تفسير المراغي/سورة يونس
مكية إلا الآيات 40، 94، 95، 96 نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود، وعدد آيها تسع ومائة، وموضوعها يدور على إثبات أصول التوحيد وهدم الشرك وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين وأصوله، وهي موضوعات السور المكية.
ووجه مناسبتها لما قبلها أن السابقة ختمت بذكر رسالة النبي ﷺ واختتمت بها هذه، وأن جلّ تلك في أحوال المنافقين وما كانوا يقولونه وما كانوا يفعلونه حين نزول القرآن، وهذه في أحوال الكفار وما كانوا يقولونه في القرآن.
وليس التناسب بين السور سببا في هذا الترتيب الذي بينهما، فكثيرا ما نرى سورتين بينهما أقوى تناسب في موضوع الآيات، وقد فصل بينهما كما فعل بسورتى الهمزة واللهب وموضوعهما واحد، وقد يجمع بينهما تارة أخرى كما فعل بين سور الطواسين، وسور آل حاميم، وسورتى المرسلات والنبأ.
ومن الحكمة في الفصل بين القوية التناسب في المعاني - أنه أدنى إلى تنشيط تالى القرآن وأبعد به عن الملل وأدعى له إلى التدبر، ولهذه الحكمة عينها تفرّق مقاصد القرآن في السورة الواحدة كالعقائد والأحكام العملية والحكم الأدبية والترغيب والترهيب والأمثال والقصص، والعمدة في كل ذلك التوقيف والسماع.
[سورة يونس (10): الآيات 1 الى 2]
'بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
تفسير المفردات
الكتاب: هو القرآن العظيم، والحكيم: ذو الحكمة، لاشتمال الكتاب عليها، والوحي: الإعلام الخفي لامرىء بما يخفى على غيره، والإنذار: الإخبار بما فيه تخويف، والتبشير: الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء، والصدق: يكون في الأقوال ويستعمل في الأفعال، فيقال صدق في القتال إذا وفّاه حقه، وكذب فيه إذا لم يفعل ذلك، ويطلق على الإيمان والوفاء وسائر الفضائل، وجاء في التنزيل: مقعد صدق، ومدخل صدق، ومخرج صدق، وقدم صدق، ويراد بالقدم هنا السابقة والتقدم والمنزلة الرفيعة، سحر: أي يؤثّر في القلوب ويجذب النفوس فهو جار مجرى السحر، ومبين: ظاهر.
الإيضاح
(الر) هذه الحروف تقرأ ساكنة غير معربة هكذا: ألف. لام، راء. والأخير منها غير مهموز، والحكمة في مجيئها أول السورة تنبيه السامع إلى ما يتلى عليه بعدها لأجل العناية بفهمه حتى لا يفوته شيء مما يسمع، فهي من وادي حروف التنبيه نحو (ألا) و(ها) الداخلة على اسم الإشارة.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبينه لعباده كما قال جل شأنه: « الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » ذاك أنه كتاب أحكمت معانيه ومبانيه، وهو هاد لمتدبّره وواعيه.
(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي عجيب من أمرهم أن ينكروا إنزال الوحي على رجل من جنسهم ويتخذوه أعجوبة بينهم يتفكهون بها ويستغربون شأنها، كأن مشاركتهم له في البشرية يمنع اختصاص الله إياه بما شاء من العلم، وهو بمعنى قوله تعالى حكاية عنهم « أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا » وقوله: « لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ».
وهذه الشبهة التي تمسكوا بأذيالها قد سبق إليها أقوام الأنبياء قبلهم كما جاء في قصة نوح وهود من سورة الأعراف « أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟ ».
وقد يكون وجه العجب كونه من أفنائهم من جهة المال كما جاء على لسانهم وحكاه الله عنهم « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » وحكى عنهم أنهم قالوا: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبى طالب.
فإن كانوا قد عنوا الأول، فهو عجب عاجب، لأن بعث الملك إنما يتسنى إذا كان المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى منكرا عليهم ذلك « قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا ».
وإن كانوا أرادوا الثاني فهو أغرب منه، لأن مدار الاصطفاء للإيحاء هو التبريز في إحراز الفضائل ونيل المكرمات، وللنبي ﷺ في ذلك القدح المعلّى فقد شهر من بينهم بالأمانة والصدق وحسن السمعة وبلوغ الغاية في الكمالات، ولله در القائل:
خلقت مبرّأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وكما قال الآخر:
ولو صوّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
وليس للتقدم في حظوظ الدنيا ولا للسبق في رياساتها مدخل في ذلك لا بقبيل ولا دبير، ولا قليل ولا كثير، فليس الغنى سببا للقرب والزلفى عند الله كما قال تعالى: « وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ».
(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة وأعلمهم بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين مع التخويف بعاقبة ما هم فيه من كفر وضلال.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وبشر الذين آمنوا بما أوحيناه إليك بأن لهم أعمالا صالحة استوجبوا بها الثواب منه تعالى، ومنزلة رفيعة نالوها بصدق القول وحسن النية.
(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاء به محمد لسحر مبين أي ظاهر واضح يبين لكم أنه مبطل فيما يدعيه.
وجعلوه سحرا لأنه خارق للعادة في تأثيره في القلوب وجذبه النفوس إلى الإيمان به واحتقار الحياة ولذاتها في سبيل الله.
وخلاصة ذلك - إنه كلام مزخرف حسن الظاهر لكنه واضح البطلان في الحقيقة.
وقد كذبوا في تسميته سحرا، لأن السحر ما يكون بأسباب خفيّة يتعلمها بعض الناس من بعض إما بالحيل والشعوذة، وإما باستخدام خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير، وإما بتأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة، وجميعها من الأمور التي يشترك فيها الكثير من العارفين بها، والقرآن ليس بسحر يؤثّر بالعلم والصناعة، بل هو أقوال مشتملة على آداب عالية وتشريع حكيم فيه مصلحة للناس، معجز في أسلوبه ونظمه ومعانيه، أتى على لسان محمد ﷺ ليبلغه للناس، ولم يكن ليقدر على شيء من مثله، وبهذا ثبت أنه نبي من عند الله، وأن ما جاء به وحي من لدنه.
[سورة يونس (10): الآيات 3 الى 4]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
تفسير المفردات
الخلق: لغة التقدير، واليوم لغة الوقت الذي يحدّه حدث يحدث فيه وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلق الليل والنهار، والعرش: مركز التدبير ولا نعلم كنهه ولا صفته، والتدبير: النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود، وتدبير الأمر، أو القول: هو التفكر فيما وراءه وما يراد منه وينتهى إليه، والقسط: العدل، والحميم: الماء الشديد الحرارة.
المعنى الجملي
بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس عجبهم أنه يوحى إلى رجل منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وينذرهم على الكفر والمعاصي بالعقاب - قفى على ذلك بذكر أمرين:
(1) إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهي يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.
(2) إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب وهما اللذان أخبر بهما الأنبياء.
الإيضاح
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إن ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم، وهذه الأرض التي تعيشون على ظهرها في ستة أزمنة قد تمّ في كل زمن منها طور من أطوارها وقدرها بمقادير أرادها، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير لهذا الملك العظيم، استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام واقتضته حكمته من الإحكام، ولا يستنكر من رب هذا الخلق المدبر لأمور عباده أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه، ما يهديهم به لما فيه كمالهم من عبادته وشكره، وبذلك تصلح أنفسهم وتطهر قلوبهم وتستنير أفئدتهم، لتتم لهم بذلك الحياة السعيدة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، كما لا يستنكر أن هذا الوحي منه عز وجل إذ هو من كمال تقديره وتدبيره ولا يقدر عليه سواه.
(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لا يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، والآية بمعنى قوله سبحانه « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وقد جاء في كتابه تعالى أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة كما قال: « يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا » ومن أذن له بالشفاعة لا يشفع إلا لمن رضى له الرحمن لإيمانه وصالح عمله كما قال: « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ».
وفي هذا إيماء لدحض العقيدة التي كان يعتقدها مشركو العرب ومقلدوهم من أهل الكتاب من أن الأصنام والأوثان وعبادة المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند الله بما يدفع عنهم الضرر ويجلب لهم النفع كما حكى الله عن عبدة الأصنام قولهم « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ».
وفي هذه العقيدة حجة عليهم إذ يقال لهم - إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم بما يقربكم إليه زلفى. وهو قول عليه تعالى بغير علم - فما بالكم تنكرون وتعجبون أن يوحى إلى من يشاء ويصطفى من عباده من يعلّمهم ما يهديهم إلى العمل الموصل إلى السعادة والهادي إلى طريق الرشاد.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي ذلكم الموصوف بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في أمر الشفاعة يأذن بها لمن يشاء - هو الله ربكم المتولى شؤونكم فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ولا تشركوا معه أحدا لا في شفاعة ولا غيرها، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا، بل هو الذي يملك ذلك وحده وهو قد هداكم إلى أسباب النفع والضر الكسبية بالعقول والمشاعر التي سخرها لكم، وإلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه، فلا تطلبوا نفعا ولا ضرا إلا بالأسباب التي سخرها لكم، وما تعجزون عنه أو تجهلون أسبابه، فادعوه فيه تعالى وحده يحصل لكم ما فيه ترغبون، أو يدفع عنكم ما تكرهون.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون أن الذي خلق السموات والأرض، وانفرد بتدبير هذا العالم هو الذي يجب أن يعبد ولا يعبد سواه، وذلك هو مقتضى الفطرة، والإعراض عنه غفلة يجب التنبيه إليها.
وفي ذلك إيماء إلى أنه لا ينبغي أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين ونشد الرحال إلى من بعد منهم ونتقرب إليهم بالنذور ونطوف بهم كما يطوف الحاج بيت الله الحرام، داعين متضرعين خاشعين نطلب منهم ما عجزنا عنه بكسبنا من دفع ضر أو جلب نفع، وكيف نتذكر هذه الآيات وأمثالها التي تجعل العبادة خاصة به تعالى وما الدعاء إلا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها كما جاء في الأثر « الدعاء مخ العبادة ».
ولكن أكثر العلماء وجمهرة الناس يتأولون هذه العبادة ويسمونها توسلا واستشفاعا، والأسماء لا تغير من قيمة الحقائق شيئا، فذلك بعينه هو ما كان يدّعيه المشركون وأهل الكتاب « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ».
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أي إلى ربكم وحده دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه لا يتخلف منكم أحد.
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا حقا لا خلف فيه.
(إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه حين التكوين، ثم يعيده في نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه.
وقد اتفق العلماء جميعا ما ديّهم وروحيهم على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية قد وجدت بعد أن لم تكن وإن كانوا لا يزالون يبحثون عن كيفية تلك النشأة والقوة المتصرفة في أصل مادتها.
وهم جميعا متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة بها في هذا النظام الشمسى الجامع لها بأن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية تبسّها بسّا فتكون هباء منبثا.
وها هو ذا قد حصل البدء بالفعل والإعادة أهون من البدء، فمن قدر على البدء يكون أقدر على الإعادة كما قال في سورة الروم: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ».
ومما يقرّب ذلك أن علماء الطبيعة أثبتوا أن هذه الأجساد الحية في انحلال وتجدد دائمين فما ينحل منها ويبخر في الهواء أو يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه تحلّ محله موادّ حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان في سنين قليلة ويتجدد غيره.
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي إنه تعالى يعيدهم لأجل جزائهم بالعدل، فيعطى كل عامل حقه من الثواب الذي جعله لعمله، وهذا المعنى قد جاء في آيات كثيرة كقوله: « وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا » وقوله: « وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ».
والعدل في الأمور كلها مما يتطلبه الإيمان كما قال: « لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » وقال: « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ».
والجزاء بالعدل لا يمنع أن يزيدهم ربهم شيئا من فضله ويضاعف لهم كما وعد على ذلك في آيات أخرى، منها قوله: « لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ » وقوله: « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ».
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين لهم من الجزاء شراب من حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرّة إلى الموت كدعاء غير الله من الأوثان والأصنام، وسائر المعاصي التي يزينها لهم الشيطان ويصدهم بها عن الإيمان.
وتعليل الرجوع إليه تعالى بأنه لجزاء المؤمنين الصالحين، بيان منه بأنه المقصود بالذات، إذ هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشرى للذين زكّوا أنفسهم وطهروا قلوبهم وأخبتوا إلى ربهم فيلقى من عمل الصالحات من النعيم المادي ما هو خال من الشوائب التي تخالطه في نعيم الدنيا، ومن النعيم الروحي (وهو رضوان الله الأكبر) مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحد كما قال « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ »
وجاء في الحديث القدسي « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر » رواه البخاري.
وأما جزاء الكافرين الظالمين لأنفسهم وللناس على تدسيتهم لأنفسهم بالكفر والخطايا، فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، ولكنها مقتضى العدل ومقتضى مشيئته تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات.
[سورة يونس (10): الآيات 5 الى 6]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
تفسير المفردات
الضوء والنور: بمعنى واحد لغة، والضوء أقوى من النور استعمالا بدليل هذه الآية، وقيل الضوء لما كان من ذاته كالشمس والنار، والنور لما كان مكتسبا من غيره، ويدل على ذلك قوله: « وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا » والسراج: نوره من ذاته، والضياء والضوء ما أضاء لك، وشعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي ترى في قوس السحاب فهو سبعة أضواء، وقد كشف ترقى العلوم الفلكية عن ذلك، وكان الناس يجهلونه عصر التنزيل، والتقدير: جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الذات أو الصفات أو الزمان أو المكان كما قال: « وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا » وقال: « وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ » والمنازل: واحدها منزل، وهو مكان النزول، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب بأسمائها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الآيات الدالة على وجوده، وهو خلق السموات والأرض على ذلك النظام المحكم - ذكر هنا أنواعا من آياته الكونية الدالة على ذلك وعلى أنه خلقها على غاية من الإحكام والإتقان، وهو تفصيل لما تقدم وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب.
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا) أي إن ربكم الذي خلق السموات والأرض - هو الذي جعل الشمس مضيئة نهارا والقمر منيرا ليلا، ودبّر أمور معاشكم هذا التدبير البديع، فأجدر به وأولى أن يدبّر أمور معادكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
(وقدره منازل) أي وقدر سير القمر في فلكه منازل ينزل كل ليلة في واحد منها لا يجاوزها ولا يقصر دونها وهي ثمانية وعشرون يرى القمر فيها بالأبصار، وليلة أو ليلتان يحتجب فيهما فلا يرى.
(لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم المالية والمدنية، ولو لا هذا النظام المشاهد لتعذر العلم بذلك على الأميين من أهل البدو والحضر إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة، ولعبادتى الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع فصول السنة، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة.
وقد حث الشارع على الانتفاع بالحساب الشمسي بنحو قوله: « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ » وقوله: « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ».
(ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لها فتنبعث الحرارة في جميع الأحياء، وبها يبصر الناس جميع المبصرات ويقومون بأمور معايشهم وسائر شئونهم، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة في سيرهم، وقدره منازل يعرف بها الناس السنين والشهور، ما خلق ذلك إلا مقترنا بالحق الذي تقتضيه الحكمة والمنفعة لحياة الخلق ونظام معايشهم فلا عبث فيه ولا خلل، فكيف يعقل بعد هذا أن يخلق هذا الإنسان ويعلمه البيان ويعطيه من كمال الاستعداد ما لم يعط غيره، ثم يتركه بعد ذلك سدى يموت ويفنى ولا يعود ويبعث، لتجزى كل نفس بما كسبت فيجزى المتقون بصالح أعمالهم، والمشركون والظالمون المجرمون بكفرهم وجرائمهم كما قال تعالى: « أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ ».
(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يبين الدلائل من حكم الخلق على رسوله مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون دلالة الأدلة ويميزون بين الحق والباطل باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات فيجزمون بأن من خلق النيّرين على هذا النظام البديع لا يمكن أن يخلق الإنسان سدى.
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في حدوثهما وتعاقبهما بمجىء كل منهما خلقة للآخر وفى طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس، وما لهما من نظام دقيق بحسب حركة الشمس اليومية والسنوية، وفى طبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل دنيوي وديني (وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أحوال الجماد والنبات والحيوان، ويدخل في ذلك أحوال الرعود والبروق والسحاب والأمطار، وأحوال البحار من مدّ وجزر، وأحوال المعادن العجيبة في تركيبها وأوضاعها المختلفة إلى نحو ذلك مما ذكر في علم المواليد الثلاثة.
(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي لدلائل عظيمة على وجود الصانع ووحدانيته وحكمته في الإبداع والإتقان وفى تشريع العقائد والأحكام - لقوم يتقون مخالفة سننه تعالى في التكوين وسننه في التشريع، فلله سنن في حفظ الصحة من خالفها مرض، وله سنن في تزكية الأنفس من خالفها وأفسدها بارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن جوزى على ذلك في الآخرة أشد الجزاء.
[سورة يونس (10): الآيات 7 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
تفسير المفردات
قال في المصباح: رجوته: أمّلته أو أردته قال تعالى « لا يَرْجُونَ نِكاحًا » أي لا يريدونه، ويستعمل بمعنى الخوف لأن الراجي يخاف ألا يدرك ما يرجوه، وقيل الرجاء مجرد التوقع الذي يشمل ما يسرّ وما يسوء، واللقاء: الاستقبال والمواجهة، والاطمئنان: سكون النفس إلى الشيء وارتياحها به، والمأوى: الملجأ الذي يأوى إليه المتعب أو الخائف أو المحتاج من مكان آمن أو إنسان نافع، وقد أطلق على الجنة في ثلاث آيات، وعلى النار في بضع عشرة آية، والدعوى: الدعاء، وهو للناس النداء والطلب المعتاد بينهم في دائرة الأسباب المسخرة لهم، ولله هو دعاؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده مع الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه من دفع ضر أو جلب نفع، سبحانك: أي تنزيها لك وتقديسا، والتحية: التكرمة بقولهم حياك الله، أي أطال عمرك والسلام: السلامة من كل مكروه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على وجوده تعالى من خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وأثبت بذلك البعث والجزاء على الأعمال يوم العرض والحساب - قفى على هذا بذكر حال من كفر به وأعرض عن البينات الدالة عليه، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات موقنين بلقاء ربهم - ثم ذكر جزاء كلّ من الفريقين.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال لإنكارهم للبعث، ورضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة فقصروا كل همهم من الحياة على الحصول على أغراضهم منها، وسكنت نفوسهم إلى شهواتها ولذاتها.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فلا يتدبرون منها ما نزل على رسولنا وما حوته من عبر ومواعظ ومعاد وحكم، ولا يتفكرون في صحائف الكون وما فيها من حكمته وسننه في الخلق، وبهذا شاركوا الفريق الأول في الشغل بالدنيا عن الآخرة، ومن ثم لم يستعدوا لحسابنا وما يعقبه من نعيم مقيم، وعذاب أليم.
(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أولئك الذين سلف ذكرهم مأواهم في الآخرة النار جزاء ما اجترحوا من السيئات طوال حياتهم، فهم قد دنسوا أنفسهم بشرور الوثنية وظلمات الشهوات الحيوانية فلم يعد لنور الحق والخير مكان فيها، ومن ثم لا يجدون ملجأ بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب.
وبعد أن أبان جزاء الفريق الأول كان من الواضح أن تستشرف نفس القارئ والسامع إلى جزاء الفريق الثاني فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به ولم يغفلوا عن الآيات التي غفل عنها الغافلون ورجوا لقاء ربهم وخافوا حسابه وعقابه، يهديهم ربهم بسبب إيمانهم صراطه المستقيم في كل ما يعملون وينتهى ذلك بهم إلى دخول الجنة التي أعدها لعباده المخبتين.
وفي هذا إيماء إلى أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب الهداية والفوز برفيع الدرجات والوصول إلى أقصى الغايات.
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي تجرى من تحت غرفهم في الجنات ومن تحت الأشجار.
(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إنهم يبدءون كل دعاء وثناء عليه تعالى يناجونه به بهذه الكلمة (سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ) أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، وأن تحيتهم فيها كلمة (سَلامٌ) الدالة على السلامة من كل مكروه، وهي تحية المؤمنين في الدنيا.
وهذه التحية تكون منه عز وجل حين لقائه كما قال في سورة الأحزاب: « تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ » ومن الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال: « وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ » وتكون منهم بعضهم لبعض كما قال: « لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إِلَّا سَلامًا ».
وإن آخر كل حال من أحوالهم من دعاء يناجون به ربهم، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كما أنه أول ثناء عليه حين دخولها كما قال « وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » كما أنه آخر كلام الملائكة كما قال: « وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».
فعلى كل مؤمن أن يستعدّ لها بتزكية نفسه وترقية روحه، ويعلم أنه لن يكون أهلا لها إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى، لا بالتوسلات للأولياء والتمني لشفاعتهم كما قال تعالى: « لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ».
وروي عن أبي بن كعب مرفوعا إلى النبي ﷺ « إن أهل الجنة إذا قالوا - سبحانك اللهم، أتاهم ما يشتهون »
وكذلك روى مثله عن بعض التابعين - فالكلمة إذا علامة بين أهل الجنة وخدمهم على إحضار الطعام وغيره فإذا أكلوا حمدوا الله تعالى.
[سورة يونس (10): الآيات 11 الى 12]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)
تفسير المفردات
تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المقدر له أو الموعود به، والاستعجال به: طلب التعجيل له، والعجلة من غرائز الإنسان كما قال تعالى « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » فاستعجاله بالخير لشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، واستعجاله بالضر لا يكون من دأبه بل بسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، أو للنجاة مما هو شر منه، وقضاء الأجل: انتهاؤه، ونذر: نترك، والطغيان: مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان، والعمه: التردد والتحير في الأمر أو في الشر، ومرّ: أي مضى في طريقته التي كان عليها من الكفر بربه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة، وأزال هذا التعجب بقوله « أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ » ثم ذكر دلائل التوحيد والبعث والجزاء - ذكر هنا جوابا عن شبهة كانوا يقولونها أبدا وهي: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء.
وخلاصة الجواب أنه لا مصلحة لهم في إيصال الشر إليهم إذ لو أوصله إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك أو خرج من صلبهم من يكون مؤمنا.
الإيضاح
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر وفيما عليهم فيه مضرة في نفس أو مال كاستعجال مشركي مكة رسول الله ﷺ بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم كما حكى الله عنهم من نحو قوله « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ » وقوله « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً » وقوله « وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه بدعاء الله أو بعلاج الأسباب التي يظنون أنها قد تأتى به قبل أوانه، لقضى أجلهم قبل وقته الطبيعي كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم.
ولكن الله أرحم بهم من أنفسهم، وقد بعث محمدا ﷺ بالهداية الدائمة، وقضى بأن يؤمن به قومه العرب ويحملوا دينهم إلى العجم، وأنه يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا بما فيه تأديب لهم كما بين ذلك بقوله « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ » ويؤخر عذاب سائر الكافرين إلى يوم القيامة، ولم يقض بإهلاكهم واستئصالهم، بل يذرهم إلى نهاية آجالهم كما قال:
(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكرهم فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلا للخروج منه، ولا نعجل لهم العذاب في الدنيا بالاستئصال حتى يأتي أمر الله في جماعتهم بنصر رسوله ﷺ عليهم، وفى أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض، ومأواهم النار وبئس القرار، إلا من تاب وآمن منهم.
وقد يكون المراد: ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بما يقترفونه من ظلم وفساد في الأرض لأهلكهم كما جاء في قوله « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » ومن هذا دعاؤهم على أنفسهم حين اليأس، ودعاء بعضهم على بعض حين الغضب كما قال « وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ » أي وما دعاء الكافرين بربهم أو بنعمه فيما يخالف شرعه وسننه في خلقه إلا في ضياع لا يستجيبه الله لهم لحلمه عليهم ورحمته بهم.
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا) أي إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر فيه بشدة ألم أو خطر على نفسه كغرق ومسغبة وداء عضال دعانا ملحّا في كشفه عند اضطجاعه لجنبه أو قعوده في كسر بيته أو قيامه على قدميه حائرا في أمره، ولا ينسى حاجته إلى رحمة ربه مادام يشعر بمسّ الضر ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه، وقدم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان أشد عجزا وشعوره بالحاجة إلى ربه أقوى ثم التي تليها ثم التي تليها.
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي فلما كشفنا عنه ضره الذي دعانا إليه حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه أو بغيره من الأسباب - مرّ ومضى في طريقه التي كان عليها من الغفلة عن ربه والكفر به كأن الحال لم تتغير ولم يدعنا إلى شيء ولم نكشف عنه ضرا.
(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا الطريق من معرفة الله والإخلاص في دعائه وحده في الشدة، ونسيانه والكفر به بعد كشفها، زين للمشركين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك، حتى بلغ من عنادهم للرسول ﷺ واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه به فقالوا اللهم ربنا أمطر علينا حجارة من السماء.
[سورة يونس (10): الآيات 13 الى 14]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
تفسير المفردات
القرون: الأمم، واحدها قرن، وهم القوم المقترنون في زمن واحد، وجاء في الحديث الشريف « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم » والخلائف: واحدها خليفة، وهو من يخلف غيره في شيء، وننظر: نشاهد ونرى.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السالفة أنهم كانوا يتعجلون العذاب، وذكر أنه لا صلاح لهم في إجابة دعائهم، ثم ذكر أنهم كاذبون في هذا الطلب إذ لو نزل بهم الضر جأروا وتضرعوا إلى الله في كشفه وإزالته.
بين هنا ما يجرى مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال كما حدث للأمم قبلهم حتى يكون ذلك رادعا لهم وزاجرا عن هذا الطلب.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الخطاب إلى قوم النبي ﷺ وأهل وطنه مكة، أي ولقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبلكم بسبب ظلمهم.
والآية بمعنى قوله « وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا » وهلاك الله للأمم بالظلم ضربان:
(1) ضرب بعذاب الاستئصال للأقوام الذين بعث الله تعالى فيهم رسلا لهدايتهم بالإيمان والعمل الصالح كقوم نوح وعاد وثمود، فعاندوا الرسل فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيئهم بالآيات الدالة على صدقهم.
(2) ضرب بعذاب هو مقتضى سنته تعالى في نظم الاجتماع البشرى، فالظلم مثلا سبب لفساد العمران وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية على الضعيفة كما قال « وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْمًا آخَرِينَ » - وهو إما ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف في الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق، وإما ظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة ويهن من قوتها.
(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أهلكناهم لما ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالبينات الدالة على صدقهم.
(وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي وما كان من شأنهم ولا من مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم قد مرنوا على الكفر وصار ديدنهم حب الشهوات واللذات من الجاه والرياسة والظلم والفسق والفجور.
(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا العذاب الشديد وهو الاستئصال نجزيه لكل قوم مجرمين.
وفي هذا وعيد شديد لأهل مكة على تكذيبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعد أولئك الأقوام بما آتيناكم في هذا الدين من أسباب الملك والحكم، إذ في شريعتكم ما به سعادة الأمة في دينها ودنياها.
وفي الآية بشارة لهذه الأمة بأنها ستخلفهم في الأرض إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه كما قال « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » ولقد صدق الله وعده فملكهم ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة وكثير من الأمم غيرها.
(لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى ماذا تعملون في خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم، كما قال « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وجاء في الأثر « إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون » وقال قتادة: صدق الله ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل أو النهار.
وفي ذلك إيماء إلى أن هذه الخلافة منوطة بالأعمال حتى لا يغتروا بماسينالونه ويظنوا أنه باق لهم وأنهم يتفلتون من سننه تعالى في الظالمين.
[سورة يونس (10): الآيات 15 الى 17]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
المعنى الجملي
بعد أن بدأ سبحانه السورة بذكر الكتاب الحكيم وإنكار المشركين الوحي على رجل منهم، ثم أقام الحجة على الوحي والتوحيد والبعث بخلق العالم علويّه وسفليّه، وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه - أعاد هنا الكلام في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول ﷺ بشأنه، وحجته البالغة عليهم في كونه وحيا من عند الله تعالى.
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات الكتاب الذي أنزل إليك حال كونها بارزات في أعلى أسلوب من البيان، دالات على الحق، ساطعات الحجة والبرهان قالوا لمن يتلوها عليهم، وهو الرسول ﷺ: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال، ولا ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها، أو بدّله بأن تجعل بدل الآية المشتملة على الوعيد آية أخرى، ولم يكن مقصدهم من هذا إلا أن يختبروا حاله بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره في جملة ما بلّغهم من سوره في أسلوبها ونظمها، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه من تحقير آلهتهم وتكفير آبائهم حتى إذا فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه دعوى لا يعوّل عليها، وكان قصارى أمره أنه امتاز عنهم بنوع من البيان خفيت عليهم أسباب معرفته، ولم يكن بوحي من الله كما يزعمه.
(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي قل لهم أيها الرسول إنه ليس من شأني ولا مما تجيزه لي رسالتي أن أبدله من تلقاء نفسي ومحض رأيى وخالص اجتهادي.
ثم أكد ما قبله فقال:
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلي والاهتداء بهديه، فإن بدّل الله منه شيئا بنسخه بلغت عنه ما أراد، وما علي إلا البلاغ.
ثم علل ما سبق بقوله:
(إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إني أخاف إن فعلت أي عصيان، عذاب يوم عظيم الشأن، ألا وهو يوم القيامة، فكيف بي إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم.
ثم لقّنه الله الجواب عن الشق الأول وهو التغيير لأهميته بقوله:
(قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) يقال دريته ودريته به، أي علمته، أي قل لهم لو شاء الله ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه بأمره وتنفيذ مشيئته ولو شاء الله ألا يعلمكم به بإرسالى إليكم لما أرسلنى ولما أدراكم به، ولكنه شاء أن يمنّ عليكم بهذا العلم النافع لتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف في الأرض، وهذا لن يكون بكتاب آخر كما قال « وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاج إليه البشر من الهداية وأسباب السعادة.
(فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) أي فقد مكثت بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله وهو أربعون سنة لم أتل عليكم سورة من مثله ولا آية تشبه آياته، لا في العلم والهداية، ولا في البيان والبراعة.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ كتابا ولم يلقّن من أحد علما ولم يتقلد دينا ولم يمارس أساليب البيان وأفانين الكلام من شعر ونثر وخطابة وفخر وعلم وحكمة - لا يمكنه أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولجميع الدارسين لكتب الأديان، فكيف تقترحون علي أن آتى بقرآن غيره.
وقد كان أكثر أنبياء بني إسرائيل قبل نبوتهم على شيء من العلم كما قال تعالى في موسى « وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا » وقال في يحيى « وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ».
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي إن شر أنواع الظلم والإجرام في البشر شيئان:
(1) افتراء الكذب على الله، وذلك بما اقترحتموه على الإتيان بقرآن غيره.
(2) التكذيب بآيات الله بما اجترحتموه من السيئات.
وقد نعيت عليكم الثاني منهما، فكيف أرضى لنفسى الأول وهو شر منه، وإنّ أهم أغراض رسالتي الإصلاح، ولأجله أحتمل المشاقّ، وأقبل في سبيله كل إرهاق، فلا فائدة لي في هذا الإجرام.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي إنه لا يفوز الذين اجترموا الكفر في الدنيا إذا لقوا ربهم ولا ينالون الفلاح.
[سورة يونس (10): آية 18]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
المعنى الجملي
بعد أن بين في الآيات السالفة أنهم طلبوا منه أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله لأن فيه نبذا لآلهتهم وطعنا فيها وتسفيها لآرائهم في عبادتها - نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين لهم حقارة شأنها إذ لا تستطيع نفعا ولا ضرا، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها من دون الله، ويجعل لها الشفاعة عنده وليس لديهم برهان على ما يدّعون، سبحانه وتعالى عما يشركون.
الإيضاح
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته تعالى وحده فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره كما قال تعالى « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ».
وفي الآية إيماء إلى أن سبب عبادتها وضلالهم فيما يدّعون هو اعتقادهم فيها القدرة على الضر والنفع، فرد عليهم خطأهم بأنه وحده هو القادر على نفع من يعبده وضر من يشرك بعبادته غيره في الدنيا والآخرة.
وقد دل تاريخ البشر في كل طور من أطواره على أن كل ما عبده من دون الله من صنم أو وثن فإنما عبده لاعتقاده فيه القدرة على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب المعروفة كعبادته للأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب والأصنام المصنوعة من المعادن والحجارة أو غير المصنوعة كاللات، وهي صخرة كانت بالطائف يلتّ عليها السويق عظّمت حتى عبدت، أو الأشجار كالعزّى معبودة قريش.
(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) أي ويقولون في سبب عبادتهم لهم مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم إيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى، وهؤلاء شفعاء عنده ونحن إنما نعبدهم ونعظم هيا كلهم ونطيّبها بالعطر ونقدم لهم النذور ونهلّ لهم عند ذبح القرابين بذكر أسمائهم وبدعائهم والاستغاثة بهم، لأنهم يشفعون لنا عند الله ويقربوننا إليه زلفى ويدفعون بجاههم عنا البلاء ويعطوننا ما نطلب من النعماء.
وقد روى عكرمة أن النضر بن الحارث قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى.
فأساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلب من الله لا بد أن يكون بوساطة المقربين عنده، إذ هم لا يمكنهم التقرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم لأنها مدنّسة بالمعاصي - أما الموحدون فيعتقدون أنه يجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته.
(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم أيها الرسول مبينا لهم كذبهم ومنكرا عليهم افتراءهم على ربهم: أتخبرون الله بشىء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء في السموات من ملائكته وفى الأرض من خواص خلقه، ولو كان له شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم، إذ لا يخفى عليه شى في الأرض ولا في السماء، فإذا هؤلاء لا وجود لهم عنده، وأنكم قد اتخذتم ذلك قياسا على ما ترونه من الوساطة عند الملوك الجاهلين بأمور رعيتهم والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم، بدون وساطة الوزراء وذوي المكانة فيهم.
وبهذا ثبت بطلان الشرك في الألوهية وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود، وبطلان الشرك في الربوبية بادعاء وساطة المعبود في الخلق والتدبير، أو الشفاعة عند الله إذ ليس لمعبود بذاته ولا بتأثير خاص له عند خالقه يحمله على نفع من شاء ولا ضر من شاء أو كشف ضر عنه كما يعتقده عباد الأولياء من البشر إلى اليوم، فكل ذلك للرب وحده ولا يعلم إلا بوحيه، فادعاء ذلك لغيره كذب لا مستند له.
وفي هذا حجة أيّما حجة على زوار الأضرحة والقبور الذين يقولون: إن هؤلاء الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام، وقد جهلوا أن الله يقول للنصارى إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له مع ما آتاه من المعجزات، وأظن أن الأمر لا يبلغ بهم أن يجعلوا السيد البدوي وسيدنا الحسين والسيدة زينب أفضل عند الله ولا أقرب منه.
وقد أمر الله رسوله ﷺ أن يخبر الناس بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ».
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا وعلا علوا كبيرا عما يشركون به من الشفاعة والوسطاء وما يفترونه عليه من أنّ لأحد من خلقه وساطة عنده وشفاعة لديه تقرب إليه زلفى، ففي هذا تحقير لمقام الربوبية والألوهية وتشبيه الرب بعبيده من الملوك الجاهلين.
وفي هذا إيماء إلى أن شئون الرب وسائر ما في عالم الغيب لا يعلم إلا بخبر الوحي ومن ذلك اتخاذ الشفعاء والوسطاء عنده، فيكون كفرا صراحا.
[سورة يونس (10): آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام، وبين سبب هذه العبادة - ذكر هنا بيان ما كان عليه الناس من الوحدة في الدين وما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة فيه.
الإيضاح
(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) أي إن الناس جميعا كانوا أمة واحدة على فطرة الإسلام والتوحيد ثم اختلفوا في الأديان، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ».
فبعث الله فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب الله ووحيه، ثم اختلفوا في الكتاب أيضا بغيا بينهم واتباعا لأهوائهم.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي ولو لا كلمة حق سبقت من ربك في جعل الجزاء العام في الآخرة لعجّله لهم في الدنيا بإهلاك المبطلين المعتدين.
وفي الآية وعيد شديد على احتلاف الناس المؤدى إلى العدوان والشقاق، ولا سيما الاختلاف في الكتاب الذي أنزل لإزالة الشقاق.
[سورة يونس (10): آية 20]
ويَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه عن المشركين إنكارهم للوحى إلى بشر مثلهم ورد عليهم مقالتهم بالحجج التي تثبت بطلان شركهم وإنكارهم للبعث، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول ﷺ بالإتيان بقرآن غير هذا الذي يدل في نظمه وأسلوبه وعلومه وهدايته على أنه وحي من كلام الله - حكى عنهم في هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال آية كونية غير القرآن مع ما فيه من الآيات العلمية والعقلية الدالة على النبوة والرسالة ثم رد على ذلك.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي قالوا مرارا وتكرارا ولا يزالون يقولون: هلا أنزل على محمد ﷺ آية كونية كآيات الأنبياء الذين يحدثنا عنهم كنوح وشعيب وهود، وقد جاء هذا الاقتراح هنا مجملا وأجاب عنه جوابا مجملا لأن كلا منهما سبق مفصلا في سور أخرى كقوله في سورة الفرقان: « وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » وحكى عنهم أنهم طالبوه بواحدة من بضع آيات وعلّقوا إيمانهم على إجابة مطلبهم فقال: « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ ».
فلقنه الله الرد عليهم بقوله: « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ » أي وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحوها إلا تكذيب الأولين كعاد وثمود بها، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال كما مضت بذلك سنتنا، وقد قضينا ألا نستأصلهم لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية وأنه هو رحمته العامة الشاملة، وفيهم من يؤمن أو يولد له من يؤمن، وقد آتى الله رسوله ﷺ آيات علمية وكونية ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته ولا أمره بالتحدي بها، بل كانت لضرورات استدعتها كاستجابة بعض أدعيته ﷺ كشفاء المرضى وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة بدر وغزوة تبوك، وتسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ في الرمل ببدر.
وعلى الجملة فحجة النبي ﷺ على نبوته هي كتابه المعجز بهدايته وعلومه.
روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا « ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة »
(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلّقتم إيمانكم بنزوله من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ولا علم لي به، فإن كان قدّر إنزال آية علي فهو يعلم وقتها وينزلها فيه، ولا أعلم إلا ما أوحاه إلي.
(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعله الله بي وبكم، فقد اجترأتم على جحود الآيات واقتراح غيرها، والآية بمعنى قوله: « قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ » وقد جاء تفسير ما ينتظره وينتظرونه منه في قوله في آخر هذه السورة « فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ».
وفي الآية إنذار بما سيحل بهم من العذاب بخذلانهم ونصر الرسل عليهم في الدنيا وما وراءها من عذاب الآخرة.
[سورة يونس (10): الآيات 21 الى 23]
وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
تفسير المفردات
أصل الذوق: إدراك الطعم بالفم، ويستعمل في إدراك الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة والعذاب والنقمة، والمكر: التدبير الخفي الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه ومكره تعالى تدبيره الذي يخفى على الناس بإقامة سننه وإتمام حكمه في نظام العالم، وكله عدل وحق، فإن ساء الناس سمّوه شرا، وإن كان جزاء عدلا، والرسل هنا: الكرام الكاتبون من الملائكة، والتسيير: جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره تعالى أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو سفينة، والفلك: السفينة أو السفن واحد وجمع، والطيب: من كل شيء ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال رزق طيب ونفس طيبة وشجرة طيبة، والعاصف: الذي يعصف الأشياء ويكسرها، يقال ريح عاصف وعاصفة، وأحيط به هلك كما يحيط العدو بعدوه فيسدّ عليه سبل النجاة، والبغي: مازاد على القصد والاعتدال، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن القوم طلبوا من الرسول ﷺ آية أخرى سوى القرآن، وذكر جوابا عن هذا بأنه مما لا يملك ذلك لأن هذا من الغيب الذي استأثر بعلمه، قفّى على ذلك بجواب آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم، بل يكابرون حسّهم ولا يؤمنون، إذ من عاداتهم اللجاج والعناد فكثيرا ما جاءتهم الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله في أفعاله، ثم هم يمكرون فيها ولا تزيدهم إلا ضلالا.
الإيضاح
(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي وإذا رزقنا المشركين بالله فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدة أصابتهم، بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به في مقام الشكر، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض وأنبت الزرع ودرّ به اللبن بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل، نسبوا ذلك إلى الكواكب أو الأصنام، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزهم معرفة عللها وأسبابها علّلوها بالمصادفات، وإذا كان سببها دعاء نبي أنكروا إكرام الله له، وتأييده بها كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء رسول الله ﷺ ثم رفع عنهم بدعائه عليه الصلاة والسلام فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه « أن قريشا لما استعصوا على رسول الله ﷺ دعا عليهم بسنين كسنى سيدنا يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى « فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ » فجاء أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ فقال يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا فعادوا الى حالهم ومكرهم الأول يطعنون في آيات الله ويعادون رسوله ﷺ ويكذّبونه ».
(قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) أي قل لهم: إن الله أسرع منكم مكرا، فهو قد دبّر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبّروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام، وقد سبق في تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم في الدنيا قبل الآخرة، وهو عليم بما تفعلون لا تخفى عليه خافية.
(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي إن الحفظة من الملائكة الذين وكلهم الله بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها في الآخرة يكتبون ما تمكرون به.
وفي ذلك تنبيه إلى أن ما دبّروا ليس بخاف عليه تعالى، وإلى أن انتقامه واقع بهم لا محالة.
وعلينا أن نعتقد بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا الله تعالى بمعرفة صفتها، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما في إحصاء أعمالنا لأجل أن نراقبه فيها فنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها.
ثم ضرب مثلا من أبلغ أمثال القرآن ليظهر لهم ويتضح به ما هم عليه فقال:
(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي أنه تعالى هو الذي وهبكم القدرة على السير في البر وسخر لكم الإبل والدواب، وفى البحر بما سخر لكم من السفن التي تجرى في البحر والقطر التجارية والسيارات، وفى الهواء بالطائرات التي تسير في الجوّ.
(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي حتى إذا كنتم في الفلك التي سخرناها لكم وجرت بمن فيها بسبب ريح مواتية لهم في جهة سيرهم، وفرحوا بما هم فيه من راحة وانتعاش وتمتع بمنظره الجميل وهوائه العليل - جاءت ريح شديدة قوية فاضطرب البحر وتموّج سطحه كله فتلقاهم من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح، واعتقدوا أنهم هالكون لا محالة بإحاطة الموج بهم، فبيما يهبط الريح العاصف بهم في الحج البحر حتى كأنهم سقطوا في هاوية إذا به يثب بهم إلى أعلى كأنهم في قمّة الجبل الشاهق - فإذا ما نزلت بهم نذر العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، دعوا الله مخلصين له الدين ليكشف عنهم ما حل بهم ولا يتوجهون معه إلى ولي ولا شفيع ممن كانوا يتوسلون بهم إليه حال الرخاء. وقد صمموا العزيمة على طاعته وقالوا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة لنكونن من جماعة الشاكرين، ولا نتوجه في تفريج كروبنا وقضاء حاجتنا إلى وثن ولا صنم، ولا إلى ولي ولا نبي.
وفي الآية إيماء إلى أن الناس جبلوا على الرجوع إلى الله حين الشدائد، ولكن من لا يحصى عددهم من المسلمين في هذا العصر لا يدعون حين أشد الأوقات حرجا إلا الميتين من الأولياء والصالحين، كالسيد البدوي والرفاعي والدسوقي والمتولي وأبى سريع وغيرهم ويتأول ذلك لهم بعض العلماء ويسمونه توسلا أو نحو ذلك.
قال السيد حسن صديق الهندي في تفسيره [ فتح الرحمن ]: فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع. فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية، وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام « إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » اهـ.
وقال الآلوسي في تفسيره: وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في برّ أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يستغيث بأحد الأئمة. ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمرّ له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لي: أي الفريقين أهدى سبيلا، وأي الداعيين أقوم قيلا، وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، واتّخذت الاستعانة بغير الله للنجاة ذريعة، وخرقت سفينة الشريعة اهـ.
(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي فلما نجاهم مما نزل بهم من الشدة والكربة فاجئوا الناس في الأرض التي يعيشون فيها بالبغي عليهم والظلم لهم مع الإمعان في ذلك والإصرار عليه.
وفي قوله: بغير الحق - تأكيد للواقع وتذكير بقبحه وسوء حال أهله، أو لبيان أنه بغير حق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى على أحد قبحه كما جاء في قوله: « وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ».
وبعد أن حكى المثل خاطب البغاة في أي مكان كانوا وفى أي زمان وجدوا منبها واعظا فقال:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يا أيها الغافلون عن أنفسكم، أما كفا كم بغيا على المستضعفين منكم اغترارا بقوتكم وكبريائكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة إليكم، وإنما تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الزائلة وهي تنقضى سراعا، والعقاب باق، وأقله توبيخ الضمير والوجدان.
(ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم إنكم ترجعون إلينا بعد هذا التمتع القليل فننبئكم بما كنتم تعملون من البغي والظلم والتمتع بالباطل ونجازيكم به.
وفي الآية إيماء إلى أن البغي مجزي عليه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلقوله: إنما بغيكم على أنفسكم، ولما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري « ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم »، والذي رواه أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ « ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنّكث والبغي، ثم تلا: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) - (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) - و(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ).
وأما في الآخرة فكفى دلالة على ذلك ما أفادته الآية من التهديد والوعيد.
والخلاصة - إن البغي وهو أشنع أنواع الظلم يرجع على صاحبه - لما يولّد من العداوة والبغضاء بين الأفراد ولما يوقد من نيران الفتن والثورات في الشعوب، انظر إلى من يبغى على مثله تجده قد خلق له عدوا أو أعداء ممن يبغى عليهم.
ولا شك أن وجود الأعداء ضرب من العقوبة، فهم يقتصون لأنفسهم منه بكل
الوسائل التي يقدرون عليها - وإن هم لم يفعلوا ذلك فإنه يرى في أعينهم من أنواع الحنق والغضب ما لا يخفى عليه فيتأجج قلبه حسرة وندامة على ما فعل، ويود أن لو لم يكن قد خلق لنفسه هذه الحزازات والضغائن المتغلغلة في النفوس.
[سورة يونس (10): آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
المعنى الجملي
لما كان سبب بغى الناس في هذه الدنيا هو إفراطهم في حبها والتمتع بزينتها - ضرب بذلك مثلا يصرف العاقل عن الغرور بها، ويرشده إلى الاعتدال في طلبها والكفّ عن التوسل في الحصول على لذّاتها بالبغي والظلم والفساد في الأرض - فشبه حال الدنيا وقد أقبلت بنعيمها وزينتها وافتتن الناس بها بعد أن تمكّنوا من الاستمتاع بها، ثم أسرع ذلك النعيم في التقضي وانصرم غبّ إقباله واغترار الناس به، بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق الله إليها المطر، فيلتفّ بعضها على بعض وتصبح بهجة للناظرين، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة تستأصلها وتجعلها حطاما كأن لم تكن بالأمس.
الإيضاح
(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) أي إنما صفة الحياة في صورتها ومآلها كصفة ماء نزل من السماء فأنبتت به الأرض أزواجا شتى من النبات تشابكت واختلط بعضها على كثرتها واختلاف ألوانها وأنواعها من أصناف شتى تكفي الناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم.
(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي حتى إذا كانت الأرض بها في خضرتها السندسية وألوان أزهارها المختلفة (كعروس حلّيت بالذهب والجواهر والحلل المختلفة الألوان ذات البهاء والبهجة، وازينت بها في ليلة زفافها) وظن أهلها أنهم قادرون على التمتع بثمراتها متمكنون من ادّخار غلاتها.
(أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي نزل بها في تلك الحال أمرنا المقدر لهلاكها فجاءتها جائحة وضرب زرعها بعاهة كجراد أو صقيع شديد أو ريح سموم ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم غافلون فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ولم يبق منه شى، أو كأنها لم تنبت ولم تكن زروعها نضرة بالأمس.
وجاء هذا المعنى في قوله: « أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ».
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها - نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول التشريع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق. وكل ما فيه صلاح للناس في معاشهم ومعادهم لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة.
وقد غفل الناس عن الهداية بهذه الآيات وأمثالها. واهتدى بها الشعب العربي فخرج من خرافة شركه إلى نور التوحيد والعلم والحضارة. ثم اهتدى بدعوته الملايين من الشعوب الأخرى فشار كوه في السعادة والنعيم، ولم يكن للمسلمين الآن حظ منها إلا التمتع بحسن ترتيلها في بعض المواسم والمآتم ولم يخطر لهم ببال أن يتدبروا معانيها وأن يهتدوا بهديها - وهم لو فعلوا ذلك لعلموا أن كل ما يشكو منه الناس من العداوات القومية والحروب الدولية والرذائل النفسية. والشقاء الذي عمت جرثومته البشر، إنما سببه التنافس في متاع هذه الحياة، ولو التزموا القصد والاعتدال في مطالبهم منها وصرفوا همهم في قوة الدولة وإعلاء كلمة الله والاستعداد للآخرة لسعدوا في الدارين ونالوا رضاء الله في الحالتين.
[سورة يونس (10): الآيات 25 الى 27]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
تفسير المفردات
دار السلام: هي الجنة، والسلام: السلامة من جميع الشوائب والنقائص والأكدار، ورهقه: غشيه وغلب عليه حتى غطّاه وحجبه، وقوله: « ولا ترهقنى من أمري عسرا » أي لا تكلفنى ما يشق علي ويعسر، والقتر: الدخان الساطع من الشّواء والحطب، وكذا كل غبرة فيها سواد، والعاصم: المانع.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا وضرب لهم الأمثال على ذلك - قفى على هذا بالترغيب في الآخرة ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها فقال:
الإيضاح
(وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي ذلك الإيثار لمتاع الدنيا والغرور بها هو ما يدعو إليه الشيطان، فيوقع متّبعيه في جهنم دار النكال والوبال والله يدعو عباده إلى دار السلام، إذ يأمرهم بما يوصّل إليها.
(وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ويهدى من يشاء إلى الطريق الموصّل إليها بلا تعويق، لأنه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام: عقائده وفضائله وأحكامه.
وأصل الهداية الدلالة بلطف، وهي إما بالتشريع ببيانه وتفصيله للناس عامة، وإما بالتوفيق للسير على سنن الدين والاستقامة عليه، وهي خاصة بالمستعدين للعمل به، ومن ثم قيدها بالمشيئة.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا المثوبة الحسنى أي التي تزيد في الحسن على إحسانهم وهي مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر، وجاء هذا المعنى في قوله: « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » أي ولهم زيادة على هذه الحسنى فوق ما يستحقون على أعمالهم بعد مضاعفتها.
وقد ورد من طرق عدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم وذلك هو أعلى مراتب الكمال الروحي الذي لا يصل إليه إلا المحسنون العارفون في الآخرة.
(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي ولا يغشى وجوههم شيء مما يغشى الكفرة من الغبرة التي فيها سواد، ولا أثر هوان ولا كسوف بال.
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة وسكانها وهم ساكنون فيها أبدا، فهي لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمحرجين منها، فتنغّص عليهم لذاتهم.
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أي والذين عملوا السيئات في الدنيا فعصوا الله فيها وكفروا به وبرسوله ﷺ، جزاء سيئة من عملهم السيء الذي عملوه في الدنيا بمثلها من عقاب الله في الآخرة جزاء وفاقا، ولا يزادون على ما يستحقونه من العذاب شيئا.
(وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي وتغشاهم ذلة الفضيحة وكسوف الخزي بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور.
(ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لهم من الله من مانع يمنعه إذا هو عاقبهم أو يحول بينه وبينهم، كالذين اتخذوهم في الدنيا شركاء وزعموهم شفعاء، فذلك هو اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب التي كانت تفيد في الدنيا « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ».
(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أي كأنما ألبست وجوههم قطعا من أديم الليل حال كونه حالكا مظلما لابصيص فيه من نور القمر الطالع ولا النجم الثاقب، فتشقها قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.
(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين لهم تلك الصفات هم أصحاب النار هم فيها خالدون لا يبرحونها لأنه ليس لهم مأوى سواها.
وقد جاء في معنى هذه الآيات في وصف الفريقين قوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ » وقوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ».
[سورة يونس (10): الآيات 28 الى 30]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
تفسير المفردات
الحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد، ومكانكم: كلمة يراد بها التهديد والوعيد، أي الزموا مكانكم، وزيلنا: فرقنا وميزنا، وتبلو: تختبر، وأسلفت: قدّمت وضل: ضاع وذهب.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه وتعالى جزاء الذين كسبوا السيئات وما يكون لهم من الذلة والهوان - قفّى على ذلك بذكر اليوم الذي يحصل فيه هذا الجزاء.
الإيضاح
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أي واذكر أيها الرسول الكريم لكلام الفريقين الذين أحسنوا الحسنى، والذين كسبوا السيئات - يوم نحشرهم جميعا بلا تخلف أحد في موقف الحساب.
(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي ثم نقول لمن أشرك منهم بعد طول مكث لا يكلّمون بشىء - الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم ويفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم إياهم والحجة التي يدلى بها كل فريق منكم.
وفي هذا وعيد شديد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، وتقريع بكون هذا معظم سيئاتهم.
(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ففرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله سبحانه وتعالى وميزّنا بعضهم من بعض، كما يميز بين الخصوم عند الحساب ويراد بهذا التفريق تقطيع ما كان بينهم في الدنيا من صلات وروابط وبيان خيبة ما كان للمشركين في الشركاء من آمال.
(وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي وقال شركاؤهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم التي كانت تقوّيكم، وتتخذون تماثيلنا هياكل لمنافعكم وأغراضكم، والمعبود الحق هو الذي يعبد، لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق وبيده النفع والضر.
(فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي فكفى الله شهيدا وحكما بيننا وبينكم، فهو العليم بحالنا وحالكم.
(إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أي إننا كنا في غفلة عن عبادتكم لا ننظر إليها ولا تفكّر فيها.
(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي في موقف الحساب تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة، ومؤمنة وجاحدة، ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل، وما كان لكسبها في صفاتها من أثر، خير أو شر، بما ترى من الجزاء عليه، فهو ثمرة طبيعية له، لا شأن فيه لولي ولا شفيع، ولا معبود ولا شريك.
(وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي وأرجعوا إلى الله الذي هو مولاهم الحق، دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء، والأنداد والشركاء.
وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: « إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ » وقوله: « إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ » وقوله: « وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ».
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وضاع عنهم ما كانوا يفترون عليه من الشفعاء والأولياء، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ولا ينقذهم من هول ذلك الموقف كما قال: « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » وقد تكرر هذا المعنى في آيات
كثيرة، منها ما جاء مجملا، ومنها ما جاء مفصلا، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين، ومنها ما يسأل فيه المعبودين، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين.
[سورة يونس (10): الآيات 31 الى 33]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
المعنى الجملي
بعد أن بين جنايات المشركين على أنفسهم، وبين فساد معتقداتهم وما سيلقونه من الجزاء على ما فعلوا - قفى على ذلك بإقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث، ثم أردفه بإثبات النبوة والرسالة والقرآن:
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المعاندين من أهل مكة: من يرزقكم من السماء بما ينزله عليكم من الأمطار، ومن الأرض بما ينبته من شتى النباتات من نجم وشجر تأكلون منه وتأكل أنعامكم؟
(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي وقل لهم من يملك ما تتمتعون به من حاستى السمع والبصر؟ وأنتم بدونهما لا تدرون شيئا من أمور العالم، وتكون الأنعام والهوامّ بل الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها.
وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال الحياة الإنسانية، إذ بهما تحصيل العلوم الأولية.
وخلاصة ذلك - من خلق هذه الحواس ووهبها للناس وحفظها مما يعتريها من الآفات؟ ولا شك أن الجواب عن ذلك السؤال لا حاجة فيه إلى الفكر، فإن هم تأملوا في ذلك ازدادوا علما وإعجابا بإنعام الله بهما، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره على إيجادهما.
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي ومن ذا الذي بيده أمر الموت والحياة فيخرج الحي من الميت والميت من الحي فيما تعرفون من المخلوقات وما لا تعرفون، فالله هو الذي يخرج النبات من الأرض الميتة بعد إحيائه إياها بماء المطر النازل عليها من السماء كما قال تعالى: « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ ».
وعلامة الحياة في النبات النموّ، وفى الحيوان النمو والإحساس والحركة بالإرادة، ولم يكونوا يصفون أصول الإحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه، ومن ثم مثلوا إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما، وهو تفسير صحيح عند علماء اللغة، غير صحيح عند علماء المواليد الثلاثة، وبه تحصل الدلالة على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته لدى المخاطبين.
وإذا كان أرباب الفنون أثبتوا أن في أصول النبات كالبذور والنوى والبيض والمني حياة، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة، فقد قالوا إن الأرض كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ثم صارت ماء، ثم نبتت اليابسة في الماء ثم تكوّن من الماء النبات والحيوان في أطوار شتى وقالوا، أيضا إن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار ويتولد منه الدم، ومن هذا الدم يكون البيض والمنى المشتملان على مادة الحياة، وقالوا أيضا: إن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن، وتتجدد فيه مواد جديدة تحل محل ما خرج منها وفني.
والخلاصة - إن علماء المواليد قالوا: الحي لا يخرج إلا من حي، ولكن الحياة الأولى هي من خلق الله الحي بذاته المحيي لغيره.
(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن يلي تدبير أمر الخليقة جميعا بما أودعه في كل منها من السنن وقدّره من النظام.
(فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) أي فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بلا تلعثم ولا تلكّؤ بأن فاعل هذا كله هو الله رب العالم كله ومليكه - إذ لا جواب غيره وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه.
(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فقل لهم أيها الرسول الكريم: أفلا تتقون سخطه وعقابه لكم بشرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم ضرا ولا نفعا.
(فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) أي فذلكم المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو الله المربى لكم بنعمه والمدبر لأموركم، وهو الحق الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه.
(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي فماذا بعد الرب الحق الثابتة ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق، وعبادته وحده هي الهدى، وما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال؟ مع علمكم بما كان به الله هو الرب الحق، فما بالكم تقرّون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية فتتخذون مع الله آلهة أخرى.
(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي مثل ذلك الذي حقّت به كلمة ربك من وحدة الربوبية والألوهية، وكون الحق ليس بعده لمن تنكّب عنه إلا الضلال - حقت كلمة ربك: أي وعيده على الذين خرجوا من حظيرة الحق، وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق.
(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي هي أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن الآية بيّنة، والحجة ظاهرة قوية.
وليس المراد أنه يمنعهم من الإيمان بالقهر، بل هم يمتنعون منه باختيارهم لفقدهم نور البصيرة واستقلال العقل فلا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال لرسوخهم في الكفر، واطمئنانهم به بالتقليد كما قال تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ».
[سورة يونس (10): الآيات 34 الى 36]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
المعنى الجملي
هذا ضرب آخر من الحجة أقامه سبحانه دليلا على توحيده وبطلان الإشراك به جاء بطريق السؤال للتوبيخ وإلزام الخصم، فإن الكلام إذا كان ظاهرا جليا، ثم ذكر على سبيل الاستفهام وفوّض الجواب إلى المسئول، يكون أوقع في النفس وأبلغ في الدلالة على الغرض.
الإيضاح
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي قل لهم أيها الرسول: هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله من الأصنام أو الأرواح الحالّة فيها كما تزعمون، أو الكواكب السيارة أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن، من له هذا التصرف في الكون ببدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر؟.
ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال كما أجابوا عن الأسئلة الأولى لإنكارهم للبعث والمعاد، لقّن الله رسوله الجواب فقال:
(قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية دون الأحياء النباتية، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض حين ما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء وموته بجفافها في فصل الصيف والخريف، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل البدء والإعادة، لأنهم يشاهدون كلا منهما وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم أو يلمسونه بأيديهم.
وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير في أمرهم فقال:
(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون من الحق الذي لا محيد عنه، وهو التوحيد إلى الضلال البيّن، وهو الإشراك وعبادة الأصنام، وذلك من دواعى الفطرة وخاصة العقل حين تفكيره في المصير.
ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره إلزاما لهم عقب الإلزام الأول، فسألهم عن شأن من شئون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال:
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي قل لهم أيها الرسول: هل من أولئك الشركاء من يهدى إلى الحق بوجه من وجوه الهداية التي بها تتم حكمة الخلق.
كما يدل على ذلك قوله (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).
والهداية أنواع - هداية الغريزة والفطرة التي أودعها الله في الإنسان والحيوان، وهداية الحواس من سمع وبصر ونحو ذلك، وهداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل، وهداية الدين، وهو للنوع البشرى في جملته بمثابة العقل للأفراد، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبله ومنع الصوارف عنه.
ولما كانوا لا يستطيعون أن يدّعوا أن أحد من أولئك الشركاء يهدى إلى الحق لا من ناحية الخلق ولا من ناحية التشريع، لقن الله رسوله الجواب فقال:
(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) أي قل هو الله سبحانه الذي يهدى إلى الحق دون غيره بما نصب من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وهدى إلى النظر والتدبّر، وأعطى من الحواس.
(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) قرأ يعقوب وحفص يهدى بكسر الهاء، وتشديد الدال وأصله يهتدى، أي أفمن يهدى إلى الحق وهو الله أحق أن يتّبع فيما يشرّعه، أم من لا يهدى غيره ولا يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره وهو الله تعالى، إذ لا هادي غيره.
ويدخل فيمن نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء - المسيح عيسى بن مريم وعزير والملائكة. وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في سورة الأنبياء « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ».
(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أي شيء أصابكم وماذا حلّ بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا هادي لكم سواه، كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه.
وفي هذا تعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم.
وبعد أن أقام الحجج على توحيد الربوبية والألوهية، بيّن حال المشركين الاعتقادية فقال:
(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي إن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير الله، ولا في إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرسول عليه الصلاة والسلام إلا ضربا من ضروب الظن قد يكون ضعيفا كأن يقيسوا غائبا على شاهد، ومجهولا على معروف ويقلدون الآباء اعتقادا منهم أنهم لا يكونون على باطل في اعتقادهم، ولا ضلال في أعمالهم وقليل منهم كان يعلم أن ما جاء به الرسول ﷺ هو الحق والهدى وأن أصنامهم وسائر معبوداتهم لا تضرّ ولا تنفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسوله ﷺ عنادا واستكبارا وخوفا على زعامتهم أن تضيع سدى فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين.
ثم بين حكم الله في الظن فقال:
(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) الحق هو الثابت الذي لا ريب في ثبوته وتحققه أي إن الشك لا يقوم مقام اليقين في شيء ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين.
وخلاصة ذلك - إن الظن لا يجعل صاحبه غنيّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك كالعقائد الدينية، وبهذا تعلم أن إيمان المقلد غير صحيح.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي إن الله عليم بما كانوا يعملون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها، كتكذيبهم للرسول ﷺ مع قيام الأدلة القطعية على صدقه، واتباعهم للظن كالتقليد باتباع الآباء والأجداد.
وفي الآية إيماء إلى أن أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن، فالعلم المفيد للحق ما كان قطعيا من كتاب أو سنة، وهو الدين الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به في الاعتقاد وهو متروك للاجتهاد في الأعمال، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية، واجتهاد أولى الأمر في القضاء مع سلوك طريق الشورى حتى يتحقق العدل والمساواة في المصالح العامة.
[سورة يونس (10): الآيات 37 الى 39]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه الأدلة على أن القرآن من عنده، وأن محمدا ﷺ عاجز كغيره عن الإتيان بمثله، ثم أتى بالحجج على بطلان شركهم واتباع أكثرهم لأدنى الظن وأضعفه في عقائدهم - عاد إلى الكلام في تفنيد رأيهم في الطعن على القرآن بمقتضى هذا الظن الضعيف لدى الأكثرين منهم، والجحود والعناد من الأقلين كالزعماء والمستكبرين.
الإيضاح
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه وينسبه إليه، إذ لا يقدر على ذلك غيره عز وجل، فإن ما فيه من علوم عالية، وحكم سامية، وتشريع عادل، وآداب اجتماعية، وأنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة ليس في طوق البشر ولا هو داخل تحت قدرته وفى حيّز مكنته، ولئن سلم أن بشرا في مكنته ذلك فلن يكون إلا أرقى الحكماء والأنبياء والملائكة، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئا.
ولقد ثبت أن أشد أعداء النبي ﷺ، وهو أبو جهل قال: إن محمدا لم يكذب على بشر قط، أفيكذب على الله؟.
(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحي لرسل الله تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم بدعوته إلى أصول الدين الحق من الإيمان بالله واليوم الآخر وصالح الأعمال بعد أن نسى بعض هذا بقية أتباعهم وضلّوا عن بعض، ولم يكن محمد النبي الأمي يعلم شيئا من ذلك لو لا الوحي عن ربه.
(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع.
(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه، لأنه الحق والهدى.
(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي من وحيه لا افتراء من عند غيره ولا اختلافا كما قال: « وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ».
وبعد أن أبان أنه أجلّ وأعظم من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله.
انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين الذين قالوا: إن محمدا ﷺ قد افتراه وفنّد مزاعمهم وتعجّب من حالهم وشنيع مقالهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ما كان ينبغي أن تقولوا إن محمد ﷺ افتراه من عند نفسه واختلقه، إذ لو كان الأمر كما تقولون وأنه اختلقه وافتراه، فأتوا بسورة مثله في نظمه وأسلوبه وعلمه مفتراة في موضوعها، لا تلتزمون أن تكون حقا في أخبارها، فإن لسانه لسانكم، وكلامه كلامكم، وأنتم أشد مرانا وتمرسا للنثر والنظم منه، واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون الله، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا، فإن جميع الخلق عاجزون عن هذا « قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا » إن كنتم صادقين في زعمكم أنه مفترى.
وإذ قد عجزتم عن ذلك مع شدة تمرّسكم، ولم يوجد في كلام أولئك الذين نصبت لهم المنابر في سوق عكاظ، وبهم دارت رحى النظم والنثر، وتقضّت أعمارهم في الإنشاء والإنشاد مثله - فهو ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر.
ومن البين أنه ما كان لعاقل مثله - ﷺ أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن موقنا أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن في جملته ولا بسورة مثله، إذ لو كان هو الذي أنشأه وألّفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله وذكاؤه يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة والباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به.
إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر قد يمكن غيره، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه.
والخلاصة - إن محمد ﷺ كان على يقين بأنه من عند ربه، وأنه ﷺ كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله.
ثم انتقل من إظهار بطلان ما قالوه في القرآن بتحدّيه لهم - إلى إظهار بطلانه ببيان أن كلامهم ناشىء من عدم علمهم بحقيقة أمره واختبار حاله فقال:
(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي بل هم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين الدالة على أنه كما وصف آنفا، ومن قبل أن يعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بمثله.
(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ولم يأتهم إلى الآن ما يئول إليه ويكون مصداقا له بالفعل ويقع ما أخبر به من الأمور المستقبلة.
وخلاصة ذلك - أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار بالغيب - قد أسرعوا في تكذيبه قبل أن يتدبروا أمره أو ينتظروا وقوع ما أخبر به - وفى تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع حصوله - شناعة وقصر نظر لا تخفى على عاقل، وفيه دليل على أنهم مقلدون.
(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل هذا التكذيب بلا تدبر ولا تأمل كذب الذين من قبلهم من مشركي الأمم رسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها الرسول الكريم كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم، لتعلم مصير من ظلموا أنفسهم من بعدهم، وهذه العاقبة هي التي بينها الله في قوله: « فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ».
وقد أنذر الله قوم محمد ﷺ بمثل ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة، كما أنذرهم عذاب الآخرة وكذبه المعاندون المقلدون في كل ذلك ظنا منهم أنه لا يقع.
[سورة يونس (10): الآيات 40 الى 41]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآية السالفة أنهم كذبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله وقبل أن يحيطوا بعلمه - قفّى على ذلك بذكر حالهم بعد أن يأتيهم التأويل المتوقع، وبيّن أنهم حينئذ يكونون فريقين: فريق يؤمن به، وفريق يستمر على كفره وعناده.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومن هؤلاء المكذبين من يؤمن به حين إتيان تأويله وظهور حقيقته بعد أن سعوا في معارضته ورازوا قواهم فيها فتضاءلت دونها.
(وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومنهم من يصرّ على الكفر ويستمر عليه.
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وربك أعلم بمن يفسدون في الأرض بالشرك والظلم والبغي، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وهؤلاء سيعذبهم في الدنيا ويخزيهم وينصركم عليهم، ويجزيهم في الآخرة لفسادهم وسوء معتقداتهم.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي وإن أصروا على تكذيبك فقل لي عملي، وهو البلاغ المبين والإنذار والتبشير، وما أنا بمسيطر ولا جبّار، ولكم عملكم وهو الظلم والفساد الذي تجزون به يوم الحساب كما قال تعالى: « هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ».
(أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وهذا كقوله: « قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ »
[سورة يونس (10): الآيات 42 الى 44]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
المعنى الجملي
بعد أن أنبأ الله رسوله ﷺ بأن من قومه من لا يؤمن به لا حالا ولا استقبالا، بل يصرّون على التكذيب بعد ما جاءتهم البينات، وكان ذلك من شأنه ﷺ أن يثير عجبه ويجعله يطيل الحزن والأسف إن لم يؤمنوا بهذا الحديث - ذكر سبب هذا، وهو أنهم قوم طبع الله على قلوبهم وفقدوا الاستعداد للإيمان، فلا وسيلة له ﷺ في إصلاح حالهم، ولا قدرة له على هدايتهم.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي ومن المكذبين ناس يصيخون بأسماعهم إذا قرأت القرآن أو بينت ما فيه من أصول الشرائع والأحكام، ولكنهم لا يسمعون إذ يستمعون، فهم لا يتدبرون القول ولا يتفقهون ما يراد منه، بل جلّ همهم أن يتسمعوا غرابة نظمه وجرس صوته بترتيله، كمن يستمع إلى الطائر يغرّد على غصن الشجرة ليتلذذ بصوته لا ليفهم ما يغرد به، وقد وصف الله حالهم في آي أخرى فقال: « ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ » وقال: « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا ».
والآن نرى من المسلمين من يستمع إلى قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت للتلذذ بترتيله وتوقيع صوته لا لينتفع بعظاته وعبره، ولا ليفهم عقائده وأحكامه.
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي إن السماع النافع للمستمع هو الذي يعقل به ما يسمعه ويفقهه ويعمل به، ومن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع، وإنك أيها الرسول الكريم لم تؤت القدر على إسماع الصم الذين فقدوا حاسة السمع حقيقة فكذلك لا تستطيع أن تسمع إسماعا نافعا من في حكمهم وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون ولا يفقهون معناه فيهتدوا به وينتفعوا بعظاته.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ومنهم من يتجه نظره إليك حين تقرأ القرآن ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان والخلق العظيم وأمارات الهدى والتزام الصدق.
(أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي إنك أيها الرسول الكريم كما لا تقدر على هداية العمى بدلائل البصر الحسية، لا تقدر على هدايتهم بالدلائل العقلية، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها.
وخلاصة ما تقدم - إن هداية الدين كهداية الحس لا تكون إلا للمستعدّ بهداية العقل، وإن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالا نافعا في الدلائل البصرية والسمعية لإدراك أي مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) يراد بالظلم هنا المعنى الذي تدل عليه اللغة وهو نقص ما تقتضى الخلقة الكاملة وجوده كما في قوله: « كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا » أي إنه لم يكن من سنن الله تعالى في خلقة أن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم من إدراكات وإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
(وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي إنهم يظلمون أنفسهم وحدها دون غيرها، لأن عقاب ظلمهم واقع عليها، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله من اتباع الحق في الاعتقاد والهدى في الأعمال، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين.
[سورة يونس (10): آية 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
المعنى الجملي
لما وصف الله هؤلاء المشركين بترك التدبر والإصغاء وتكذيبهم للرسول ﷺ والقرآن قبل أن يأتيهم تأويله - قفّى على ذلك بالوعيد بما سيكون لهم من الجزاء على هذا يوم القيامة.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) الساعة يضرب بها المثل في القلة: أي وأنذرهم أيها الرسول يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت ويسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مدة قليلة ثم تقضّت.
وخلاصة ذلك - إن هذه الدنيا التي غرّتهم بمتاعها الحقير الزائل قصيرة الأمد ستزول بموتهم، وسيقدّرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار لا تسع لأكثر من التعارف.
والآية بمعنى قوله: « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ». وقوله: « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ». وقوله: « قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ».
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أيإن هؤلاء آثروا الحياة القصيرة المنغّصة بالأكدار السريعة الزوال على الحياة الأبدية بما فيها من النعيم المقيم، فلم يستعدوا لها ويعملوا الأعمال الصالحة التي تزكى نفوسهم وتهذب أرواحهم، فخسروا السعادة فيها وما كانوا مهتدين فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الزائل على النفيس الخالد.
[سورة يونس (10): الآيات 46 الى 56]
وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتًا أَوْ نَهارًا ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه وتعالى في الآية السالفة أن هؤلاء المشركين الذين كذبوا بلقاء الله تعالى قد خسروا وما كانوا مهتدين، وهذا يتضمن تهديدا ووعيدا بالعذاب الذي سيلقونه في الدنيا والآخرة - قفّى على ذلك ببيان أن بعض هذا العذاب ستراه أيها الرسول الكريم وتقرّ عينك برؤيته، وبعض آخر سيكون لهم يوم الجزاء، وهو عليم بما فعلوه فيجازيهم به قدر ما يستحقون.
الإيضاح
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي وإن أريناك بعض ما نعدهم من العقاب في الدنيا، فذاك الذي يستحقونه وهم له أهل، وقد أراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه ﷺ عليهم، ونصره عليهم نصرا مؤزّرا في أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم وصناديدهم وهي غزوة بدر فقتلّهم وشرّدهم شر تقتيل وتشريد، وكذلك فعل بهم ﷺ في غيرها من الغزوات حتى فتح عاصمتهم أمّ القرى ودخل الناس في الدين أفواجا.
(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي أو نتوفينك هم قبل أن نريك ذلك فيهم فمصيرهم بكل حال إلينا، وآنئذ سيلقون من الجزاء ما يعلمون به صدق وعيدنا.
(ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيجزيهم به على علم وشهادة حق.
وقد جاء بمعنى الآية قوله: « فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ » وقوله. « وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ».
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي إنه تعالى رحمة بعباده وإزالة للحجة جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا بعثه فيها وقت الحاجة إليه، ليبين لهم ما يجب عليهم من الإيمان به وباليوم الآخر وما ينجيهم من العقاب في ذلك اليوم وهو العمل الصالح الذي يكون سببا في سعادتهم في الدارين.
وفي الآية دليل على أن الله تعالى قد أرسل إلى كل جماعة من الأمم السالفة رسولا وما أهمل أمة قط، ويدل على ذلك قوله: « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » وقوله: « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » وقوله: « رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ».
(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي فإذا جاء رسولهم وبلّغهم ما يجب عليهم معرفته من أمور دينه، لم يبق لهم حينئذ عذر في مخالفته، فهنالك في يوم الحساب يقضى الله تعالى بينهم بالعدل ولا يظلمون في قضائه شيئا مما سيحل بهم من عذاب لا يكون ظلما لهم، لأنه من قبل أنفسهم وهم الذين دنسوها بسيء الأعمال فاستحقوا على ذلك شديد العقاب.
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول كفار قريش للرسول ﷺ ومن اتبعه من المؤمنين مكذبين له فيما أخبرهم به من نزول العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء: متى يقع هذا الوعد الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين في قولكم: إن الله تعالى سينتقم لكم منا وينصركم علينا: أي في نحو ما جاء في قوله: « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا » وقوله: « قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا ».
وقد لقن الله رسوله ﷺ الجواب عن هذا السؤال بقوله:
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قل أيها الرسول لمن يستعجل الوعيد ويقول لك متى هذا الوعد. إني بشر رسول لا أملك لنفسى فضلا عن غيري شيئا من التصرف في الضر فأدفعه عنها، ولا شيئا من النفع فأجلبه لها من غير طريق الأسباب التي يقدر عليها غيري، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين ولا بذل النصر والمعونة للمؤمنين، لكن ما شاء الله تعالى من ذلك يكون متى شاء ولا شأن لي فيه، لأنه خاص بمقام الربوبية دون الرسالة التي من وظيفتها التبليغ لا التكوين.
وقد جاء في معنى الآية قوله: « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ».
(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لكل أمة من الأمم الذين أصرّوا على تكذيب رسولهم أجل لعذابهم يحلّ بهم عند حلوله لا يتعداهم إلى أمة أخرى، إذا جاء ذلك الأجل فلا يملك رسولهم من دون الله تعالى أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت.
قال في فتح البيان: وفى هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجّيراه المناداة لرسول الله ﷺ أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه وتعالى وكذلك من صار يطلب من الرسول ﷺ ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه وتعالى فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطى المانع.
وحسبك ما في الآية من موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأنه يقول لعباده « لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا » فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته؟.
فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتّعظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ».
وأعجب من هذا إطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال (وكفاك من شر سماعه) والله ناصر دينه ومطهّر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر.
وقد توسل الشيطان أخزاه الله تعالى بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ويثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة « وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا » إنّا لله وإنّا إليه راجعون اهـ.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتًا أَوْ نَهارًا) أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه إن أتاكم عذا به الذي تستعجلون به في وقت مبيتكم بالليل أو وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم أو بأمور معاشكم بالنهار.
(ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي أي نوع من العذاب يستعجل منه المجرمون الكذابون؟ أعذاب الدنيا أم عذاب يوم القيامة؟ وأيا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة.
(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أي أيستعجل مجرموكم بالعذاب الذين هم أحق بالخوف منه بدل الإيمان الذي يدفعه عنهم ثم إذا وقع بالفعل آمنتم به حين لا ينفع الإيمان، إذ هو قد صار ضروريا بالمشاهدة والعيان، لا تصديقا للرسول عليه السلام.
(آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي وقيل لكم على سبيل التوبيخ آلآن آمنتم به اضطرارا، وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا به واستكبارا.
(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا بحيث لا فناء له ولا زوال.
ثم بين أن هذا العذاب جزاء ما صنعوا في الدنيا فقال:
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟) أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون باختياركم من الكفر والظلم والفساد في الأرض والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه، وليس في هذا الجزاء شيء من الظلم، لأنه أثر لازم لما عملوا فلم يعودوا أهلا للكرامة وجوار المولى في جنة الخلد.
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟) أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة أحق إنه سيقع جزاء على ما كنا نكسبه من المعاصي في الدنيا، أم هو إرهاب وتخويف فحسب؟.
(قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إي بكسر الهمزة وسكون الياء كلمة يجاب بها عن كلام سبق بمعنى نعم، وأعجزه الأمر: فاته، أي نعم أقسم لكم بربي إنه لحق واقع ماله من دافع، وما أنتم بواجدى من يوقع العذاب بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم.
وخلاصة ذلك - إنه حين ينزل بكم عذابه لستم بفائتيه سبحانه بهرب أو امتناع بل أنتم في قبضته وسلطانه، إذا أراد فعل ذلك بكم فاتقوه في أنفسكم أن يحل بكم غضبه.
روى أحمد والشيخان عن أنس قال: « بينما نحن مع رسول الله ﷺ في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال: أيكم محمد؟ قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: أبن عبد المطلب؟ فقال النبي ﷺ قد أجبتك، فقال إني أسألك فمشدّد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، قال سل ما بدا لك، فقال أسألك بربك ورب من قبلك: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تصلى الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم قال أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم، قال آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بنى سعد بن بكر ».
وفي رواية أحمد أنه قال أيضا: « آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدونها معه؟ قال: اللهم نعم، وأنه كان أشعر داغديرتين وأن النبي ﷺ قال: إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة ».
وذكر أنه خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزّى، قالوا مه (أي كفّ عن هذا!) يا ضمام، اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله ما يضرّان ولا ينفعان، إن الله قد بعث إليكم رسولا وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
ثم ذكر ما في هذا اليوم من الأهوال فقال:
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أي ولو أن لكل نفس كفرت بالله - جميع ما في الأرض من أنواع الملك وصنوف النعم وأمكنها أن تجعله فداء لها من ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه - لافتدت به ولم تدّخر منه شيئا.
(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) إسرار الشيء: إخفاؤه وكتمانه، وإسرار الحديث: خفض الصوت به، والندم والندامة: ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره، وقد يجهر به بالكلام كما قال تعالى: « يا حَسْرَتَى عَلى ما فَرَّطْتُ » أو يخفيه ويكتمه حين لا يجد فائدة من إعلانه أو اتقاء للشّماتة أو الإهانة. أي وأسر أولئك الذين ظلموا غمّهم وأسفهم على ما فعلوا من الظلم حين معاينة العذاب بأبصارهم إذ برزت لهم نار جهنم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها، فما مثلهم إلا مثل من يقدّم للصلب يثقله ما نزله به من الخطب الجلل، ويغلب عليه الحزن الفادح فيخرسه، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا لا حراك به.
ثم بين أنه لا ظلم اليوم فقال:
(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالحق والعدل، وخصومهم هم الرسل والمؤمنون بهم، وكذلك من أضلّوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر ويصدّونهم عن الإيمان.
وجاء في معنى هذه الآية قوله في سورة سبأ « وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وقوله: « يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا » وقوله: « وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا ».
ثم أتبع ما تقدم بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده، وكون الظالمين لا يعجزونه ولا يستطيعون منه مهربا فقال:
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وكل من فيهما من العقلاء وغيرهم، فليس للكافرين به شيء يملكونه فيفتدون به أنفسهم من ذلك العذاب، بل الأشياء كلها لله الذي إليه عقابهم جزاء ما كسبت أيديهم.
والخلاصة - فليتذكر من نسى، وليتنبّه من غفل، وليعلم من جهل، أن لله وحده جميع ما في العوالم العلوية والعوالم الأرضية يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء، في يوم البعث والجزاء.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما وعد به على ألسنة رسله حق لا ريب فيه، لأنه وعد المالك القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة لغفلتهم عنها وقصور أنظارهم عن الوصول إلى ما يكون فيها.
ثم أقام الدليل على قدرته على ذلك فقال:
(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إنه تعالى هو المحيي المميت، لا يتعذر عليه فعل ما أراد من الإحياء والإماتة، ثم إليه ترجعون حين يحييكم بعد موتكم ويحشركم إليه للحساب والجزاء بأعمالكم.
[سورة يونس (10): الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
تفسير المفردات
العظة: الوصية بالحق والخير، واجتناب الباطل والشر، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرقّ لها القلب، فتبعث على الفعل أو الترك، والشفاء: الدواء، والهدى بيان الحق المنقذ من الضلال، ويكون في الاعتقاد بالحجة والبرهان، وفى العمل ببيان المصالح والحكم، والرحمة: الإحسان، وفضل الله: هو توفيقهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والهدى، ورحمته: هي الثمرة التي نتجت من ذلك، وبها فضلوا جميع الناس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على أسس الدين الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والبعث - قفى على ذلك بذكر التشريع العملي وهو القرآن الكريم، وقد أجمل مقاصد هذا التشريع في أمور أربعة:
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها الرسول: قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من المواعظ الحسنة التي تصلح أخلاقكم وأعمالكم، والشفاء للأمراض الباطنية والهداية الواضحة للصراط المستقيم الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، والرحمة الخاصة للمؤمنين من رب العالمين.
والخلاصة - إن الآية الكريمة أجملت إصلاح القرآن الكريم لأنفس البشر في أربعة أمور:
(1) الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب بذكر ما يرقّ له القلب فيبعثه على الفعل أو الترك. وقد جاء في معنى الآية قوله: « وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ » وقوله: « هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ».
(2) الشفاء لما في القلوب من أدواء الشرك والنفاق وسائر الأمراض التي يشعر من أحبّها بضيق الصدر كالشك في الإيمان والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير.
(3) الهدى إلى طريق الحق واليقين والبعد من الضلال في الاعتقاد والعمل.
(4) الرحمة للمؤمنين وهي ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم، ومن آثارها بذل المعروف وإغاثة الملهوف وكف الظلم ومنع التعدي والبغي.
وإجمال ذلك - إن موعظة القرآن وشفاءه لما في الصدور من أمراض الكفر والنفاق وجميع الرذائل وهداه إلى الحق والفضائل موجّهات إلى أمة الدعوة وهم جميع الناس، والمؤمنون قد اختصّوا بما تثمره هذه الصفات الثلاث من الرحمة لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يبلغ المؤمنين بأنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل الله عليهم بنعمة الإيمان وبالرحمة الخاصة بهم الجامعة لكل ما ذكر قبلها من مقاصد الشريعة فقال:
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي قل لهم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته أي إن كان شيء في الدنيا يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته.
روى ابن مردويه وأبو الشيخ عن أنس مرفوعا « فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله ».
وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد « فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن ».
(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي إن الفرح بهما أفضل وأنفع مما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا، لأنه هو سبب السعادة في الدارين. وتلك سبب السعادة في الدنيا الزائلة فحسب. فقد نال المسلمون في العصور الأولى بسببه الملك الواسع والمال الكثير مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسنّ لغيرهم من قبل ولا من بعد.
وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا ووجهوا همتهم إليه وتركوا هداية القرآن في إنفاقه والشكر عليه ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدي أعدائهم.
[سورة يونس (10): الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه وتعالى الأدلة العقلية على إثبات الوحي والرسالة - قفى على ذلك بذكر فعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون في وجوده وهو يثبت صحة وجودهما.
ذاك أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى وحده وأن الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الإباحة، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض إما بأمره تعالى بوساطة رسله وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال، وإما بالافتراء على الله وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول، إذ لا واسطة بينهما.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرامًا وَحَلالًا) أي قل لهؤلاء المشركين: أخبروني أيها الجاحدون للوحى والرسالة - أهذا الذي أفاضه الله عليكم من فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان، فجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الأنعام فقال « وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا »
إلخ وقوله في سورة المائدة: « ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ».
(قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) أي قل لهم إن حق التحريم والتحليل لا يكون إلا لله، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي من عنده؟ أم أنتم على الله تفترون بزعمكم أنه حرم ما حرمتم وحلّل ما حلّلتم.
والخلاصة - إنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد الأمرين، إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحريم والتحليل، وذلك اعتراف بالوحي، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال، وإما الافتراء على الله وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول.
وبعد أن سجل سبحانه وتعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على الله، قفى عليه بالوعيد مع الإيماء إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة فقال:
(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت؟ أيظنون أنهم يتركون بلا عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله وتعمده فيما هو خاص بربوبيته ونزاع له فيها وشرك به كما قال: « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ » وقال: « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ».
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي إن الله ذو فضل على الناس في كل ما خلقه لهم من الرزق، وكل ما شرع لهم من الدين، ومن ذلك أن جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة، وأن جعل حق التحريم والتحليل له وحده كيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده كمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وهو سبحانه لم يحرم عليهم إلا ما كان ضارّا بهم، وحصر محرمات الطعام في أمور معينة.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ذلك الفضل كما يجب كما قال تعالى: « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » ومن ثم تراهم يحرّمون ما لم يحرمه الله ويكفرون نعمه فيغالون في الزهد وترك الزينة والطيبات من الرزق، أو يسرقون في الأكل والشرب والزينة ابتغاء الشهرة والتكبر على الناس، مع أن الإسلام يأمر بالاعتدال كما قال تعالى: « لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ ».
أخرج أحمد عن أبي الأحوص عن أبيه قال: « أتيت رسول الله ﷺ وأنا رثّ الهيئة فقال: هل لك مال؟. قلت: نعم، قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال: إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته ».
وأخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا « إذا آتاك الله مالا فلير عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس ».
[سورة يونس (10): آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
تفسير المفردات
الشأن: الأمر العظيم، وجمعه شئون، تقول العرب: ما شأن فلان، أي ما حاله، وأفاض في الشيء أو من المكان: اندفع فيه بقوة أو بكثرة، وعزب الرجل بإبله يعزب أي بعد وغاب في طلب الكلأ، والذرة: النملة الصغيرة، وبها يضرب المثل في الصغر والخفة، وتطلق على الدقيقة من الغبار الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت، والكتاب: هو اللوح المحفوظ.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه في سابق الآيات أن فضله على عباده كثير، وأن الواجب عليهم أن يشكروه بدوام طاعته وترك معصيته، وأن القليل منهم هم الشاكرون - قفى على ذلك بتذكيرهم بإحاطة علمه بشئونهم وأعمالهم ما دق منها وما عظم في جميع ملكوت السموات والأرض حتى يحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في ذكره وشكره وعبادته.
الإيضاح
(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي وما تكون أيها الرسول الكريم في أمر من أمورك الهامة، خاصة كانت أو عامة مما تعالج بها شئون الأمة بدعوتها إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إنذارا لها وتبشيرا وتعليما وعملا.
(وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك تعبدا به أو تبليغا له.
وفي التعبير بالشأن وهو الأمر ذو البال دلالة على أن جميع أموره ﷺ كانت عظيمة حتى ما كان منها من مجرى العادات، لأنه ﷺ كان فيها قدوة صالحة.
وبعد أن خاطب رسوله ﷺ - انتقل إلى خطاب الأمة كلها في شئونها وأعمالها فقال:
(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي ولا تعملون أي عمل، خيرا كان أو شرا، شكرا كان أو كفرا، وإن كان كمثقال الذرة، إلا كنا رقباء عليكم إذ تخوضون فيه، فنحفظه عليكم ونجازيكم به.
(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي وما يبعد عن علمه ولا يخفى عليه أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة في الوجود السفلى والعلوي.
وفي التعبير بالإفاضة دليل على أن ما يفيض الإنسان مهتمّا به مندفعا فيه - جدير بألا يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه، وكذلك في التعبير بيعزب الدالّ على الخفاء والبعد دليل على أن ما شأنه أن يغيب ويبعد عنا من أعمالنا لا يغيب عن علمه تعالى، وقدم ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها.
ثم أكد سبحانه ما سبق وبيّن إحاطة علمه بكل شيء فقال:
(وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي ولا شيء أصغر من الذرة مما لا تبصرونه من دقائق الكون وخفاياه، ولا أكبر من ذلك وإن عظم مقداره كعرشه تعالى، إلا وهو معلوم له ومحصى عنده في كتاب عظيم الشأن وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام وبيانا لضبط جميع الأعمال.
وفي معنى الآية قوله: « فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ ».
وفي ذلك إشارة إلى أن في الوجود أشياء لا تدركها الأبصار. وقد أثبت العلم الحديث بوساطة الآلات التي تكبّر الأشياء أضعافا مضاعفة (المكروسكوبات) أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم (المكروبات) ولم تكن تخطر على البال في عصر التنزيل، وقد ظهرت للناس الآن فهي من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير.
[سورة يونس (10): الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
تفسير المفردات
الأولياء: جمع ولي من الولي: وهو القرب يقال تباعد بعد ولى: أي بعد قرب، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، والبشرى: هي الخبر السارّ الذي تنبسط به بشرة الوجه فتتهلل وتبرق أساريره.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاء أعمالهم وجزاءهم عليها، وذكّرهم بما يجب عليهم من شكره على تفضله عليهم - ذكر هنا حال الشاكرين المتقين الذين لهم حسن الجزاء يوم القيامة.
الإيضاح
(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن أولياء الله الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده والتوكل عليه ولا يتخذون له أندادا يحبونهم كحبه، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى - لا خوف عليهم - في الآخرة مما يخاف منه الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة كما قال تعالى « لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ » ولا هم يحزنون من لحوق مكروه أو ذهاب محبوب، ولا يعتريهم ذلك فيها، لأن مقصدهم نيل رضوان الله المستتبع للكرامة والزلفى، ولا ريب في حصول ذلك ولا خوف من فواته بموجب الوعد الإلهي.
وكذلك في الدنيا لا يخافون مما يخاف منه غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كما قال تعالى: « فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ».
(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) التقوى - هي اتقاء كل ما لا يرضى الله من ترك واجب وفعل محرم، واتقاء مخالفة سنن الله تعالى في خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة، أي أولياء الله الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه، وملكة التقوي له عز وجل وما تقتضيه من عمل.
(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي لهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر وحسن العاقبة في كل أمر - وباستخلافهم في الأرض ما أقاموا شرع الله وسننه ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وبإلهام الحق والخير كما ورد من حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي « إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله تعالى، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان » وفي الآخرة بما أشارت إليه الآية الكريمة: « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ».
(لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) أي لا تغيير ولا خلف في مواعيده تعالى، ومن جملتها بشارة المؤمنين المتقين بجنات النعيم والخير العميم.
(ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز الذي ليس بعده فوز، لأنه ثمرة الإيمان الحق والتقوى في حقوق الله وحقوق الخلق.
[سورة يونس (10): الآيات 65 الى 67]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
تفسير المفردات
العزة: الغلبة والقوة، والخرص: الحزر والتقدير للشىء الذي لا يجرى على قياس من وزن أو كيل أو زرع كحرص الثمر على الشجر والحب في الزرع، ويستعمل بمعنى الكذب أيضا لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين، والمبصر: ذو الإبصار، تقول العرب: أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه لرسوله ﷺ صفة أوليائه وما بشرهم به ووعدهم في الدنيا والآخرة، وفى هذا إيماء إلى الوعد بنصره ونصر من آمن به من أوليائه وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم، وكان أعداؤهم يغترون بقوتهم في مكة بكثرتهم، وكانوا لغرورهم بها يكذبون بوعد الله، وكان ذلك مما يحزنه كما قال: « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ».
قفّى على ذلك بتسليته له ﷺ على ما يلقاه من أذى أعدائه، وتبشيره بالنصر والعزة والوعيد لأعدائه.
الإيضاح
(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تحزن لقولهم ولا تبال بما يتفوّهون به في شأنك مما لا خير فيه.
(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي لأن الغلبة والقهر لله تعالى لا يملك أحد من دونه شيئا منها، فهو يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء وليست للكثرة دائما كما يدعون « كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ » وقد وعد الله بها رسله والذين آمنوا بهم واتبعوهم من أوليائه كما قال: « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقال: « وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ».
(هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هو السميع لما يقولون من تكذيب بالحق وادعاء للشرك فيكافئهم على ذلك، وهو العليم بما يفعلون من إيذاء وكيد، فهو مذلّهم ومحبط أعمالهم.
ثم أقام الدليل على كون العزة لله جميعا وكون الجزاء بيده فقال:
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ألا إن لله كل من في السموات والأرض عبيدا مملوكين له، لا مالك لشيء من ذلك سواه، فكيف يكون إلها معبودا ما يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، والعبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب.
ثم بين أنه لا شريك له أبدا.
(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) أي إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى بدعائهم في الشدائد واستغاثتهم في النوازل والتقرب إليهم بالقرابين والنذور - لا يتبعون شركاء له في الحقيقة يدبرون أمور العباد ويكشفون الضر عنهم، إذ لا شريك له.
ثم أكد ما سلف وزاده بيانا فقال:
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما يتبعون في الحقيقة فيما يقولون إلا الظن في دعواهم أنهم أولياء لله وشفعاء عنده، فهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين المتكبرين الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجّابه ووزرائه ووسائطه.
ثم زاد ذلك توكيدا بقوله:
(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا إلا متخرصون قائلون بغير علم بما يقولون.
والخلاصة - إنهم إنما اتبعوا ظنونهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة، فقاسوا الرب في تدبير أمور عباده على الملوك، وجهلوا أن أفعاله تعالى إنما تجرى بمقتضى مشيئته الأزلية وفق علمه الذاتي وحكمته البالغة العادلة، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له: « أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا » أي إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليه بهم كالمسيح والملائكة ومن دونهم - يتوسلون إليه راجين خائفين لا كأعوان الملوك الذين لا ينتظم أمر ملكهم بدونهم.
ثم أقام البرهان على مضمون ما قبله من نفى الشركاء له في الخلق والتقدير، والشفعاء عنده حين التصرف والتدبير فقال:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا) أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع، فجعل الليل مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول التعب والنصب والحركة للمعاش، وجعل النهار مضيئا ذا إبصار لتنتشروا في الأرض وتقوموا بجيمع أعمال العمران والكسب والشكر للرب. وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ».
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن في اختلاف الليل والنهار وحال أهلهما فيهما لدلائل وآيات على أن المعبود بحق هو الذي خلق الليل والنهار وخالف بينهما - لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمته تعالى ووجه النعمة في ذلك، سماع تدبر وعظة لما يسمع.
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ».
[سورة يونس (10): الآيات 68 الى 70]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
تفسير المفردات
الولد: يستعمل مفردا وجمعا، وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما، وسبحان كلمة تنزيه وتقديس، وتستعمل للتعجب، والسلطان: الحجة والبرهان.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه وتعالى أن من المشركين من اتخذوا الأوثان والأصنام شفعاء عنده - قفى على ذلك بذكر ضرب آخر من أباطيلهم، وهو زعمهم أنه تعالى جدّه اتخذ ولدا، وتلك مقالة اشترك فيها المشركون واليهود والنصارى على السواء.
الإيضاح
(قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) أي وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله.
(سُبْحانَهُ) أي تنزه ربنا عما لا يليق بربوبيته وألوهيته، ويمكن أن يكون المعنى - عجيب أن تصدر منهم تلك الكلمة الحمقاء.
ثم أكد هذا التنزيه بقوله:
(هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن الله غني عن خلقه جميعا، فإن كل ما في الوجود من العالم العلوي والسفلى ملك له ولا حاجة له إلى شيء منه وجميعه في حاجة إليه، ولا يجانسه شيء منه، فالإنسان يحتاج إلى الولد إما للنصرة والمعونة وإما للاعتزاز به لدى الأهل والعشيرة، وإما لأنه زينة يلهو به في صغره ويفخر به في كبره، وإما للحاجة إليه في قضاء مصالحه أو لانتظار رفده وبره حين عجزه أو فقره، وإما لبقاء ذكره بعد موته، والله غني عن كل ذلك، ولا حاجة له إلى شيء من هذه المنافع فهو مستغن أزلا وأبدا.
(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ليس عندكم من الدلائل والبراهين ما يؤيد صحة هذا القول الذي تقولونه بلا علم ولا وحي إلهي.
ثم أكد ما سلف بقوله: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز إضافته إليه، ولا سيما بعد مجىء ما ينقضه من الأدلة العقلية والوحي الإلهي.
وفي الآية إيماء إلى أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي قل لهم إن الذين يفترون على الله الكذب بنسبة الشركاء إليه، أو باتخاذه ولدا لنفسه أو بدعوى أن الأولياء يطلعون على أسرار خلقه ويتصرفون في ملكه، لا يفوزون بالتمتع بالنعيم بشفاعة الولد أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى، ولا ينجون من عذاب الآخرة.
(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي هؤلاء لهم متاع في الدنيا حقير يتلهّون به في حياة قصيرة هي الحياة الدنيا، إذ مهما يبلغ هذا المتاع من العظمة ككثرة مال أو عظم جاه فهو قليل بالنسبة إلى ما عند الله في الآخرة للصادقين المتقين - ثم يرجعون إلى ربهم بالبعث بعد الموت وما فيه من أهوال الحشر والحساب، فيذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بآياته وبالافتراء عليه وتكذيب رسله بعد أن قامت عليهم الحجة.
وفي الآية إيماء إلى أن ما يظن أنه فلاح بالحصول على منافع الدنيا المادية والمعنوية فهو لا يعتد به بالنسبة إلى ما عند الله من حظ عظيم، ونعيم مقيم.
[سورة يونس (10): الآيات 71 الى 73]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
تفسير المفردات
النبأ: الخبر له خطر وشأن، والمقام: الإقامة والمكث، والإجماع العزيمة على الأمر عزما لا تردد فيه كما قال شاعرهم:
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
والغمة: الستر واللبس، يقال إنه لفى غمة من أمره: إذا لم يهتد له، وقضاء الأمر: أداؤه وتنفيذه، قال تعالى « فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ». والإنظار: التأخير والإمهال، خلائف، أي يخلفون الذين هلكوا بالغرق، المنذرون: المخوّفون بالله وعذابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه عناد المشركين لرسوله ﷺ وتكذيبهم له بعد أن قامت البراهين على صدقه - قفى على ذلك بذكر أقوام الرسل قبله تسلية له ﷺ وبيانا بأن قومه لم يكونوا بدعا في عنادهم وتكذيبهم له بل سبقهم في مثل فعلهم كثير من سالفى الأمم وكانت العاقبة فوز الرسل عليهم، وأتم الله لهم النصر، فلعل أولئك القوم يتدبرون حالهم فينزجروا بما فيه مزدجر لهم ويعترفوا بصدقه ﷺ ويؤمنوا به قبل أن تفوت الفرصة السانحة فيندمون، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) أي واقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم فيما أوعدتهم به من عقاب الله لهم على مقتضى سننه في المكذبين لرسله من قبلك - خبر نوح حين قال لقومه يا قوم إن كان قد شق عليكم قيامى فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم وتذكيرى إياكم بآياته الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته - فإننى وقد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلنى واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتي.
(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي فأعدّوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه في أمري مع شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله كما أدعو ربي وأتوكل عليه.
(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ثم لا يكن أمركم الذي تعتزمونه خفيّا عليكم فيه حيرة ولبس، بل كونوا على بصيرة كيلا تتحولوا عنه.
(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي ثم أدوا إلي ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه، وبعد استبانته التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل بعد استيفاء مقدماته كلها، ولا تمهلونى بتأخير هذا القضاء.
والخلاصة - إن نوحا طلب إلى قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به، مطالبة المدلّ ببأسه وقوته، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة وقوة الإرادة، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم، وألا يكون في أمرهم الذي أجمعوا عليه شيء من الغمة والخفاء الذي قد يوجب الوهن والتردد في التنفيذ.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي فإن أعرضتم عن تذكيرى بعد دعائى إياكم وتبليغ رسالة ربى إليكم فلن يضرنى، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرا ولا جزاءا، وما جزاء عملي وثوابى إلا على ربى الذي أرسلني إليكم، فهو يوفينى إياه، آمنتم أو توليتم، وأمرت أن أكون من المنقادين بالفعل لما أدعوكم إليه.
(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فأصروا على تكذيبه بعد أن أقام عليهم الحجة بقوله وعمله على حقيقة دعوته، فنجيناه هو ومن آمن معه في السفينة التي كان يصنعها بأمرنا.
(وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوه بعد أن أنذرناهم فأغرقناهم وحقت عليهم كلمة ربك.
فانظر أيها الرسول بعين بصيرتك وعقلك كيف كانت عاقبة الذين أنذرهم رسولهم وقوع عذاب الله بهم وأصروا على تكذيبه، وهكذا تكون عاقبة من يصرّون على تكذيبك من قومك، وعاقبة المؤمنين المتقين لك.
[سورة يونس (10): آية 74]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
تفسير المفردات
الطبع على القلوب: هو عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها، والمعتدى: المتجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه قصص نوح مع قومه وبيّن عاقبة أمرهم حين كذبوه ونصر الله له عليهم، بيّن هنا عبرة أخرى من عبر مكذبى الرسل وسنة من سننه فيهم، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا أن لله سننا لا تبديل فيها ولا تحويل فيتقوا مثل تلك العاقبة التي حلّت بمن قبلهم من المكذبين من قوم نوح وغيرهم، واتقاؤه في مكنتهم وهو بأيديهم يمكنهم أن يجتنبوه ويبتعدوا عن أسبابه كالكفر والاعتداء والظلم ونحوها.
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه في تكذيب رسلهم فقد أرسل هود إلى عاد، وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا في زمانه إلا شعيبا فإنه أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة فقد كانوا متحدين معهم لغة ووطنا، فجاء كل رسول منهم قومه بالحجج الدالة على صدقه في رسالته بحسب ما يتسنى لهم فهمه من الأدلة العقلية والحسية.
(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي فما استقام لقوم من أولئك الأقوام أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله في سبب كفره وهو استكبار الرؤساء وتقليد الدهماء.
(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي مثل هذا الطبع وعلى ذلك النهج نطبع على قلوب المعتدين أمثالهم في كل قوم كقومك إذ كانوا مثلهم في اللجاج والعتوّ والاستكبار في الأرض « وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ».
[سورة يونس (10): الآيات 75 الى 78]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
تفسير المفردات
الملأ: أشراف القوم الذين يجتمعون على رأى، ولفته عن كذا: صرفه.
المعنى الجملي
أفردت قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه وفصلت تفصيلا وافيا لما لها من شديد الخطر وعظيم الأثر، إذ فيها من العبرة أن قوة الحق تثلّ العروش وتهدّ أركان الباطل وإن علا أصحابه، فقد كان الفلج والظفر لموسى على ذلك الطاغية الذي قال أنا ربكم الأعلى، وانتهى أمره بالغرق وصار مثلا للآخرين.
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل صلوات الله عليهم موسى وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه وخصهم بالذكر لأن قومهم القبط كانوا تبعا لهم يكفرون بكفرهم ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا ويرجعون إليهم في إقامة المصالح والمهمات، مؤيدين له بآياتنا التسع المبينة في سورة الأعراف، فأعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاءا به هو الحق لما كانوا عليه من العلم بصناعة السحر ولكنهم كانوا راسخين في الإجرام والظلم والفساد في الأرض كما قال تعالى « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ».
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءهم موسى بالحجج والبينات الدالة على الربوبية والألوهية قالوا من فرط عتوّهم وعنادهم: إن هذا لسحر واضح لمن رآه وعاينه.
(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي قال لهم موسى على وجه الإنكار والتوبيخ: أتقولون للحق الواضح الظاهر وهو أبعد الأشياء عن السحر الذي هو باطل حين جاءكم دون أن تتروّوا وتتدبروا فيه: إنه سحر وما ترونه بأعينكم من آيات الله وترجف له قلوبكم من عظمته لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تعرفونه وتصنعونه بأيديكم، وقد مضت سنة الله بأن السحرة لا يفوزون في الأمور الهامة كالدعوة لدين، والتأسيس لملك، وذلك ما تتهموننى به على ضعفى وقوتكم، فإن السحر شعوذة لا تلبث أن تفتضح وتزول.
وبعد أن أفحمهم بحجته ولم يجدوا ردّا مقنعا اضطروا إلى التشبث بذيل التقليد للآباء والأجداد، وتلك حجة العاجز المضعوف في رأيه، ذي الخطل في تصرفه، فلم يكن منهم إلا تلك المقالة.
(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا له منكرين: ما جئتنا إلا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ديننا، لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها في أرض مصر كلها، وما نحن بمتّبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذي تدين به عامتنا، وتتمتع بكبريائه خاصتنا، وهم الملك وأشراف قومه.
والخلاصة - إنه لا غرض لك من تلك الدعوة إلا هذا وإن لم تعترف به وقد وجهوا الخطاب أوّلا لموسى لأنه هو الداعي لهم، وأشركوا معه أخاه في فائدة الدعوى والغرض منها وهي الكبرياء في الأرض لأنهما سيشتركان فيها.
[سورة يونس (10): الآيات 79 الى 82]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
المعنى الجملي
كانت الآيات الماضية في ذكر الحوار بين موسى وفرعون - وهنا ذكر ما فعل فرعون في مقاومة دعوة موسى لصدّ الناس عن اتباعه باعتبار أنه ساحر، فأحضر السحرة ليقاوموا عمله، ويتغلبوا عليه فيبطلوا حجته.
الإيضاح
(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي قال لملئه بعد أن يئس من إلزامه بالقول: اعملوا على دفع حجته بالفعل، فأتونى بكل ساحر عليم بفنون السحر، حاذق ماهر فيها.
(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي فأتوا بهم فلما جاءوا قال لهم موسى هذه المقالة بعد أن خيّروه بين أن يلقى ما عنده أوّلا أو يلقوا ما عندهم كما جاء ذلك في سورتى الأعراف وطه - ليظهر الحق ويبطل الباطل.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي فلما ألقوا حبالهم وعصيّهم السحرية قال لهم موسى غير مكترث بهم ولا بما صنعوا: إن هذا الذي فعلتم وألقيتموه أمام النظّارة هو السحر، لا ما جئت به من الآيات البينات من عند الله وقد سماه فرعون وملؤه سحرا.
(إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) أي إن الله سيظهر بطلانه بما يظهره على يدي من المعجزة حتى يظهر للناس أنه صناعة لا آية خارقة للعادة، وحجة واضحة على بطلان حجتي.
ثم علل ما قال ببيان سنن الله في تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي إن الله لا يجعل عمل المفسدين صالحا للبقاء، فيقوّيه بالتأييد الإلهي ويديمه، بل يزيله ويمحقه، ويثبت الحق الذي فيه صلاح الخلق وينصره على ما يعارضه ما يعارضه من الباطل بكلماته التكوينية، وهي مقتضى إرادته التشريعية التي يوحيها إلى رسله، ومن ثم سينصر موسى على فرعون وينقذ قومه من عبوديته.
(وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي ولو كره كل من اتصف بالإجرام كفرعون وملئه.
[سورة يونس (10): الآيات 83 الى 87]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
تفسير المفردات
الذرية في اللغة: صغار الأولاد، وتستعمل في الصغار والكبار عرفا، والفتون: الابتلاء والاختبار الشديد للحمل على الفعل أو الترك، والمراد هنا الاضطهاد والتعذيب، والعلو: القهر والاستبداد، ومسلمين: أي مذعنين مستسلمين، وتبوأ الدار: اتخذها مباءة ومسكنا يبوء ويرجع إليها كلما فارقها لحاجة، والقبلة: ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه، ومنه قبلة الصلاة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما فعله فرعون لمقاومة دعوة سيدنا موسى - قفى على ذلك بذكر ما كان من بني إسرائيل مع موسى توطئة لإخراجهم من أرض مصر.
الإيضاح
(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى بعد خيبة السحرة وظهور حقّه على باطلهم ثم عزمه على قتله، كما جاء في قوله: « وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ».
كل هذا أوقع الرعب والخوف في قلوب بني إسرائيل قوم موسى فما آمن له إلا ذرية من قومه، وهم الأحداث والشبان وكانوا خائفين من فرعون وأشراف قومهم الجبناء المرائين الذين هم عرفاؤهم عند فرعون فيما يطلب منهم - أن يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدّوا عن دينهم.
(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي وإن فرعون لشديد العتوّ قوى القهر في أرض مصر فهو جدير بأن يخاف منه كما حكى الله عنه بقوله: « وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ » كما أنه من المسرفين المتجاوزين الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء وغمص الحق واحتقار الخلق، ومن ثم ادعى الربوبية واسترقّ أسباط الأنبياء.
(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد: إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان فعليه توكلوا، وبوعده فثقوا إن كنتم مستسلمين مذعنين، إذ لا يكون الإيمان يقينا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام، وليس في الآية دلالة على إيمان جميع قومه، إذ الإيمان بالله غير الإيمان لموسى المتضمن معنى الإسلام والاتباع الذي أشير إليه بقوله: « إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ » فهم قد طلبوا منه بعد ما نجاهم من الغرق أن يجعل لهم آلهة من الأصنام ثم اتخذوا العجل المصنوع وعبدوه.
(فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فقالوا على الفور ممتثلين أمره حين علموا أن إنجاز الوعد موقوف على ذلك: على الله توكلنا، ودعوا بأن يحفظهم ربهم من فتنة القوم الظالمين.
ذاك أن التوكل على الله وهو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد، والدعاء لا يستجاب إلا إذا كان مقرونا باتخاذ الأسباب بأن تعمل ما تسطيع عمله، وتطلب إلى الله أن يسخّر لك ما لا تستطيع.
وخلاصة ما قالوا - ربنا لا تسلّطهم علينا فيفتنونا، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا أو نضعف فيه فرارا من شدة ظلمهم لنا، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرا وعنادا وظلما بظهورهم علينا ويظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل.
وقد دلت التجارب على أن سوء حال المؤمنين من ضعف أو فقر تجعلهم موضعا لافتتان الكفار بهم، باعتقاد أنهم خير منهم كما جاء في قوله: « وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ »؟.
(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي وبحنا برحمتك فخلّصنا من أيدي القوم الكافرين قوم فرعون، لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في المهن الحقيرة، ومثل هذا قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم والدين آمنوا معه: « رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ».
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا) أي وقلنا لهما: اتخذا لقومكما بيوتا في مصر تكون مساكن وملاجىء تعتصمون بها.
(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي واجعلوا بيوتكم متقابلة في وجهة واحدة.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها متجهين إلى جهة واحدة، لأن الاتحاد في الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم.
وإنما خص موسى بالتبشير لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة، وأشرك معه هرون في أمر قومهما بالتبوؤ لأنه مما يتولاه الرؤساء بتشاور بينهم، فهو تدبير عملي يقوم به هو ووزيره المساعد على تنفيذه.
[سورة يونس (10): الآيات 88 الى 89]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
تفسير المفردات
الزينة: الحلل والحلي والأثاث والرياش والماعون، والأموال: ما وراء ذلك من الذهب والفضة والأنعام والزروع ونحو ذلك، والطّمس: الإزالة، يقال طمس الأثر وطمسته الريح: إذا زال، والشد على القلب: الطبع عليه وقسوته حتى لا ينشرح للإيمان.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه جبروت فرعون وملئه وخوف بني إسرائيل من بطشهم وأنهم امتنعوا لأجل ذلك عن الإيمان، إلا قليلا من شبانهم استجابوا لدعوة موسى بعد حثّ لهم وتحريض على الإيمان وطلب موسى من بني إسرائيل أن يتخذوا بيوتا لهم بمصر يقيمون فيها مراسم دينهم، ثم بشّرهم بالفوز والغلبة والنصر - قفّى على ذلك بدعوة موسى على فرعون وقومه مع ذكر السبب الذي دعاه إلى ذلك، وهو الجحود والعناد لدعوته، لما أوتوه من بسطة النعمة التي أبطرتهم، فتركوا الدين وراءهم ظهريا.
الإيضاح
(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال موسى بعد أن أعدّ قومه بني إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي، وغرس في قلوبهم الإيمان وحب العزة والكرامة ونحو ذلك، وتوجه إلى الله أن يتم أمره: ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءه زينة من حلي وحلل وآنية وماعون وأثاث ورياش وأموالا كثيرة من صامت وناطق أي من ذهب وفضة وزروع وأنعام يتمتعون بها وينفقون منها في حظوظهم وشهواتهم.
(رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي لتكون عاقبة ذلك إضلال عبادك عن السبيل الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل وصالح العمل.
وقد جرت سنة الله بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان وتخضع رقاب الناس لأربابها كما قال تعالى: « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ».
وقد أثبت البحث والتنقيب في نواويس قبور المصريين التي كشفت حديثا، وفيما حفظ في دور الآثار المصرية وغيرها من العواصم الأوربية، ما يشهد بكثرة تلك الأموال ووجود أنواع من الزينة والحلي لم تكن لتخطر على البال، ويدل على أرقى أنواع المدنية والحضارة التي لا تضارعها مدنية العصر الحاضر مع ما بلغه العلم والرقى العقلي في الإنسان.
(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب زروعهم والجوائح التي تهلك أنعامهم وتنقص مكاسبهم فيذوقوا ذل الحاجة، واطبع على قلوبهم وزدها قسوة على قسوتها وإصرارا وعنادا، فيستحقوا شديد عقابك، ولا يؤمنوا إلا إذا رأوا عذابك، ولا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك.
وسبب غضبة موسى أنه عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم المواعظ والنصائح ردحا من الزمن، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعتوا واستكبارا في الأرض، ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال، وأن إيمانهم كالمحال - فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، إذ لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، ويسيرون قدما في طريق الغي والهلاك.
وخلاصة ذلك - كأنه قيل فليثبتوا على ضلالهم وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا، وما علي منهم، هم أهل لذلك وأحق به، وما مثله إلا مثل قول الأب المشفق على ولده الذي انحرف عن جادّة الاستقامة ولم يقبل منه نصيحة: فلتمض في غوايتك ولتعث في الأرض فسادا، وهو لا يريد غوايته بل حردا وغضبا عليه.
وقد روى أن موسى دعا بهذا الدعاء وهرون عليه السلام كان يؤمّن على دعاء أخيه، ومن ثم قال تعالى:
(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي قال لهما عز اسمه قد قبلت دعوتكما في فرعون وملئه وأموالهم، فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الحق، ومن إعداد شعبكما للكفاح والجلاد والخروج من مصر، ولا تسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنتى في خلقى، فيستعجلا الأمر قبل ميقاته، ويستبطئا وقوعه في حينه.
وفي سفر الخروج من التوراة ما بدل على استجابة دعاء موسى، فقد كانت تنزل النوازل على مصر وأهلها، فيلجأ فرعون إلى موسى حين كل نازلة منها ليدعوا ربه فيكشفها عنهم فيؤمنوا به، حتى إذا كشفها قسّى الرب قلب فرعون فأصر على كفره، وما قاله المفسرون في تفسير الطمس على الأموال فهو من ترّهات الأباطيل الإسرائيلية التي روّجها كعب الأحبار وأمثاله ممن كان مقصدهم صدّ اليهود عن الإسلام بما يرونه في تفسيره مخالفا لما هو متفق عليه عندهم وعند غيرهم من المؤرخين في وقائع عملية وأمور حسية.
[سورة يونس (10): الآيات 90 الى 92]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
تفسير المفردات
يقال: جاز المكان وجاوزه وتجاوزه: إذا قطعه حتى خلفه وراءه، ويقال تبعته حتى أتبعته إذا كان قد سبقك فلحقته، المسلمين: أي المنقادين لأمره، وننجيك: نجعلك على نجوة من الأرض، والنجوة: المكان المرتفع من الأرض، والآية: العبرة والعظة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما دار من الحوار بين موسى وفرعون، وذكر ما أتى به موسى من الحجج والبينات الدالة على صدقه وغلبه لسحرة فرعون ولم يزده ذلك إلا كبرا وعتوّا، فدعا عليه بالطمس على الأموال والشد على القلوب، وذكر استجابة الله دعوته - قفّى على ذلك بذكر خاتمة القصة وهو ما كان من تأييد الله لموسى وأخيه على ضعفهما وقوة فرعون وقومه، إذ كانت دولته أقوى دول العالم في عصره.
الإيضاح
(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي جاوز بنو إسرائيل البحر بمعونته تعالى وقدرته وحفظه وكان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم، فلحقهم فرعون وجنوده ظالمين عادين عليهم، ليفتكوا بهم أو يعيدوهم إلى مصر ليسوموهم سوء العذاب ويجعلوهم عبيدا لهم، وخاض البحر وراءهم حتى إذا أشرف على الغرق قال آمنت أنه لا إله بحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى، وأنا ممن أذعنوا لأمره بعد ما كان مني من جحود بآياته وعناد لرسوله.
وكرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا منه على القبول المفضى إلى النجاة، ولكن هيهات فقد فات الوقت وجاء الإيمان حين اليأس وهو لا يجدى فتيلا ولا قطميرا - وهذا ما بينه سبحانه بقوله موبخا له.
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقيل له أتسلم الآن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات؟ وقد عصيت قبل ذلك وكنت من المفسدين في الأرض الظالمين للعباد، فدعواك الإسلام الآن لا تقبل، فقد صار إسلامك اضطرارا لا اختيارا.
وخلاصة المعنى - آلآن تقرّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض الصادّين عن سبيله، فهلا أقررت بما أقررت به الآن وباب التوبة لك منفتح.
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ينظر إليك من كذّب بهلاكك، لتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله والكفر به والسعي في الأرض بالفساد.
ووجه العبرة في ذلك - أنه يكون شاهدا على صدق وعد الله لرسله، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات لإقامة حجج الله عليهم قبل غيرهم.
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي وإن كثيرا من الناس لفى غفلة عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة له وحده خالصة، فهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها.
وفي ذلك إيماء إلى ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها للعظة والاعتبار.
ووا أسفا قد صار من نزل فيهم القرآن من بينهم بل في مقدمتهم وهو حجة عليهم وهو منهم براء.
[سورة يونس (10): آية 93]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
تفسير المفردات
مبوأ صدق: أي منزلا صالحا مرضيا. وأصل الصدق ضد الكذب، ولكن جرت عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا مكان صدق إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المقصود منه، كأنهم أرادوا أن كل ما يظهر فيه من الخير فهو صادق، والعلم هنا علم الدين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه خاتمة فرعون وجنوده - قفى على ذلك بذكر عاقبة بني إسرائيل، وفى هذا عبرة لمكذبى محمد ﷺ والجاحدين من قومه المفترين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم - فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوفر ثروة، وقد جعل الله سننه في المكذبين واحدة، ففكّروا أيها المكذبون في عاقبة أمركم وتدبروا مليّا خوف أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وهاهو ذا أهلك أكثر زعمائهم وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين وأعطاهم أعظم ملك في العالمين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي ولقد أسكناهم منزلا مرضيا وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية وهي بلاد فلسطين، وهو بمعنى قوله « وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ».
(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقناهم من اللذائذ فيها، وقد جاء وصفها في كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا، وفيها كثير من الغلات والثمرات والأنعام وصيد البر والبحر.
(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فما اختلف بنو إسرائيل إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها، ذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد ﷺ مجمعين على نبوته والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعض وآمن آخرون.
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا النوع من الاختلاف لا سبيل لإزالته في دار الدنيا، بل سيقضى الله بينهم في الآخرة، فيميّز المحقين من المبطلين، ويدخل الأولين الجنة والآخرين النار وبئس القرار.
[سورة يونس (10): الآيات 94 الى 97]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه قصص الأنبياء السالفين وما لا قوه من أقوامهم من العناد والجحود والاستكبار والعتو، وفى كل حال كان النصر حليف المؤمنين والخذلان نصيب الظالمين - قفّى على ذلك بذكر صدقه فيما قال ووعد وأوعد، وكون ذلك سنة الله في المكذبين قبل، وسيكون ذلك فيهم من بعد وليس في هذا سبيل للافتراء والشك وقد ساق ذلك بطريق التلطف في الأسلوب، فوجه الكلام إلى الرسول ﷺ والمراد قومه فجاء على نحو قولهم: إياك أعنى واسمعي يا جارة، وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ » وقوله: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ».
الإيضاح
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) المراد بالكتاب جنسه أي الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، أي فإن كنت أيها الرسول في شك مما قلناه في تلك الشواهد من قصة هود ونوح وموسى وغيرهم فرضا وتقديرا، فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى، فإنهم يعلمون أن ما أنزلناه إليك حق لا يستطيعون إنكاره.
وقد جرت عادة العرب أن يقدّروا الشك في الشيء ليبنوا عليه ما ينفى احتمال وقوعه فيقول أحدهم لابنه: إن كنت ابني فكن شجاعا، وجاء من هذا قول المسيح عليه السلام مجيبا ربه تعالى عن سؤاله إياه « أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ » فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقله ولكنه يفرضه ليستدل على ذلك بأنه لو قاله لعلمه الله منه، ويجرى العلماء في محاوراتهم بينهم وبين نظرائهم أو بينهم وبين تلاميذهم على هذا النمط، فيشككونهم فيما لا شك فيه عندهم، ليبنوا على ذلك أحكاما أخرى فيقولون: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة إلى متساويين أي إن كون الخمسة زوجا يستلزم ذلك، وهذا لا يدل على أن الخمسة زوج وهكذا ما في الآية فهو يدل على أنه لو حصل الشك لكان الواجب هو فعل كذا وكذا، وليس فيها دليل على وقوعه.
(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الامتراء: الشك والتردد، أي لقد جاءك الحق الواضح بأنك رسول الله، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ويجدون نعتك في كتبهم، فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك.
وهذا النهى وما بعده يدلان على أن فرض الشك والسؤال فيما قبلهما تعريض بالشاكين والمكذبين له من قومه ممن لم تستنر بصيرتهم بنبوته ﷺ فأظهروا الإيمان بألسنتهم ولم يثبت في قلوبهم فهم في شك فيه.
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولا تكونن أيها الرسول ممن كذب بآيات الله وحججه في الأكوان مما يدل على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر فتكونن ممن خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فالشك والامتراء فيما أنزل إليك كالتكذيب بآيات الله جحودا بها وعنادا، كلاهما سواء في الخسران، لحرمان الجميع من الهداية بها، والوصول إلى السعادة في الدارين.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة ربك بعذابهم بحسب سننه تعالى في خلقه بفقدهم الاستعداد للاهتداء لا يؤمنون لرسوخهم في الكفر والطغيان، وإحاطة خطاياهم بهم، وإعراضهم عن آيات الله التي خلقها في الأكوان، بما يرشد إلى وحدانيته وكمال قدرته.
(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ولو جاءتهم كل آية من الآيات الكونية كآيات موسى عليه السلام التي اقترحوا مثلها عليك، والآيات المنزلة عليك كآيات القرآن العقلية الدالة بإعجازها على أنها من عند الله وعلى حقّية ما تدعوهم إليه وتنذرهم به، حتى يروا العذاب الأليم بأعينهم ويذوقوه حين ينزل بهم، فيكون إيمانهم اضطرارا لا اختيارا منهم، فلا يترتب عليه عمل منهم يطهرهم ويزكيهم ويقال لهم إذ ذاك « آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ».
[سورة يونس (10): الآيات 98 الى 100]
فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
تفسير المفردات
لولا: كلمة تفيد التحضيض والتوبيخ كهلا، والمراد بالقرية أهلها وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى، والخزي: الذل والهوان، والحين: مدة من الزمن والمراد بها العمر الطبيعي الذي يعيشه كل شخص، والإذن بالشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه والرجس: لغة الشيء القبيح المستقذر، والمراد به هنا العذاب.
المعنى الجملي
هذه الآيات الثلاث تكملة لما قبلها، وبيان لسنن الله تعالى في الأمم مع رسلهم، وفى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وفى تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها وفقهما، فبعد أن بين أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم - أتبعه بذكر هذه الآيات للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان.
الإيضاح
(فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، فنفعهم إيمانهم قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به.
وخلاصة ذلك - إنه لم يؤمن قوم منهم بحيث لم يشذ منهم أحد.
(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) يونس عليه السلام بعث في أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا أهل كفر وشرك، فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه، فأخبرهم أن العذاب مصبّحهم بعد ثلاث ليال - فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من حوف الليل، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب، فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى ربهم وأخلصوا النية فرحمهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب.
والخلاصة - إن قوم يونس لما آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم - صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا بعد ما أظلّهم وكاد ينزل بهم، ومتعناهم بمتاعها إلى زمن معلوم وهو الوقت الذي يعيش فيه كل منهم بحسب سنن الله في استعداد بنيته ومعيشته.
وفي ذلك تعريض بأهل مكة وإنذار لهم، وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا العذاب بعنادهم، حتى إذا أنذرهم نبيهم بقرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس وقبل أن ينزل بهم البأس.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أي ولو شاء ربك أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا بأن يلجئهم إلى الإيمان قسرا، أو يخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان.
وجاء في معنى الآية قوله « وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا » وقوله « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ».
وخلاصة ذلك - أنه لو شاء ربك ألا يخلق الإنسان مستعدا بفطرته للخير والشر والإيمان والكفر، ومرجحا باختياره لأحد الأمور الممكنة على ما يقابله بإرادته ومشيئته - لفعل ذلك، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا يوازن باختياره بين الإيمان والكفر، فيؤمن بعض ويكفر آخرون.
(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن هذا ليس بمستطاع لك ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل الكرام كما قال تعالى « إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ » وقال « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ » وقال « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ».
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أيوما كان لنفس بمقتضى ما أعطاها الله من الاختيار والاستقلال في الأفعال، أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سننه في الترجيح بين المتقابلين، فالنفس مختارة في دائرة الأسباب والمسببات، ولكنها غير مستقلة في اختيارها استقلالا تاما - بل مقيدة بنظام السنن والأقدار الإلهية.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي وإذا كان كل شيء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجرى بقدره فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته ويوازنون بين الأمور، فيختارون خير الأعمال ويتقون شرها، ويرجّحون أنفعها على أضرها بإذنه تعالى وتيسيره، ويجعل الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون، إذ هم لخطل رأيهم وسلوك سبيل الهوى يرجحون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى.
[سورة يونس (10): الآيات 101 الى 103]
قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن سننه في نوع الإنسان، أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر والخير والشر، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده وإنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك - بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله في التمييز بين الخير والشر. وما على الرسول إلا التبشير والإنذار وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة، وما الدين الا مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر الله بهما.
فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين، فإن سنننا لا تغيير فيها ولا تبديل، فننجى رسلنا والذين آمنوا معهم ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم.
الإيضاح
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول لمن تحرص على هدايتهم من قومك: انظروا بأبصاركم وبصائركم ماذا في السموات والأرض من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب ومطر، وهواء وماء، وليل ونهار، وإيلاج أحدهما في الآخر حتى يطول هذا ويقصر ذاك وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات، وماذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران، وما في البحر من عجائب وهو مسخّر مذلّل للسالكين، يحمل سفنهم ويجرى بها برفق بتسخير القدير العليم الذي لا إله غيره ولا رب سواه « وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ » إنه يريكم كل هذه الآيات ثم أنتم تشركون.
(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) تغنى: تنفع وتفيد، والنذر واحدها نذير، أي إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها، والرسل على بلاغة حجتها، لا تجدى نفعا لقوم لا يتوقع إيمانهم، لأنهم لم يوجهوا أنظارهم إلى الاعتبار بالآيات والاستدلال بها على ما تدل عليه من وحدانية الله وقدرته. والاعتبار بسننه في خلقه والاستفادة منها فيما يزكّى النفس ويرفعها عن الأرجاس والأدناس.
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول الله تعالى لنبيه ﷺ محذّرا مشركي قومه من حلول عاجل نقمة ربهم بهم وقد حل بمن قبلهم من سائر الأمم الخالية التي سلكت في تكذيب رسله وجحودهم مسلكهم: هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون بما جئتهم به من عند الله تعالى إلا يوما يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذين كانوا على مثل ما هم عليه من الشرك والتكذيب.
والخلاصة - إنهم لا ينتظروا إلا مثل وقائعهم مع رسلهم مما بلغهم مبدؤه وغايته.
(قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي قل لهم منذرا مهدّدا: انتظروا عقاب الله ونزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم بالعقوبة التي تحل بكم، وإني على بينة بما وعد الله به وصدق وعده للمرسلين، وإن الذين يصرّون على الجحود والعناد سيكونون من الهالكين.
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي إن سنتنا في رسلنا مع أقوامهم الذين يبلغونهم الدعوة، ويقيمون عليهم الحجة، وينذرونهم سوء عاقبة التكذيب، فيؤمن بعض ويصر آخرون على الكفر - أن نهلك المكذبين وننجى رسلنا والذين آمنوا بهم.
(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ومثل هذا الإنجاء ننجى المؤمنين معك أيها الرسول ونهلك المصرين على تكذيبك، وعدا حقا علينا لا نخلفه كما قال تعالى « سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا ».
[سورة يونس (10): الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على صدقه في رسالته وصحة الدين الذي جاء به، وبسطها غاية البسط حتى لم يبق فيها مجال للشك - قفّى على ذلك بالأمر بإظهار دينه، وبإظهار الفارق بينه وبين ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع وبيان أن الذي بيده النفع والضر هو الله الذي خلقهم. وبيده تصريف أمورهم.
الإيضاح
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها الرسول إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه ولم يتبين لكم أنه الحق، فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه، لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك، إني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون إلهكم وخالقكم، بل أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء، وينفعهم ويضرهم إذا أراد، ومثل هذا هو الحقيق بأن يعبد وأن يخاف وأن يتّقى دون من لا يقدر على شيء من ذلك.
وفي ذلك تعريض لطيف وإيماء إلى أن مثل هذا الدين لا يشكّ فيه، وإنما ينبغي أن تشكّوا فيما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذ عبادة الخالق لا يستنكرها ذو والفطرة السليمة، أما عبادة الأصنام فيستنكرها كل ذي لبّ وعقل سليم.
وقد أمرت أن أكون من المؤمنين الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه، وينصرهم على أعدائهم واستخلافهم في الأرض.
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أي وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأمرت أن أقيم وجهى للدين القيم الذي لا عوج فيه حال كونى حنيفا أي مائلا عن غيره من الشرك والباطل، وذلك بالتوجه إلى الله وحده في الدعاء وغيره بدون التفات إلى شيء سواه ونحو الآية قوله « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ».
فمن توجه قلبه إلى غيره في عبادة من العبادات ولا سيما مخّ العبادة وروحها وهو الدعاء فهو عابد له مشرك بالله.
ثم نهى رسوله عن ضد ذلك فقال:
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهة والأنداد كأرباب الديانات الوثنية الباطلة الذين يجعلون بينهم وبين الله حجابا من الوسطاء والأولياء والشفعاء يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم والحاجة تستعصى عليهم، ليضوا لهم حاجتهم إما بأنفسهم أو بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم، فإن فعلت ذلك كنت من الهالكين.
(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي ولا تدع أيها الرسول غيره تعالى دعاء عبادة لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك بوساطة الشفعاء - مالا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره.
(فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فإن فعلت هذا ودعوت غيره كنت في هذه الحال من الذين ظلموا أنفسهم، ولا ظلم لها أكبر من الشرك بالله تعالى، فدعاؤه وحده أعظم العبادات، ودعاء غيره شرك وظلم للنفس، لإضافة التصرف إلى مالا يصدر منه، فهو وضع للشىء في غير موضعه.
وقد جاء في معنى الآية آيات كثيرة متفرقة في السور لانتزاع هذا الشرك من قلوب السواد الأعظم من الناس، وقد انتزع من قلوب الذين أخذوا دينهم من كتاب ربهم، وكانت عبادتهم له دعاءه بالغدوّ والآصال والليل والنهار، وفيها نعى على الذين هجروا تدبر القرآن وتلقّوا عقائدهم من الآباء والأمهات والمعاشرين الأميين الجاهليين فتوجهوا إلى القبور فزيّنوها بالسرج والمصابيح ودعوها من دون الله وتقربوا إليها بالهدايا والنذور لتكشف عنهم الضر وتعطيهم ما يرجون من النفع، ويتأولون هذه الآيات الكثيرة فيزعمون أنها خاصة بعبادة الأصنام والنذر للأوثان، والتعظيم للصلبان كأن الشرك بالله جائز من بعض المخلوقين دون بعض.
ثم أكد سبحانه المعنى السالف ودحض شبهة الذين يدعون غير الله، لأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم وكشف الضر عنهم فقال:
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي وإن يمسسك الله أيها الإنسان بضر كمرض يصيبك بمخالفة سننه في حفظ الصحة، أو نقص في الأموال والثمرات بأسباب لك فيها عبرة، أو ظلم يقع عليك من غيرك، فلا كاشف له إلا هو، وقد جعل سبحانه للأشياء أسبابا يعرفها خلقه بتجاربهم ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها ومعرفة خواصّ العقاقير التي تداوى بها، فعلينا أن نطلبها من الأسباب ونأتى البيوت من الأبواب، ونتوجه إلى الله وحده، وندعوه مخلصين له، متوكلين عليه.
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي وإن يردك ربك برخاء ونعمة وعافية فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين فضله الذي تعلقت به إرادته تعالى، فما شاء كان حتما، فلا يرجى خير ونفع إلا من فضله، ولا يخاف ردّ ما يريده. فهو يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب أو بغير كسب، وبسبب ما قدّره في السنن العامة وبغير سبب، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد أو العامة في نظام الخلق كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل وكثرة الظلم.
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته، الرحيم بمن آمن به منهم فلا يعذبه بعد التوبة، ولو لا مغفرته الواسعة ورحمته العامة لأهلك الناس جميعا بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة كما قال تعالى: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » وقال: « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ».
[سورة يونس (10): الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
المعنى الجملي
بعد أن قرر سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد - ختم السورة بهذا البلاغ للناس كافة بمقتضى البعثة العامة، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.
الإيضاح
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول مخاطبا جميع الناس، من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك. قد جاءكم الحق المبيّن لحقيقة هذا الدين، وقد أوحى به إلى رجل منكم، وكان خفيا عنكم بما جهل من دعوة الرسل السالفين أو حرّف وبدل، ففصّله هذا الكتاب العربي المبين.
(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن سلك سبيل الحق وصدّق بما جاء من عند الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنما فائدة ذلك عائدة إليه، لأنه يفوز بالسعادة في دنياه ودينه، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره، ولا بتأثيره بشفاعته أو وساطته.
(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن اعوجّ عن الحق الذي أتاه من عند الله وأعرض عن كتابه وعن آياته في الأنفس والآفاق، فإنما وبال ضلاله على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء في الدنيا، وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه في الآخرة (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا بموكّل من عند الله بأموركم، ولا بمسيطر عليكم، فأكرهكم على الإيمان، وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان، ولا أملك لكم ضرا ولا نفعا، وما أنا إلا رسول مبلغ إليكم أمر ربكم، بشير لمن اهتدى، ونذير لمن ضل وغوى، وقد أعذر من أنذر.
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) أي واتبع أيها الرسول وحي الله الذي أنزله إليك في كتابه، واعمل به وعلّمه أمتك، واصبر على ما يصيبك من الأذى والمكاره وعلى ما ينالك من قومك، حتى يقضى الله بينك وبين المكذبين لك، وينجز لك ما وعدك.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي وهو خير القاضين، وأعدل الفاصلين، فهو لا يحكم إلا بالحق، وغيره قد يحكم بالباطل، إما لجهله بالحق أو مخالفته له باتباع الهوى، وقد امتثل رسوله أمر ربه، وصبر حتى حكم الله بينه وبين قومه، وأنجز وعده له ﷺ ولمن اتبعه من المؤمنين، فاستخلفهم في الأرض، وجعلهم الأئمة الوارثين ما أقاموا الدين.
وغير خاف ما في هذه الآيات من التسلية لنبيه ووعده للمؤمنين ووعيده للكافرين.