمر ألا ينسى عند اتصاله به موته وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منقلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدّا للقاء الله، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه اهـ.
ولأجل ما تقدم أشار بقوله:
(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي وإنا لصائرون إلى ربنا بعد مماتنا، فيجازي كل نفس بما عملت، فاستعدوا لهذا اليوم، ولا تغفلوا عن ذكره في حلّكم وترحالكم، يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 15 الى 25]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
تفسير المفردات
جزءا: أي ولدا إذ قالوا الملائكة بنات الله، وعبر عن الولد بالجزء، لأنه بضعة ممن ولد له كما قال شاعرهم:
إنما أولادنا أكبا دنا تمشي على الأرض
مبين: أي ظاهر الكفر، من أبان بمعنى ظهر، أصفاكم: أي اختار لكم، ضرب: أي جعل، مثلا: أي شبها أي مشابها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد، كظيم: أي ممتلىء غيظا وغما، ينشّأ: أي يربّى، في الحلية: أي في الزينة، الخصام: أي الجدل، غير مبين: أي غير مظهر حجته لعجزه عن الجدل، يخرصون: أي يكذبون، مستمسكون: أي متمسكون ومعوّلون، على أمة: أي على طريقة خاصة، مترفوها: أي أهل الترف والنعمة فيها الذين أبطرتهم الشهوات، فلا ينظرون إلى ما يوصلهم إلى الحق، مقتدون: أي سالكون طريقتهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم يعترفون بالألوهية لله وأنه خالق السموات والأرض، أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض يصفونه بصفات المخلوقين المنافية لكونه خالقا لهما، إذ جعلوا الملائكة بنات له ولا غرو، فالإنسان من طبعه الكفران وجحود الحق، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفى الأولاد، وما لو بشّر أحدهم به اسودّ وجها وامتلأ غيظا، ومن يتربى في الزينة وهو لا يكاد يبين حين الجدل، فلا يظهر حجة ولا يؤيد رأيا، واختاروا لأنفسهم الذكران، ثم أعقبه بالنعي عليهم في جعلهم الملائكة إناثا، وزاد في الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل هم شهدوا ذلك؟
ثم توعدهم على هذه المقالة وأنه يوم القيامة يجازيهم بها.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى، قالوا: لو شاء الله ألا نعبد الملائكة ما عبدناها، لكنه شاء عبادتها لأنها هي المتحققة فعلا فتكون حسنة ويمتنع النهي عنها، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هي ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دخل لها في حسن أو قبح وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي نفى أن يكون لهم دليل نقلى على صحة ما يدّعون، ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء دون حجة ولا برهان، وهم ليسوا ببدع في ذلك، فكثير من الأمم قبلهم قالوا مثل مقالهم، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السوي فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذّة بالقذّة، فكان عاقبة أمرهم أن حلّ بهم نكالنا كما يشاهدون ويرون من آثارهم.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا) أي وأثبتوا لله ولدا، إذ قالوا الملائكة بنات الله قاله مجاهد والحسن، والولد جزء من والده كما قال عليه السّلام « فاطمة بضعة مني ».
وإن مقالهم هذا يقتضى الكفر من وجهين:
(1) كون الخالق جسما محدثا لمشابهة الولد له، فلا يكون إلها ولا خالقا.
(2) الاستخفاف به، إذ جعلوا له أضعف نوعى الإنسان وأخسهما.
ثم أكد كفرهم بقوله:
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره.
ثم زاد في الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال:
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه، واختار لكم أفضلهما؟ وكأنه قيل: هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا في القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما، فما أنتم إلا حمقى جهلاء.
ونحو الآية قوله: « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى » - جائرة -.
ثم زاد في التوبيخ والإنكار بقوله:
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) أي وإذا بشر أحد هؤلاء بما نسبوه لله من البنات أنف وعلته الكآبة والحزن من سوء ما بشر به وتوارى من القوم خجلا.
روي أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى فهجر البيت الذي ولدت فيه فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا وليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ثم كرر الإنكار وأكده فقال:
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أوقد جعلوا لله الأنثى التي تتربى في الزينة، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة ولا تقرير دعوى، لنقصان عقلها وضعف رأيها؟ وما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك.
وفي قوله (يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) إيماء إلى ما فيهنّ من الدعة ورخاوة الخلق بضعف المقاومة الجسمية واللسانية، كما أن فيه دلالة على أن النشوء في الزينة ونعومة العيش من المعايب والمذامّ للرجال، وهو من محاسن ربات الحجال، فعليهم أن يجتنبوا ذلك ويأنفوا منه ويربئوا بأنفسهم عنه، قال شاعرهم:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذيول
وروي عن عمر أنه قال: « اخشوشنوا في الطعام، واخشوشنوا في اللباس، وتمعددوا » أي تزيّوا بزي معدّ في تقشفهم.
(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا) أي سموهم وحكموا لهم بذلك، وفى هذا كفر من وجوه ثلاثة:
(1) إنهم نسبوا إلى الله الولد.
(2) إنهم أعطوه أخس النصيبين.
(3) إنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا.
وقد رد الله عليهم مقالهم فقال:
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟) أي أحضروا خلق الله لهم، فشاهدوهم بنات حتى يحكموا بأنوثتهم؟.
ونحو الآية قوله: « أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ ».
وفي هذا تجهيل شديد لهم، ورمى لهم بالسفه والحمق.
ثم توعدهم على مقالهم فقال:
(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في الدنيا في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلا.
وفي هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر، وأن التقليد لا يغني من الحق شيئا.
ثم حكى عنهم فنّا آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية فقال:
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هي على صورة الملائكة، فإنه تعالى عالم بذلك وهو قد أقرّنا عليه.
وقد جمعوا في هذا أفانين من الكفر وضروبا من الترهات والأباطيل، منها:
(1) إنهم جعلوا لله ولدا تقدس سبحانه وتنزه عن ذلك.
(2) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
(3) عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله، بل بالرأي والهوى والتقليد للأسلاف.
(4) احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وقد جهلوا في هذا جهلا كبيرا، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، وهو منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه كما قال: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ » وقال: « وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟ ».
ثم رد عليهم مقالهم وبيّن جهلهم بقوله:
(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم على ما قالوا، دليل ولا برهان يستندون إليه في تأييد دعواهم.
ثم أكد هذا الردّ بقوله:
(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، متمحلون تمحلا باطلا، متقوّلون على الله ما لم يقله.
وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل أتبعه ببطلانه بالنقل فقال:
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي بل أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون، فهم بذلك الكتاب متمسكون، وعليه معوّلون.
والخلاصة - إنه لا كتاب لهم بذلك.
ولما بين أنه لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل - ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد فقال:
(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، وقد قالوا إنهم أرجح منا أحلاما وأصح أفهاما، ونحن سائرون على طريقتهم، وسالكون نهجهم، ولم نأت بشىء من عند أنفسنا، ولم نغلط في الأتباع واقتفاء الآثار، كما قال قيس بن الخطيم:
كنا على أمّة آبائنا ويقتدى بالأول الآخر
والخلاصة - إنهم اعترفوا بأن لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث النقل، وإنما يستندون إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم.
ثم بين سبحانه أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل فقال:
(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي ومثل هذا المقال المتناهي في الشناعة قالت الأمم الماضية لإخوانك الأنبياء، فلم نرسل قبلك في قرية رسولا إلا قال رؤساؤها وكبراؤها: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم سائرون، نفعل مثل ما فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون.
فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم، فهم قد سلكوا نهج من قبلهم من أهل الشرك في جواباتهم بما أجابوك به، واحتجاجهم بما احتجوا به لمقامهم على دينهم الباطل.
ونحو الآية قوله: « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ».
وإنما قال أولا: مهتدون، وثانيا: مقتدون، لأن الأول وقع في محاجتهم النبي ﷺ وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه (مُهْتَدُونَ) والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء فناسبه (مُقْتَدُونَ).
(وفي هذا تسلية لرسوله ﷺ ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وتخصيص المترفين بالذكر للاشعار بأن الترف هو الذي أوجب البطر وصرفهم عن النظر إلى التقليد.
ثم حكى ما قاله كل رسول لأمته:
(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟) أي قال لهم الرسول: أتبغون ذلك وتسيرون على نهجه، ولو جئتكم من عند ربكم بدين أهدى إلى طريق الحق، وأدل على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟.
وتلخيص ذلك - أتتبعون آباءكم وتقلدونهم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟.
فأجابوه إجابة تيئيس من اتباعهم له على كل حال.
(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ولو جئتنا بما هو أهدى منه، فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به ما انقادوا لك، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.
وحينئذ لم يبق لهم عذر، ومن ثم قال:
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانتقمنا من هؤلاء المكذبين لرسلهم الجاحدين بربهم، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمرهم حين كذبوا بآياتنا؟
ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم؟
وفي هذا سلوة لرسوله، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيد وتهديد لهم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 35]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
تفسير المفردات
لأبيه: أي آزر، براء: كلمة لا تثنى ولا تجمع يقولون: أنا منك براء، ونحن منك براء، فإن قلت بريء ثنيت وجمعت، فطرنى: أي خلقنى، والكلمة: هي كلمة التوحيد في عقبه: أي في ذريته، مبين: أي ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرة، من القريتين: أي من إحدى القريتين مكة والطائف، والرجل الذي من مكة: هو الوليد ابن المغيرة المخزومي وكان يسمى ريحانة قريش، والذي من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي، ورحمة ربك: هي النبوة، والسخري: هو الذي يقهر على العمل، والسقف بضمتين: واحدها سقف كرهن ورهن، والمعارج: واحدها معرج كمنبر، وهو المسمى الآن (أسنسير) وهذا من معجزات القرآن إذ لم يكن معروفا عصر التنزيل، يظهرون أي يرتقون، زخرفا: أي نقوشا وتزاويق، قال الراغب الزخرف: الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب زخرف، ولمّا بمعنى إلا، حكى سيبويه نشدتك الله لمّا فعلت كذا: أي إلا فعلت كذا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائفة هو تقليد الآباء والأجداد، وبين أنه طريق باطل، ونهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد - أردف هذا أن ذكر لهم أن أشرف آبائهم وهو إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعتهم، فيجب عليكم تقليده، وحين عدل عن طريق آبائه جعل الله دينه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة، وأديان آبائه درست وبطلت.
ثم ذكر أن قريشا وآباءهم مدّ لهم في العمر والنعمة، فاغتروا بذلك واتبعوا الشهوات، وأعرضوا عن توحيد الله وشكره على آلائه، حتى جاءهم الرسول منبها لهم مذكرا بالنظر إلى من فطرهم وفطر السموات والأرض وآتاهم من فضله ما يتمتعون به من زينة هذه الحياة، فكذبوه وقالوا ساحر كذاب، ثم حكى عنهم أنهم قالوا: هلا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم الجاه كثير المال من إحدى القريتين مكة والطائف، فرد عليهم مقالهم، بأنه قسم الحظوظ الدنيوية بين عباده، فجعل منهم الغنى والفقير، والسيد والمسود، والملوك والسّوقة، والأقوياء والضعفاء، ولم يغير أحد ما حكم به في أحوال دنياهم على حقارتها، فكيف يعترضون على حكمه فيما هو أرفع درجة، وأشرف غاية، وأعظم مرتبة، وهو منصب النبوة؟.
ثم ذكر أن التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتمّ به نظام المجتمع والسير به على النهج القويم، فلولاه ما صرّف بعضهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل المعيشة، ثم أعقب هذا ببيان أنه لو لا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الرزق لمتعهم بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبوابا من فضة وسقفا وسررا ومصاعد منها وزينة في كل شيء، ولكن كل هذا متاع قليل زائل والآخرة هي الباقية وهي لمن يتقى الله ويجتنب الكفر والمعاصي.
ولم يفعل ذلك بالمؤمنين فيوسع عليهم جميعا، ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي، لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبا للدنيا، وهذا إيمان المنافقين، ومن ثم ضيّق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض ليكون من يدخله، فإنما يدخله للدليل والبرهان وابتغاء رضوان الله ومثوبته.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر لقومك المكبّين على التقليد: كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام؟ قال لهم إني براء مما تعبدون إلا من عبادة الله الذي خلقنى وخلق الناس جميعا، وأنه سيهديني إلى سبيل الرشاد، ويوفقنى إلى اتباع الحق، وقد جزم بذلك لثقته بربه، ولقوة يقينه.
(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل كلمة التوحيد وهي (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) كلمة باقية في ذريته يقتدى به فيها من هداه الله منهم، لعل أهل مكة يرجعون عما هم عليه إلى دين أبيهم إبراهيم، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم ذلك الفخر، تبعوه فيما يدين به.
قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب، موصولة بالأحقاب، بدعوتيه المجابتين: إحداهما قوله: « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » فقد قال إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله: « وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ».
(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ولكني متعت هؤلاء المشركين وآباءهم من قبل، ومددت أعمارهم، وأكثرت نعمهم، فشغلتهم النعم والترف والشهوات، فأطاعوا الشيطان ونسوا كلمة التوحيد، فجريت على سنتى أن أجعل في بنى إبراهيم من يوحّد الله ويدعو من كفر منهم إلى الإيمان، فاخترت محمدا وأنزلت معه الكتاب ليدعو هؤلاء إلى ما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، وسعادتهم في آخرتهم وأولاهم.
ثم وبخهم على إعراضهم عما جاء به من الحق وعدم النظر فيه فقال:
(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي ولما جاءهم القرآن والرسول الصادق بما معه من المعجزات قالوا إن ما جاءنا به سحر وليس بوحي من عند الله وإنا به جاحدون، فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به.
ثم ذكر ضربا آخر من كفرهم بقوله:
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي وقالوا إن منصب الرسالة منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال عظيم الجاه، ومحمد ليس بذاك، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف.
فأنكر الله عليهم ذلك وجهّلهم وعجّب من حالهم بقوله:
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم؟ أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها؟
فهم ليسوا لها بأهل، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون.
ثم بين خطأهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال:
(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) أي إننا في هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوّينا بينهم فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخّر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغيّر نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.
وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك في أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا في منصب الرسالة؟
وقصارى ذلك - إنا قسمنا بينهم أرزاقهم، أفلا يقنعون بقسمتنا في أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من خلقنا؟.
ثم علل ما سلف بقوله:
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل، خير مما يجمعون من حطام الدنيا، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.
ثم بين حقارة الدنيا وخستها بقوله:
(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفًا) أي ولو لا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر، ويرغبوا فيه، إذا رأوا سعة الرزق عندهم - لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة، ومصاعد من فضة، وسررا من فضة، عليها يتكئون، وزينة في كل ما يرتفق به من شئون الحياة.
ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد، سريعة الزوال، فهي متاع الحياة الفانية فقال:
(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء - أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي، وعمل بطاعته، وآثر الآخرة على الدنيا.
أخرج الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ».
وكذلك لو أعطيت هذه النعم والسرر والأبواب المصنوعة من الذهب والفضة للمؤمنين، حتى ليصير الناس كلهم هكذا، لأخلّت بالمقصود من الإيمان، لأن الترف والنعيم يحجب العقول عن عالم الروحانيات والرقى العقلي، فقلّ من يتخلص من شرك هذه الآفات، فالشهوات والزينة والزخارف للعقول أشبه بالقاذورات للأجسام، والأجسام القذرة يحوم حولها الذباب، فيلقى فيها بيوضه لتفرخ في القروح والعيون، ويخرج ذباب يعيش من تلك القاذورات، وهكذا النفوس الضعيفة تعيش فيها النفوس المماثلة لها من عالم الشياطين، وتلقى إليها بذور الفساد، فتزرع فيها وتحصدها النفوس خزيا وعارا في الدنيا والآخرة وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:
[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
تفسير المفردات
يقال عشى فلان كرضى إذا حصلت له آفة في بصره، وعشا: كغزا إذا نظر نظر العشي لعارض قال الحطيئة في المحلّق الكلاني:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من كثرة الوقود واتساع الضوء، فالمراد هنا أنه يتعامى عن ذكر الله، نقيض له: أي نهيىء له ونضم إليه، والقرين: الرفيق الذي لا يفارق، والمشرقين: أي المشرق والمغرب، وكثيرا ما تسمى العرب الشيئين المتقابلين باسم أحدهما، قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر، بعد المشرقين: أي بعد أحدهما من الآخر، فإما نذهبن بك: أي فإن قبضناك وأمتناك، لذكر: أي لشرف عظيم، تسألون: أي عن قيامكم بما أوجه القرآن عليكم من التكاليف من أمر ونهي.
المعنى الجملي
بعد أن بين أن المال متاع الدنيا وهو عرض زائل، ونعيم الآخرة هو النعيم الدائم الذي أعده الله للمتقين - ذكر هنا أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدونه عن السبيل القويم، ويظن أنه مهتد، لأنه يتلقى من الشياطين ما يلائم أخلاقه فيألفه ولا ينكره، ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة تبرأ الكافر من الشيطان قرينه وقال له: ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرقين، ثم أعقب هذا ببيان أن اشتراك الكافر مع قرينه الشيطان في العذاب لا يخفف عنه شيئا منه، لاشتغال كل منهما بنفسه.
ثم ذكر لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، وقلما تجديهم المواعظ، فإذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم معجزاتك كانوا كالعمى، وإنما كانوا كذلك لضلالهم المبين ثم سلى رسوله وبين له أنه لا بد أن ينتقم منهم إما حال حياته أو بعد موته، ثم أمره أن يستمسك بما أمره الله به، فيعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم النافع في الدين والدنيا وفيه الشرف العظيم له ولقومه، وسوف يسألون عما قاموا به من التكاليف التي أمرهم بها، ثم أرشد إلى أن بغض الأصنام وبغض عبادتها جاء على لسان كل نبي، فمحمد ﷺ ليس بدعا من بينهم في الإنكار عليها حتى يعارض ويبغض.
الإيضاح
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ومن يتعام عن ذكر الله وينهمك في لذات الدنيا وشهواتها نسلط عليه شياطين الإنس والجن يزينون له أن يرتع في الشهوات، ويلغ في اللذات، فلا يألوا جهدا في ارتكاب الآثام والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة ونخلق الحيات والعقارب والحشرات في المحال العفنة، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم في الذنوب لاستعدادهم لها، فينالون جزاءهم من عقاب الله وعقوبات البشر واحتقارهم لهم، إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة والأدواء التي لا يجدى فيها علاج، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم وإني لهم أن تنفعهم تلك الذكرى فقد فات الأوان، ولا ينفع الندم على فائت:
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
قال الزجاج: معنى الآية - إن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين - يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينا له فلا يهتدى، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين اهـ.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشا قالت قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوم فقال أبو بكر: إلام تدعونى؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزّى قال أبو بكر وما اللات؟ قال: أولاد الله، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، وقال لأصحابه أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية.
وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن.
(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وإن هؤلاء الشياطين الذين يقيضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن ليحولنّ بينهم وبين سبيل الحق، ويوسوسنّ لهم أنهم على الجادّة وسواهم على الباطل، فيطيعنهم ويكرّهنّ إليهم الإيمان بالله والعمل بطاعته.
ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة فقال:
(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا وعرض عليها أعرض عن قرينه الذي وكل به وتبرأ منه وقال: ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين أنت أيها الشيطان، لأنك قد أضللتنى وأوصلتنى إلى هذا العذاب المهين، والخزي الدائم، والعيش الضنك، والمحل المقضّ المضجع.
ثم حكى ما سيقال لهم حينئذ توبيخا وتأنيبا فقال:
(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي ولن ينفعكم في هذا اليوم اشتراككم في العذاب أنتم وقرناؤكم، كما كان ينفع في الدنيا الاشتراك في المهامّ الدنيوية، إذ يتعاونون في تحمل أعبائها، ويتقاسمون شدتها وعناءها، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته، ولا قدرة له على احتماله.
وقد يكون المعنى - ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسى، فإن المكروب في الدنيا يتأسى ويستروح بوجدان المشارك في البلوى، فيقول أحدهم لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكّن ذلك من حزنه كما قالت الخنساء ترثى أخاها صخرا:
يذكّرني طلوع الشمس صخرا وأذكره بكل مغيب شمس
فلولا كثرة الباكين حولى على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يكون مثل أخي ولكن أعزّى النفس عنه بالتأسي
وقصارى ذلك - إنه لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه.
وقد يكون المعنى - ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم، فأنتم وقرناؤكم مشتركون في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
وقد وصفهم فيما سلف بالعشي ووصفهم بالعمى والصمم، من قبل أن الإنسان لاشتغاله بالدنيا يكون كمن حصل بعينيه ضعف في البصر، وكلما زاد انهما كه بها كان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل فقال:
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؟) أي أفانت تسمع من قد سلبهم الله استماع حججه التي ذكرها في كتابه، أو تهدى إلى طريق الحق من أعمى قلوبهم عن إبصارها، واستحوذ عليهم الشيطان فزين لهم طريق الردى.
والخلاصة - إن ذلك ليس إليك، إنما ذلك إلى من بيده تصريف القلوب وتوجيهها أنّى شاء، فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
وقد كان ﷺ يبالغ في دعاء قومه إلى الإيمان وهم لا يزيدون إلا غيّا وتعاميا عما يشاهدون من دلائل النبوة وتصامّا عما يسمعون من بينات القرآن.
وبعد أن أيأسه من إيمانهم سلاه بالانتقام منهم لأجله إما حال حياته أو بعد مماته فقال:
(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي فإن نذهب بك أيها الرسول من بين أظهر المشركين بموت أو غيره فإنا منهم منتقمون كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذبة لرسلها، أو نرينك الذي وعدناك من الظفر بهم وإعلائك عليهم فإنا عليهم مقتدرون، فنظهرك عليهم ونخزيهم بيديك وأيدي المؤمنين.
وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد - إشارة إلى أن ذلك سيقع حتما وهكذا كان، فإنه لم يقبض رسوله حتى أقر عينيه من أعدائه، وحكّمه في نواصيهم، وملّكه ما تضمنته صياصيهم، قاله السدي واختاره ابن جرير.
ثم أمر رسوله أن يستمسك بما أوحى به إليه فيعمل به فقال:
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فخذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه هو الحق المفضى إلى الصراط المستقيم، والموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم.
ثم ذكر ما يستحثه على التمسك به فقال:
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك، لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم، فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به.
أخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: « كنت قاعدا عند النبي ﷺ فقال: ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبى لقومي فبشرنى فيهم فقال سبحانه: وإنّه لذكر لك ولقومك » الآية. فجعل الذكر والشرف لقومي - إلى أن قال - فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، وإن الله قلب العباد ظهرا وبطنا، فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة » ثم قال عدي ما رأيت رسول الله ذكرت عنده قريش بخير إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم اهـ.
ونظير الآية قوله في سورة الأنبياء « لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ » أي شرفكم، فالقرآن نزل بلسان قريش، وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم وصاروا عيالا عليهم، حتى يقفوا على معانيه من أمر ونهى ونبإ وقصص وحكمة وأدب.
روى الترمذي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين ».
وفي الآية إيماء إلى أن لذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه، ولو لا ذلك ما امتن الله على نبيه محمد ﷺ به، ولما طلبه إبراهيم عليه السّلام بقوله: « وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ » وقال ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما فاته وفضول العيش أشغال
(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن حقه وأداء شكر النعمة فيه.
وخلاصة ما سلف - إن القرآن نزل بلغة العرب، وقد وعد الله بنشر هذا الدين، وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة، فهم الملزمون بنشرها ونشر هذا الدين للأمم الأخرى فمتى قصروا في ذلك أذلهم الله في الدنيا، وأدخلهم النار في الآخرة، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم، فيبشروا هذا القرآن ويكتبوا المصاحف باللغة العربية، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة كالإنجليزية والألمانية والروسية حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون، ويعود سيرته الأولى، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم وبخ مشركي قريش بأن ما هم عليه من عبادة الأصنام لم يأت في شريعة من الشرائع فقال:
(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل: هل حكمنا بعبادة غير الله؟ وهل جاء ذلك في ملة من الملل؟ والمراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه إلى أن محمدا ﷺ ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به، حتى يكذّب ويعادى له.
وقصارى ذلك - إن الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام.
ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ».
[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 56]
ولَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
تفسير المفردات
الآيات: هي المعجزات، وملئه: أي أشراف قومه، أخذناهم: أي أخذ قهر بالعذاب فأرسلنا عليهم الجراد والقمّل والضفادع، الساحر: أي العالم الماهر، بما عهد عندك: أي بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا، ينكثون: أي ينقضون العهد، من تحتى: أي من تحت قصرى وبين يدي في جناتى، مهين: أي ضعيف حقير، يبين: أي يفصح عن كلامه. قال ابن عباس كانت بموسى لثغة في لسانه (واللثغة بالضم: أن تصير الراء غينا أو لاما والسين ثاء وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ)، والأسورة: واحدها سوار كأخمرة وخمار، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة سيادته، مقترنين: أي مقرونين به يعينونه على من خالفه، فاستخف قومه: أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلال فاستجابوا له، آسفونا: أي أغضبونا وأسخطونا. قال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا، وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا وسلفا: أي قدرة لمن بعدهم من الكفار، مثلا: أي حديثا عجيب الشأن يسير سير المثل فيقول الناس مثلكم مثل قوم فرعون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد ﷺ لكونه فقيرا عديم المال ولجاه - بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إني غنى كثير المال عظيم الجاه، فلى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش وأيضا فإنه لما قال: واسأل من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا - ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السّلام وهما أكثر الأنبياء أتباعا وقد جاءا بالتوحيد ولم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله.
ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال: هلا ألقى ألى موسى مقاليد الملك فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقا، زعما منه أن الرياسة من لوازم الرسالة، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه، وأعقب هذا بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى في دعواه الرسالة أطاعوه لضلالهم وغوايتهم، ولما لم نجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم، وجعلناهم قدوة للكافرين، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرة لهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ولقد بعثنا موسى ومعه حججه الدالة على صدقه إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم: إني رسول من قبل الله إليكم، كما قلت أنت لقومك: إني رسول الله إليكم.
فطالبوه بإحضار البينة على صدق دعواه كما يدل على ذلك قوله:
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما جاءهم بالأدلة على صدق قوله فيما يدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الآلهة - إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك المعجزات، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به.
وفي هذا تسلية لرسوله على ما كان يلقاه من قومه المشركين، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، وندب له أن يستن بسنة أولى العزم من الرسل في الصبر على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك كسنته في الكافرين قبلهم، وظفره بهم، وعلوّ أمره كما فعل بموسى عليه السّلام وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه.
(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي وما أرينا فرعون وملأه حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا في دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، وآكد في الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد الله، ومعنى الأخوّة بين الآيات تشا كلها وتناسبها في الدلالة على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان في المعنى.
ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم فقال:
(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي وأنزلنا عليهم ألوانا من العذاب كنقص الثمرات والجراد والقمل والضفادع.
ثم بين العلة في أخذه لهم بذلك وهو رجاء رجوعهم فقال:
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان بالله وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي.
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات - ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي وقالوا يا أيها العالم الماهر، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرونهم ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.
وقد يكونون نادوه بذلك في تلك الحال، لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم.
(ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما أخبرتنا من عهده إليك، أنا إن آمنا به كشفه عنا.
(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إنا لمؤمنون بما جئت به إن حدث ذلك.
ونحو ذلك ما جاء في سورة الأعراف من قولهم: « لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ».
ثم بين ما حدث منهم بعد دعوة موسى وكشف العذاب فقال:
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعانا فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا ونقضوا العهد، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى، يعدونه في كل مرة أن يؤمنوا به إذا كشف عنهم الرجز، ثم ينقضون ما عاهدوا الله عليه.
ونحو الآية ما جاء في سورة الأعراف من قوله: « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ».
ثم أخبر سبحانه عن تمرد فرعون وعتوّه وعناده فقال:
(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجرى الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.
ثم أكد هذا بقوله:
(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظم قدرى وضعف موسى عن مقاومتى لما فيه من فقر وعي وحصر.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا ولا شك خير بما لي من السعة في المال والجاه والملك العريض - من هذا المهين الحقير الذي لا يكاد يفصح عما يريد، إذ كان في لسانه حبسة في صغره فعابه بها، وهو لا يعلم أن الله استجاب سؤله حين قال: « وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي » فحل عقدة لسانه كما جاء في قوله: « قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ».
قال الحسن البصري: إنه قد بقي منها شيء لم يسأل زواله، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اهـ.
والأشياء الخلقية لا يعاب المرء بها ولا يذم، لكنه أراد الترويج على رعيته وصدهم عن الإيمان به.
ونحو الآية قوله: « فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ».
ثم ذكر شبهة مانعة له من الرياسة، وهي أنه لا يلبس لبس الملوك، فلا يكون رئيسا ولا رسولا لتلازمهما في زعمه فقال:
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهلا ألقى ربّ موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا كما جرت عادتهم بذلك، وهذا شبيه بما قال كفار قريش في عظيم القريتين.
ثم ذكر شبهة أخرى وهي أنه ليس له خدم من الملائكة تعينه فقال:
(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا، يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون معه، كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولا في أمر هامّ يحتاج إلى دفاع، وفيه خصام ونزاع - وهو بهذا أوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، أو يكونوا محفوفين بالملائكة.
ثم ذكر أن هذه الخدع قد انطلت عليهم، وسحرت ألبابهم، لغفلتهم وضعف عقولهم، فاعترفوا بربوبيته، وكذبوا بنبوة موسى فقال:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ) أي فاستخف أحلامهم بقوله وكيده، وبما أبداه من عظمة الملك والرياسة، وجعلها مناطا للعلم والنبوة، وأنه لو كانت هناك نبوة لكان أولى بها، فأطاعوه فيما أمرهم، لأنهم كانوا قوما ذوي ضلال وغي ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق الغوي.
ثم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله على وضوح الدليل وظهور الحق فقال:
(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم وبغيهم في الأرض - انتقمنا منهم بعاجل عذابنا، فأغرقناهم جميعا.
وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء في قوله: « وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي »:
وفي هذا إشارة إلى أن من تعزز بشىء دون الله أهلكه الله به.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: « إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، وقرأ: (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ».
(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا) أي فجعلناهم قدوة لمن يعمل عملهم من أهل الضلال ككفار قومك.
(وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) أي وعبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين.
[سورة الزخرف (43): الآيات 57 الى 66]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) ولا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
تفسير المفردات
مثلا: أي حجة وبرهانا، يصدّون (بكسر الصاد) أي يصيحون ويرتفع لهم ضجيج وفرح، جدلا: أي خصومة بالباطل، خصمون: أي شديد والخصومة مجبولون على اللجاج وسوء الخلق، مثلا: أي أمرا عجيبا، منكم: أي من بعضكم، يخلفون: أي يخلفونكم في الأرض، علم: أي علامة وشرط من أشراطها، فلا تمترنّ: أي فلا تشكنّ، البينات: المعجزات، الحكمة: الشرائع المحكمة التي لا يستطاع نقضها ولا إبطالها.
المعنى الجملي
روى محمد بن إسحاق في السيرة « أن رسول الله ﷺ جلس يوما في المسجد مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث وجلس معهم وفى المسجد غير واحد من رجالات قريش، فتكلم رسول الله ﷺ فعرض له النضر فكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » الآيات، ثم قام رسول الله ﷺ. وأقبل عبد الله بن الزّبعرى التميمي وجلس فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمدا، أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته وأنزل الله عز وجل: « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » أي عيسى وعزير ومن عبد معهما، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلال أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه السّلام وأنه يعبد من دون الله « وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) » الآية.
الإيضاح
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله ﷺ بعبادة النصارى له، إذا قومك من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وسرورا كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا أعيوا في حجة ثم فتحت عليهم.
وقد روى أن عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه قال للنبي ﷺ وقد سمعه يقول: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » أليس النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا صالحا، فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم.
(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) أي إن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون.
(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي ما ضربوا لك المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لإظهار الحق، فإن قوله: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » إنما ينطلق على الأصنام والأوثان ولا يتناول عيسى والملائكة، ولكنهم قوم ذوو لدد في الخصومة، مجبولون على سوء الخلق واللجاج.
قال صاحب الكشاف: إن ابن الزبعرى بخبّه وخداعه وخبث دخلته لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير - وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقّح في ذلك، فتوفّر رسول الله ﷺ حتى أجاب عنه ربه بقوله: « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » فدل به على أن الآية خاصة في الأصنام اهـ.
أخرج سعيد بن منصور وأحمد في جماعة عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية »
ثم بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله:
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي ما عيسى بن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها، فهو رفيع المنزلة علي القدر، وقد جعلناه آية، بأن خلقناه من غير أب، وشرفناه بالنبوة، وصيرناه عبرة سائرة، تفتح للناس باب التذكر والفهم، وليست مخالفة العادة بموجبة لعبادته كما يزعم النصارى، بل مذكرة بعبادة الخالق الحكيم.
(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لجعلنا ذريتكم ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، كما خلقنا عيسى من أنثى بلا ذكر وجعلناه رجلا.
وقد يكون المعنى على التهديد والتخويف لقريش ويكون المراد - لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة يعمرونها ويعبدوننا.
والخلاصة - إننا لو نشاء لجعلنا في الأرض عجائب كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكا فيخلفه، فباب العجائب وتغير السنن لاحد له عندنا، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي وإن القرآن ليعلمكم بقيام الساعة، ويخبركم عنها وعن أهوالها، فلا تشكّنّ فيها واتبعوا هداى، فهذا الذي أدعوكم إليه هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه وهو الموصل إلى الحق.
(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي ولا تغتروا بوساوس الشيطان وشبهه التي يوقعها في قلوبكم، فيمنعكم ذلك عن أتباعي، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه.
ثم علل نهيهم عن اتباعه بعداوته لهم فقال:
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه مظهر لعداوته لكم، غير متحاش ولا متكتم لها كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين أبيكم آدم من امتناعه عن السجود له، وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بنى آدم إلا عباد الله المخلصين.
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي ولما جاء عيسى بالمعجزات الواضحة قال قد جئتكم بالشرائع التي فيها صلاح البشر، ولأبيّن لكم بعض ما اختلف فيه قوم موسى من أحكام الدين دون أمور الدنيا كطرق الفلاحة والتجارة، فإن الأنبياء لم يبعثوا لبيانها كما يشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام حين نهاهم عن تأبير النخل (تلقيحه بالطلع) ففسد الثمر ولم يغلّ شيئا نافعا « أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم ».
ولما بين لهم أصول الدين وفروعه قال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاتقوا الله في مخالفتى، وخافوا أن يحل بكم عقابه، وأطيعونى فيما أبلغكم عنه من الشرائع والتكاليف.
ثم فصل ما يأمرهم به بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي إن الله الذي يستحق إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له - ربى وربكم، فأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه.
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم، وكل الديانات جاءت بمثله، فما هو إلا اعتقاد بوحدانية الله، وتعبّد بشرائعه.
وقصارى ذلك - إنه علم بحقائق، وعمل بشرائع.
ولما كان الطريق القويم يجب الاجتماع عليه، والاتفاق على سلوكه - بين أنهم خالفوا ذلك فاختلفوا فيه فقال:
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف النصارى وصاروا شيعا، من ملكانية إلى نسطورية إلى يعقوبية، فمنهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق، ومنهم من يدعى أنه ابن الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي فالويل لهؤلاء المختلفين الذين أشركوا بالله وقالوا في عيسى ما كفروا به - من عذاب يوم القيامة حين يحاسبون على ما قالو وعلى ما عملوا.
ثم حذرهم وأنذرهم على ما هم فيه من الخلاف دون أن يتبينوا وجه الحق فقال:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في شأن عيسى القائلون فيه الباطل من القول - إلا أن تقوم الساعة بغتة وهم غافلون عنها لا يعلمون بمجيئها لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها، فيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يدفع ذلك عنهم شيئا.
ونحو الآية قوله تعالى: « تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ».
روى ابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ « تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعمة، والرجلان يطويان الثوب، ثم قرأ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
[سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 73]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
تفسير المفردات
الأخلاء: واحدهم خليل، وهو الصديق الحميم، مسلمين: أي مخلصين منقادين لربهم، تحبرون: أي تسرون سرورا يظهر حباره (بفتح الحاء) أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم، والصحاف: واحدها صحفة وهي كالقصعة، قال الكسائي: أكبر أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم المئكلة، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا أذن له.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن يوم القيامة سيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون - أردف ذلك بيان أحوال ذلك اليوم، فمنها أن الأخلاء يتعادون فيه إلا من تخالّوا على الإيمان والتقوى، ومنها أن المؤمنين لا يخافون من سلب نعمة يتمتعون بها، ولا يحزنون على فقد نعمة قد فاتتهم، ومنها أنهم يتمتعون بفنون من الترف والنعيم فيطاف عليهم بصحاف من ذهب فيها ما لذّ وطاب من المآكل، وبأكواب وأباريق فيها شهني المشارب، ويقال لهم هذا النعيم كفاء ما قدمتم من عمل بأوامر الشرع ونواهيه، وأسلفتم من إخلاص لله وتقوى له.
الإيضاح
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي كل صداقة وخلة فإنها تنقلب في ذلك اليوم إلى عداوة إلا ما كانت في الله وفى سبيله، فإنها تبقى في الدنيا والآخرة.
ونحو الآية ما قاله إبراهيم لقومه: « إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ».
ثم ذكر ما يتلقى به سبحانه عباده المؤمنين المتحابين في الله تشريفا لهم وتسكينا لروعهم مما يرون من الأهوال فقال:
(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي ونقول لهم حينئذ: يا عباد لا تخافوا من عقابي، فإني قد أمّنتكم منه برضاى عنكم، ولا تحزنوا على فراق الدنيا، فإن الذي تقدمون عليه خير لكم مما فارقتموه منها.
ثم بين من يستحق هذا النداء وذلك التكريم فقال:
(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي الذين آمنت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وانقادت لشرع الله بواطنهم وظواهرهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل البشرى فقال:
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي ادخلوا الجنة أيها المؤمنون أنتم وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله، مسرورين بما أعطاكم من مننه.
وبعدئذ ذكر طرفا مما يتمتعون به من النعيم فقال:
(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي وبعد أن يستقروا في الجنة ويهدأ روعهم يطاف عليهم بجفان من الذهب مترعة بألوان الأطعمة والحلوى، وبأكواب فيها أصناف الشراب مما لذّ وطاب.
وبعد أن فصل بعض ما في الجنة من نعيم، عمّم في ذلك فقال:
(وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وفى الجنة ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والأشياء المعقولة والمسموعة ونحوها مما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان، جزاء لهم على ما منعو أنفسهم من الشهوات، وفيها ما تقرّ أعينهم بمشاهدته، وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، وأنتم لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا.
أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: « قال رجل يا رسول الله هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك ».
ثم ذكر أن هذا كان فضلا من ربكم آتاكموه كفاء أعمالكم التي أسلفتموها فقال:
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وهذه الجنة جعلها الله لكم باقية كالميراث الذي يبقى عن المورث، جزاء ما قدمتم من عمل صالح.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله: « وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها ».
وبعد أن ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال:
(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لكم فيها صنوف من الفواكه لا حصر لها، تأكلون منها حيثما شئتم، وكيفما اخترتم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 80]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
تفسير المفردات
المراد بالمجرمين هنا الراسخون في الإجرام وهم الكفار، يفتّر: أي يخفف، من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، مبلسون: من الإبلاس وهو الحزن المعترض من شدة اليأس، والمبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه، ومن ثم قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته، قاله الراغب، مالك: خازن النار، ليقض علينا ربك: أي ليمتنا، من قولهم: قضى عليه: أي أماته، وأبرم الأمر: أحكم تدبيره، أمرا: هو التحيل في تكذيب الحق، والسر: هو ما يحدث به المرء نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى: التناجي فيما بينهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعدّ لأهل الجنة من النعيم المقيم، والتمتع بفنون اللذات من المآكل والمشارب والفواكه - أعقب ذلك بذكر ما يكون فيه الكفار من العذاب الأليم الدائم الذي لا يخفّف عنهم أبدا، وهم في حزن لا ينقطع، ثم ذكر أن هذا ليس إلا جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من سييء الأعمال، ثم أردف ذلك بمقال أهل النار لخزنة جهنم وطلبهم من ربهم أن يموتوا حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب، ثم إجابته لهم عن ذلك، ثم وبخهم على ما عملوا في الدنيا واستحقوا به العذاب، ثم ذكر ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق وإعلاء شأن الباطل ظنا منهم أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم، وقد وهموا فيما ظنوا، فإن الله عليم بذلك ورسله يكتبون كل ما صدر عنهم من قول أو فعل.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي إن الذين اجترموا الكفر بالله في الدنيا يجازيهم ربهم بعذاب جهنم خالدين فيه أبدا لا ينفك عنهم ولا يجدون عنه حولا.
(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفف عنهم لحظة وهم فيه ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، ولا منافاة بين هذا وبين قوله الآتي: ونادوا يا مالك إلخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا فرج، ويشتد عليهم العذاب أخرى فيستغيثون.
ثم ذكر أن ذلك العذاب جزاء ما كسبت أيديهم فقال:
(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أننا فاعلون بهم، ولكن هم الذين أساءوا إلى أنفسهم، فكذبوا الرسل وعصوهم بعد أن أقاموا الحجة عليهم، فأتوهم بباهر المعجزات.
ثم ذكر ما يقوله أهل النار وما يجيبهم به خزنتها فقال:
(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي ونادى المجرمون من شدة العذاب فقالوا: يا مالك ادع لنا ربك أن يقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه، فأجابهم بقوله إنكم ماكثون لا خروج لكم منها، ولا محيص لكم عنها.
ونحو الآية قوله تعالى: « لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها » وقوله: « وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ».
ثم خاطبهم خطاب تقريع وتوبيخ وبين سبب مكثهم فيها بقوله:
(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي لقد بيّنا لكم الحق على ألسنة رسلنا وأنزلنا إليكم الكتب مرشدة إليه، ولكن سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.
وبعد أن ذكر كيفية عذابهم في الآخرة، بين سببه وهو مكرهم وسوء طويتهم في الدنيا فقال:
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أيبل هم تحيلوا في رد الحق بالباطل بوجوه من الحيل والمكر، فكادهم الله تعالى ورد عليهم سوء كيدهم بتخليدهم في النار معذبين فيها أبدا.
وقصارى ذلك - أحكموا كيد النبي ﷺ، وإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد.
ونحو الآية قوله: « وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله: « أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ».
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل أيظنون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك، ولا ما يتكلمون به فيما بينهم بطريق التناجي.
(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي بل نسمعهما ونطلع عليهما، والحفظة يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول وفعل.
والخلاصة - إنا نعلم ذلك، والملائكة يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.
قال يحيى بن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية - فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من أمارات النفاق.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا، وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم، فنزلت الآية.
[سورة الزخرف (43): الآيات 81 الى 89]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
تفسير المفردات
سبحان رب السموات: أي تنزيها له عن كل نقص، يصفون: أي يقولون كذبا بأن له ولدا، فذرهم: أي فاتركهم، يخوضوا: أي يسلكوا في باطلهم مسلك الخائضين في الماء، ويلعبوا: أي يفعلوا في أمورهم الدنيوية فعل اللاعب الغافل عن عاقبة ما يعمل، يومهم: هو يوم القيامة، إله: أي معبود بحق لا شريك له، يدعون: أي يعبدون، من شهد بالحق: أي من نطق بكلمة التوحيد، يؤفكون: أي يصرفون، وقيله: أي قوله: قال أبو عبيدة: يقال قلت قولا وقالا وقيلا، وفى الخبر « نهى عن قيل وقال »، فاصفح عنهم: أي اعف عنهم عفو المعرض ولا تقف عن التبليغ، سلام: أي سلام متاركة لكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم.
المعنى الجملي
أمر الله نبيه ﷺ أن يقول للمشركين إحقاقا للحق: إن مخالفته لهم في عبادة ما يعبدون لم يكن بغضا منه لهم ولا عداوة لمعبوديهم، بل لاستحالة نسبة ما نسبوه إليهم وبنوا عليه عبادتهم لهم من كونهم بنات الله، تنزه ربنا عما يقولون، ثم أمره أن يتركهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي يلاقون فيه جزاء أعمالهم وأقوالهم.
ثم أخبر بأن لا معبود في السماء ولا في الأرض سواه، وهو الحكيم العليم بكل شيء وأن من يعبدونهم لا يشفعون لهم حين الجزاء والحساب، ثم ذكر أن أقوالهم تناقض أفعالهم، فهم يعبدون غير الله، ويقولون إن الخالق للكون: سمائه، وأرضه هو الله، ثم أردف هذا أنه لا يعلم الساعة إلا هو، وأنه يعلم شديد حزنك على عدم إيمانهم، وعدم استجابتهم لدعوتك، ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم وتركهم وشأنهم، سيأتي اليوم الذي يلقون فيه الجزاء على سوء صنيعهم.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل لهم: إن ثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجة واضحة تدلون بها - أن للرحمن ولدا، كنت أسبقكم إلى طاعته، والانقياد له، كما يعظّم الرجل ابن الملك تعظيما لأبيه - ولا شك أن هذا أبلغ أسلوب في نفى الولد، كما يقول الرجل لمن بناظره ويجادله: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، وهذا ما اختاره ابن جرير ورجحه.
وخلاصته - إذا كنت لم أعترف بولد، بدليل إني لم أعبده مع إني أقرب الناس إلى الله، فالولد لا وجود له حتما - وكأنه يقول: إن انتفاء الولد مرتب على انتفاء عبادته، لما علم من أنه إذا انتفى اللازم لشيء انتفى ذلك الشيء، كما استدل بعدم فساد نظام الكون على وحدانية الله في قوله: « لَوْ كانَ فِيهِما - السماوات والأرض - آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ».
ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه مالك السموات والأرض وما فيهما من الخلق، ورب العرش المحيط بذلك كله - عما يصفه به المشركون كذبا، وعما ينسبون إليه من الولد، إذ كيف تكون هذه العوالم كلها ملكا له، ويكون شى منها جزءا منه، تعالى ربنا عن ذلك علوّا كبيرا.
ولما ذكر الدليل القاطع على نفى الولد أمره أن يتركهم وشأنهم فيما يقولون فقال:
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فاترك أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله، الواصفيه بأن له ولدا، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم حتى يأتي ذلك اليوم الذي لا محيص عنه، وحينئذ يعلمون عاقبة أمرهم، ويذوقون الوبال والنكال جزاء ما اجترحوه من الشرك والآثام.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد.
ثم أكد هذا التنزيه فقال:
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي وهو الله الذي يعبده أهل السماء وأهل الأرض، ولا تصلح العبادة إلا له، وهو الحكيم في تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء، العليم بمصالحهم، فالحكمة المقترنة بالعلم تخللت كل رطب ويابس وجليل وحقير، فمن يشاهد إتقان العالم وحسن تنسيقه وإبداعه يجد الحكمة فيه على أتم وجوهها، ويعجب مما فيه من جمال وكمال ويدهش لما يجد فيه من غرائب يحار فيها اللب، فأفردوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئا سواه.
(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي وتقدس خالق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا ندري كنهها ولا نعلم حقيقتها، المتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة من أحد، وهو العلى العظيم الذي بيده أزمّة الأمور نقضا وإبراما.
(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وعنده العلم بميقات الساعة لا يجلّيها لوقتها إلا هو.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه المرجع فيجازى كل أحد بما يستحق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولا تقدر الأصنام والأوثان التي يعبدونها على الشفاعة لهم كما زعموا أنهم شفعاء عند ربهم، ولكن من نطق بكلمة التوحيد وكان على بصيرة وعلم من ربه كالملائكة وعيسى تنفع شهادتهم عنده بإذنه لمن يستحقها.
وقال سعيد بن جبير: إن معنى الآية - لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة.
ثم بين أن هؤلاء المشركين متناقضو الأقوال والأفعال فقال:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء، المشركين بالله العابدين غيره، من خلق الخلق جميعا؟ ليعترفنّ بأنه الله تعالى وحده لا شريك له في ذلك، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه.
(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده وحده - فقد عبد بعض مخلوقات الله، فهم في غاية الجهل والسفه وضعف العقل.
وفي هذا تعجيب شديد من إشراكهم بعد هذا.
(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم علم الساعة وقوله لربه شاكيا قومه الذين كذبوه ولقى منهم شديد الأذى: يا رب إن هؤلاء الذين أمرتنى بإنذارهم وأرسلتنى إليهم لتبليغهم دينك الحق - قوم لا يؤمنون.
ولما شكا الرسول ﷺ إلى ربه عدم إيمانهم أجابه بقوله:
(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي فأعرض عنهم وأنت آيس من إيمانهم، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيىء الكلام، بل تألفهم واصفح عنهم قولا وفعلا، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، فإنك ستنتصر عليهم، ويحل بهم بأسنا الذي لا يردّ.
وقد أنجز الله وعده، وأنفذ كلمته، وأعلى دينه، وشرع الجهاد والجلاد، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
فله الحمد والمنة على إظهار الحق وإعلاء مناره، وإزهاق الباطل وكبح جماحه، تعاليت ربنا يا ذا الجلال والإكرام، والطّول والإنعام، وصلواتك على محمد وآله.
خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد
(1) وصف القرآن الكريم.
(2) الأمر بإنذار قومه ﷺ مع غفلتهم وإسرافهم في لذات الدنيا، (3) شأن هؤلاء المشركين في تكذيبهم للرسول شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم.
(4) اعترافهم بأن الله هو خالق السموات والأرض مع عبادتهم للأصنام والأوثان.
(5) اعتقادهم أن الملائكة بنات الله ثم نعى ذلك عليهم.
(6) تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد في شئونهم الدينية.
(7) قصص الأنبياء من أولى العزم كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
(8) وصف نعيم الجنة.
(9) الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت ليستريحوا مما هم فيه.
(10) متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتي وعد الله.