تفسير المراغي/سورة المدثر
هي مكية، نزلت بعد سورة المزمل، وعدد آياتها ستّ وخمسون.
وصلتها بما قبلها:
(1) أنها متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبي ﷺ.
(2) أن صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة.
(3) أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه ﷺ بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه.
[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10]
عدلبسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) والرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
شرح المفردات
المدثر: أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه، أي يتغطى بها لينام أو ليستدفئ، والدثار: اسم لما يتدثر به، أنذر: أي حذّر قومك عذاب الله إن لم يؤمنوا، كبّر: أي عظم، فطهر: أي طهر نفسك مما تذم به من الأفعال، وهذّبها عما يستهجن من الأحوال، والرجز: العذاب كما قال: « لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ » أي اهجر المآثم المؤدية إلى العذاب، ولا تمنن تستكثر: أي ولا تمنن بعملك على ربك تطلب كثرته، نقر: أي نفخ، الناقور: أي الصور، عسير. أي شديد، غير يسير: أي غير سهل.
المعنى الجملي
روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: « كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى وعن يسارى، فلم أر شيئا فنظرت فوقى فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثّروني دثّروني، وصبوا علي ماء باردا، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ - إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) »
وقد أمر الله رسوله بالإنذار وتطهير نفسه من دنىء الأخلاق والمآثم والصبر على أذى المشركين، فإنهم سيلقون جزاءهم يوم ينفخ في الصور، وهو يوم شديد الأهوال على الكافرين ليس بالهيّن عليهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أيها الذي تدثر بثيابه رعبا وفرقا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة: شمّر عن ساعد الجد وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.
والداعي إلى ربه الكبير المتعالي لا يتمّ له ذلك إلا إذا كان متخلقا بجميل الخلال وحميد الصفات، ومن ثم قال:
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّم ربك ومالك أمورك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله: « أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ».
(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) سئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا تلبسها على معصية ولا عن غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنّع
والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به: إنه لدنس الثياب، وإذا وفى ولم يغدر، إنه لطاهر الثوب، قال السموأل بن عاديا اليهودي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
ولا تزال هذه المعاني مستعملة في ديار مصر وغيرها فيقولون: فلان طاهر الذيل، يريدون أنه لا يلامس أجنبية.
ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب: غسلها بالماء إن كانت نجسة، وروى هذا عن كثير من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب الشافعي فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلي.
وقد استبان للمشتغلين بأصول التشريع وعلماء الاجتماع من الأوربيين أن أكثر الناس قذرا في أجسامهم وثيابهم أكثرهم ذنوبا، وأطهرهم أبدانا وثيابا أبعدهم من الذنوب، ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام ونظافة الثياب، فحسنت أخلاقهم وخرجوا من السجون، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل.
وقال الأستاذ (بتنام) في كتابه أصول الشرائع: إن كثرة الطهارة في دين الإسلام مما تدعو معتنقيه إلى رقي الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتباع أوامره خير قيام.
ومن هذا تعلم السر في قوله: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ).
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب في الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.
وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان:
(1) الغرور والفخر والعظمة، فيقول أنا مسد للنعم إليكم، ومفيض للخير عليكم.
(2) الأعداء، وهؤلاء يؤذونه ويتربصون به الدوائر، ويتتبعونه في كل مكان ويتألّبون عليه ليل نهار، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدّعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين ويقولون: ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا، ولنبتعد عن الناس، فإنهم لا يعرفون قدر النعم، ولا يشكرون المنعمين، ومن ثم قال تعالى:
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي ولا تمنن على أصحابك بما علّمتهم وبلغتهم من الوحي مستكثرا ذلك عليهم. وقد يكون المعنى: لا تضعف، من قولهم: حبل منين أي ضعيف، ومنّه السير: أي أضعفه، فالمراد لا تضعف أن تستكثر من الطاعات التي أمرت بها قبل هذه الآية.
وقد يكون المراد كما قال ابن كيسان: لا تستكثر عملا فتراه من نفسك، إنما عملك منّه من الله عليك، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته.
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على طاعته وعبادته، وقال مقاتل ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب.
والخلاصة - لا تجزع من أذى من خالفك.
ولما أتمّ إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء فقال:
(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي اصبر على أذاهم فإن بين أيديهم يوما عسيرا يذوقون فيه عاقبة كفرهم وأذاهم حين ينفخ في الصور، ويومئذ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم.
ثم أكد هذا بقوله:
(عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي يومهم عسير لا يسر فيه ولا فيما بعده، على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر، وعسره عليهم أنهم يناقشون الحساب، ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوّد وجوههم، وتتكلم جوارحهم، فيفتضحون على رءوس الأشهاد.
وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لا يناقشون فيه حسابا، ويمشون بيض الوجوه.
أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: لما نزلت « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ » قال رسول الله ﷺ: « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ قال أصحاب رسول الله ﷺ فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا ».
[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 30]
عدلذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
شرح المفردات
ذرني ومن خلقت وحيدا: أي دعنى وإياه، فإني أكفيكه، ممدودا: أي كثيرا، شهودا: أي حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم، ومهدت له تمهيدا: أي بسطت له الرياسة والجاه العريض، سأرهقه: أي سأكلفه، صعودا: أي عقبة شاقة لا تطاق، فقتل كيف قدر: أي لعنه الله كيف وصل بقوة خياله وسرعة خاطره إلى رميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش، عبس: أي قطب ما بين عينيه، بسر: أي كلح وجهه كما قال توبة بن الحميّر.
وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها
لوّاحة، من لوّحته الشمس: إذا سودت ظاهره وأطرافه، قال:
تقول ما لاحك يا مسافر يا بنة عمي لا حنى الهواجر
والبشر: واحدها بشرة، وهي ظاهر الجلد.
المعنى الجملي
روى « أن النبي ﷺ قام في المسجد يصلى والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، وهو يقرأ: « حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ » فلما فطن النبي ﷺ إلى استماعه أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بنى مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبونّ قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال الوليد: ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ فقال: وما يمنعنى أن أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش إني من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهّن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا (وكان رسول الله يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا: (فما هو؟ قال:) ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه فنزلت هذه الآيات ».
وقد كان الوليد يسمى الوحيد، لأنه وحيد في قومه، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم، وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان يسمى ريحانة قريش.
الإيضاح
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) أي خلّ بيني وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه.
وقال مقاتل. خلّ بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته.
وفي هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبى نظير، وقد تهكم الله به وبلقبه، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه، فجعله وحيدا في الشر والخبث.
(وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا) أي أعطيته مالا كثيرا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة، قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا.
وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء.
(وَبَنِينَ شُهُودًا) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها لكسب عيش، ولا ابتغاء رزق، إذ كانوا في غني عن الضرب في الأرض، بما لهم من واسع الثراء، فكان مستأنسا بهم، طيّب القلب بشهودهم.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) التمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه مهد الصبى، والمراد وسعت له الأرزاق، وبسطت له الجاه، فكان من الحق عليه أن يشكر الله على ما أنعم عليه، ولكنه كان لربه كنودا، فأعرض عن الداعي واستكبر، وقابل النعمة بالكفران، والجود بالجحود والعصيان.
ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال:
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده.
وفي هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان، فقد جاء في الحديث « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا »
وجاء في الخبر « منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال ».
وروي عن الحسن أنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي.
ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال.
(كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم، وهي آيات القرآن
التي نزل بها الوحي على لسان رسوله محمد ﷺ، ومن ثم قال فيها ما قال، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.
وفي الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحق بقلبه، وينكره بلسانه، وهذا أقبح أنواع الكفر.
ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال:
(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة.
قال قتادة: سيكلف عذابا لا راحة فيه.
ثم حكى كيفية عناده فقال:
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعن في القرآن، وما يختلق فيه من المقال، وقدره تقديرا، أصاب به ما في نفوس قريش، وما به وافق غرضهم.
والخلاصة - إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به، حين سئل عن ذلك؟
ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال:
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: « قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ».
وقصارى ذلك - إن هذا تعجيب من قوة خاطره، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد في القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به.
ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال:
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه.
(ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر في أمر القرآن مرة بعد أخرى، لعله يجول بخاطره ما يحبون، ويصل إلى ما يرجون.
(ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.
ثم أكد ما قبله فقال:
(وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه، قال سعد بن عبادة: لما أسلمت راغمتنى أمي، فكانت تلقاني مرة بالبشر، ومرة بالبسر.
وفي هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد ﷺ، وكان ينكره عنادا، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط، وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه.
(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.
ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل.
(فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدّعى، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففي العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه، بل التجئوا إلى السيف والسّنان، دون المعارضة بالحجة والبرهان، وقد رووا في هذا
الباب مضحكات أغلبها لا يصح، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغي أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، ومشفر وتيل إلخ.
ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه، وفظيع عمله فقال:
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.
ثم بالغ في وصف النار وتعظيم شأنها فقال:
(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ؟) تقول العرب: ما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة والتهويل في الأمر. أي وأي شيء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت في الوصف حدا لا يمكن معرفته، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.
ثم بيّن وصفها بقوله.
(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى، وهكذا دواليك كما جاء في الآية الأخرى. « كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ».
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل، قال ابن عباس: تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
عن البراء « أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي ﷺ عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل فأخبر النبي ﷺ فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر » رواه البيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[سورة المدثر (74): الآيات 31 الى 37]
عدلوما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمانًا وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
شرح المفردات
فتنة. أي سبب ضلال، أوتوا الكتاب. هم اليهود والنصارى، مرض. أي نفاق، مثلا: أي حديثا، ومنه قوله تعالى: « مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ » أي حديثها والخبر عنها، جنود ربك: أي هم خلقه من الملائكة وغيرهم، ذكرى: أي تذكرة وموعظة للناس، كلا: أي حقا، أدبر: أي ولّى، أسفر: أي أضاء، الكبر: أي البلايا والدواهي، واحدها كبرى، أن يتقدم: أي إلى الخير، يتأخر: أي يتخلف عنه.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس « أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: « عليها تسعة عشر » قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع أن ابن أبي كبشة، (يعنى محمدا ﷺ): يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدّهم « الشجعان » أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، فقال له أبو الأشد بن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش - أيهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة - يقول ذلك مستهزئا »
وفي رواية أن الحرث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً » أي لم يجعلهم رجالا فيتعاطون مغالبتهم.
الإيضاح
(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟
وهؤلاء: هم النقباء والمدبرون لأمرها.وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأقومهم بحق الله والغضب له سبحانه، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقّوا لهم ويرحموهم.
ثم ذكر الحكمة في اختيار هذا العدد القليل فقال:
(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي وما جعلنا عددهم هذا العدد إلا محنة وضلالة للكافرين، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم.
وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزءوا به واستبعدوه وقالوا: كيف يتولى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين.
(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد ﷺ لموافقة ما في القرآن لكتبهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.
(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمانًا) أي وليزداد إيمان المؤمنين حين يرون تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أن العدد كما قال.
ثم أكد الاستيقان وزيادة الإيمان فقال:
(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمة محمد ﷺ في حقيقة ذلك العدد.
ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه تعريض بغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين.
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) أي وليقول الذين في قلوبهم شك في صدق الرسول ﷺ، والقاطعون بكذبه: ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟
ثم بين أن الاختلاف في الدين سنة من سنن الله تعالى فقال:
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدة خزنة جهنم: أي شيء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوّفنا بعدتهم؟ - يضل الله من خلقه من يشاء، فيخذله عن إصابة الحق، ويهدى من يشاء منهم، فيوفقه لإصابة الصواب.
والخلاصة - إن مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده، وتدسيته نفسه، وتوجيهها إلى سيىء الأعمال، واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى - ويهدى من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال، وتزكيته نفسه كلما لاح له سبيل الهدى.
(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه التي من جملتها الملائكة على ما هم عليه إلا الله عز وجل.
وهذا ردّ على استهزائهم بكون الخزنة تسعة عشر، جهلا منهم وجه الحكمة في ذلك.
قال مقاتل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر.
وخلاصة ذلك - إن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر.
(كَلَّا) أي كلا لا سبيل لكم إلى إنكارها لتظاهر الأدلة عليها.
(وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) أي أقسم بالقمر الوضاح، والليل إذا ولى وذهب، والصبح إذا أشرق - إن جهنم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر.
ثم بين أصحاب النذارة فقال:
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها ويردّها.
ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ».
وخلاصة ما سلف - هأنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه، ومن تأخر عنه سلكناه فيها.
قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد ﷺ جوزى بثواب لا ينقطع أبدا، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا ﷺ عوقب عقابا لا ينقطع أبدا.
وقال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر كقوله: « فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ».
[سورة المدثر (74): الآيات 38 الى 56]
عدلكُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
شرح المفردات
رهينة: أي مرتهنة بعملها مأخوذة به إما خلّصها وإما أوبقها، أصحاب اليمين: هم من أعطوا كتبهم بأيمانهم، ما سلككم: أي ما أدخلكم تقول سلكت الخيط في ثقب الإبرة: أي أدخلته فيه، نخوض مع الخائضين: أي نخالط أهل الباطل في باطلهم فكلما غوى غاو غوينا معه، اليقين: هو الموت كما في قوله: « وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » قاله ابن عباس، مستنفرة: أي نافرة، وقسورة: الرماة للصيد واحدهم قسور قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد، منشّرة: أي منشورة مبسوطة: تُقرأ وتنشر.
الإيضاح
(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه، كافرة كانت أو مؤمنة، عاصية أو طائعة.
(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه.
ثم بين مآل أصحاب اليمين فقال:
(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟) أي هم في غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم في الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم في سقر؟
فأجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة:
(1) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نكن في الدنيا من المؤمنين الذين يصلون لله، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها.
(2) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا.
(3) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي وكنا لا نبالى بالخوض في الباطل مع من يخوض فيه. قال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد ﷺ فنقول إنه كاذب ساحر مجنون، وفى أمر القرآن فنقول إنه سحر وشعر وكهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل.
(4) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب.
(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى الله في الدار الآخرة.
(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع، لأن لهم النار خالدين فيها أبدا.
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟) أي فأي شيء حصل لأهل مكة حتى أعرضوا عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى، قال مقاتل: إعراضهم عنه من وجهين:
(1) جحودهم وإنكارهم له.
(2) ترك العمل بما فيه.
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأن هؤلاء المشركين في فرارهم من محمد ﷺ حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويتعقبونها لصيدها وافتراسها.
وفي هذا إيماء إلى أنهم مع موجبات الإقبال إلى الداعي والاتعاظ بما جاء به يعرضون عنه بغير سبب ظاهر، فأى شيء حصل لهم حتى أعرضوا عنه؟
وفي تشبيههم في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ، وشرادهم عنه بحمر وحشية جدّت في نفارها مما أفزعها - تهجين لحالهم، وشهادة عليهم بالبله، فلا ترى مثل نفار حمر الوحش، واطرادها في العدو إذا هي خافت من شيء.
ثم بين أنهم بلغوا في العناد حدا لا يتقبله عقل، ولا يستسيغه ذو نفس حساسة فقال:
(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) أي هم قد بلغوا في العناد حدا لا تجدى معهم فيه التذكرة، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيه، وجاء نحو هذا في قوله تعالى حكاية عنهم: « لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ ».
روي أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتى كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونومر فيه بأتباعك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المشركين كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار.
(كَلَّا) زجر لهم وتوبيخ على اقتراحهم لتلك الصحف المنشرة، أي فهم لا يؤتونها.
ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح فقال:
(بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها ومن ثم أعرضوا عن التأمل في تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية في الدلالة على صدق دعوى محمد ﷺ للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوّغ له.
ثم وبخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال:
(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ليس الأمر كما يقول المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه ذكّرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكّرا ولا معرّفا.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء من عباده أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه، وبه سعادته في الدارين.
ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال:
(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما يذكرون هذا القرآن ولا يتعظون بعظاته ويعملون بما فيه إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله، إذ لا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء كما قال سبحانه: « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ».
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف فقال:
(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي فالله هو الحقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو القمين بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا به وأطاعوه.
عن أنس رضي الله عنه « أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية فقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها فأنا أهل أن أغفر له » أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة في خلق كثير غيرهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله أجمعين.