رحلة ابن جبير/شهر ذي الحجة


شهر ذي الحجة


استهل هلاله ليلة الخميس بموافقة الخامس عشر من مارس. وكان للناس في ارتقابه أمر عجيب، وشأن من البهتان غريب، ونطق من الزور كاد يعارضه من الجماد فضلاً عن غيره رد وتكذيب؛ وذلك أنهم ارتقبوه ليلة الخميس الموفي ثلاثين، والأفق قد تكاثف نؤه وترتاكم غيمه أن علته مع المغيب بعض حمرة من الشفق، قطمع الناس في فرجه من الغيم لعل الأبصار تلتقطه فيها، فبينما هم كذلك اذا كبر أحدهم، فكبر الجم الغفير لتكبيره ومشوا قياماً ينتظرون ما لايبصرون ويشيرون مايتتخيلون حرصاً منهم على أن تكون الوقفة بعرفات يوم الجمعة، كأن الحج لايرتبط الا بهذا اليوم بعينه، فاختلقوا شهادات زورية، ومشت منهم طائفة من المغاربة، أصلح الله أحوالهم، ومن أهل مصر وأربابها، فشهدوا عند القاضي برؤيته، فردهم أقبح رد وجرح شهاداتهم أسوأ تجريح وفضحهم في تزييف أقوالهم أخزى فضيحة، وقال: ياللعجب! لو أن أحدهم يشهد برؤيته الشمس تحت ذلك الغيم الكثيف النسج لما قبلته، فكيف برؤية هلال هو ابن تشع وعشرين ليلة!وكان أيضاً مما حكي من قوله: تشوشت المغارب، وتعرضت شعرة من الحاجب، فأبصروا خيالاً ظنوه هلالاً. وكان لهذا القاضي جمال الدين، في أمر هذه الشهادة الزورية مقام من التوقف والتحري، حمده له أهل التحصيل وشكره عليه ذوو العقول، وحق لهم ذلك، فإنها مناسك الحج للمسلمين عظيمة، أتوا لها من كل فج عميق. فلو تسومح فيها بطل السعي، وفال الرأي، والله يرفع الالتباس وبأس بمنه.

فلما كانت ليلة الجمعة المذكورة ظهر الهلال أثناء فرج السحاب وقد اكتسى نوراً من الثلاثين ليلة، فزعقت العامة زعقات هائلة وتنادت بوقفة الجمعة، وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب سعينا، ولاضيع قصدنا. كأنهم قد صح عندهم أن الوقفة اذا لم تكن توافق يوم الجمعة ليست مقبولة، ولا الرحمة فيها من الله مرجوة مأمولة؛ تع الله عن ذلك علواً كبيراً.

ثم إنهم يوم الجمعة المذكور اجتمعوا القاضي فأدوا شهادات بصحة الروية تبكي الحق وتضحك الباطل، فردها وقال: ياقوم حتام هذا التمادي في الشهوة، والام تستنون في طرق الهفوة? وأعلمهم أنه قد استأذن الأمير مكثراً في أن يكون الصعود عرفات صبيحة يوم الجمعة فيقفوا عشية بها، ثم يقفوا صبيحة يوم السبت بعده ويبيتوا ليلة الأحد بمزدلفة، فإن كانت الوقفة يوم الجمعة فما عليهم في تأخير المبيت بمزدلفة بأس، اذهو جائز عند أئمة المسلمين، وان كانت يوم السبت فبها ونعمت. وأما أن يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين وافساد لمناسكهم، لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة، كنا انها عندهم جائزة يوم النحر. فشكر جميع من حضر للقاضي هذا المنزع من التحقيق ودعوا له، وأظهر من حضر من العامة الرضى بذلك واصرفوا عن سلام، والحمد لله على ذلك.

وهذا الشهر المبارك هو ثالث الأشهر الحرم، وعشره الأولى مجتمع الأمم وموسم الحج الاعظم، شهر العج والثج، وملتقى وفود الله من كل أوب وفج، مصاب الرحمة والبركات، ومحل الموقف الاعظم بعرفات، جعلنا الله ممن فاز فيه بالحسنات، وتعرى به من ملابس الاوزار والسيئات، بمنه وكرمه، انه أهل التقوى، وأهل المغفرة، والامير العراقي منتظر لكشف هذا الإلباس عن الناس في أمر الهلال لعله قد اتضح له اليقين فيه، إن شاء الله.

وفي سائر هذه الايام كلها هلم جراً تصل رفاق من السرو واليمنيين وسائر حجاج الآفاق لايحصي عددها الا محصي آجالها وأرزاقها، لا إله سواه. فمن الآيات البينات أن يسع هذا الجمع العظيم هذا البلد الامين الذي هو بطن واد سعته غلوة أو دونها. ولو أن المدن العظيمة حمل عليها هذا الجمع لضاقت عنه. وما هذه البلدة المكرمة فيما تختص به من الآيات البينات في اتساعها لهذا البشر المعجز احصاؤه الا كما شبهتها العلماء حقيقة بأنها تتسع لوفودها اتساع الرحم لمولودها. وكذلك عرفات وسائر المشاهد المعظمة بهذا البلد الحرام، عظم الله حرمته ورزقنا الرحمة فيه بكرمه وفضله. ومن أول هذا الشهر المبارك ضربت دبادب الأمير بكرة وعشية وفي أوقات الصلوات كأنها إشعار بالموسم، ولايزال كذلك يوم الصعود عرفات، عرفنا الله بها القبول والرحمة.


والي عدن

وفي يوم الاثنين الخامس أو الرابع من هذا الشهر وصل الأمير عثمان بن علي صاحب عدن، خرج منها فاراً أمام سيف الاسلام المتوجه اليمن وركب البحر في جلاب كثيرة مشحونة بأحوال عظيمة وأموال لاتحصى كثرة لأنه طال مقابمه في تلك الولاية واستع كسبه. وعند خروجه من البحر بموضع يعرف بالصر. لحقت جلبة حراريق الأمير سيف الاسلام فأخذت جميع مافيها من الأثقال، وكان قد اسصحب الخف النفيس الخطير مع نفسه البر وهو في جملة من رجاله وعبيده، فسلم به ووصل مكة بعير موقرة متاعاً ومالاً دخلت أعين الناس داره التي ابتناها بها بعد أن قم نفيس ذخائه وناض ماله وجملة رقيقة وخدمه ليلاً.

وبالجملة فحاله لاتوصف كثرة واتساعاً، والذي انتهب له أكثر، لأنه كان في ولايته يوضف بسوء السيرة مع التجار، وكانت المنافع التجارية كلها راجعة اليه، والذخائر الهندية المجلوبة كلها واصلة يديه، فاكتسب سحتاً عظيماً، وحصل على كنوز قارونية، لكن حوادث الأيام قد ابتدأت بالخسف به، ولا يدري حال أمره مع صلاح الدين لم يكون، والدنيا مفنية محبيها، واكلة بنيها، وثواب الله خير ذخيرة، وطاعته أشرف غنيمة، لا إله سواه.

وبقيت الشهادة مضطربة في امر هذا الهلال المبارك الميمون أن تواصلت الأخبار برؤيته ليلة الخميس الذي يوافق الخامس عشر من مارس، شهد بذلك ثقات من أخل الزهد والورع يمنيون وسواهم من الواصلين من المدينة المكرمة لكن بقي القاضي على ثباته وتوفقه في القبول وارجاء الامر وصول المبشر المعلم بوصول الأمير العراقي ليتعرف من قبله ما عند أمير الحاج في ذلك.

فلما كان يوم الأربعاء السابع من الشهر المذكور وصل المبشر، وكانت نفوس أهل مكة قد أوجست خيفة لبطئه حذراً من حقد الخليفة على أميرهم مكثر لمذموم فعل صدر عنه. فكان وصول هذا البشير أماناً وتسكيناً للنفوس الشاردة، فوصل مبشراً ومؤنساً، واعلم برؤية الهلال ليلة الخميس المذكور. وتواترت الأنباء بذلك، فصح الأمر عند القاضي بذلك صحة أوجبت خطبته في ذلك اليوم على ماجرت به العادة في اليوم السابع من ذي الحجة اثر صلاة الظهر، علم الناس فيها مناسكهم، ثم أعلمهم أن غدهم هو يوم الصعود منى، وهو يوم التروية، وأن وقفتهم يوم الجمعة، وأن الأثر الكريم فيها عن رسول الله، الله عليه وسلم، بأنها تعدل سبعين وقفة، ففضل هذه الوقفة في الأعوام كفضل يوم الجمعة على سائر الأيام.


مناسك الحج

فلما كان يوم الخميس بكر الناس بالصعود منى وتمادوا منها عرفات.وكانت السنة المبيت بها، لكن ترك الناس ذلك اضطراراً بسبب خوف بني شعبة المغيرين على الحجاج في طريقهم عرفات. وصدر عن هذا الأمير عثمان المتقدم ذكره في ذلك اجتهاد بل جهاد يرجى له به المغفرة لجميع خطاياه، إن شاء الله، وذلك أنه تقدم بجميع أصحابه شاكين في الأسلحة المضيق الذي مزدلفة وعرفات، وهو موضع ينحصر الطريق فيه بين جبلين فينحدر الشعبيون من أحدهما، وهو الذي عن يسار المار عرفات، فينتهبون الحاج انتهاباً، فضرب هذا الامير قبة في ذلك المضيق بين الجبلين بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد رأس الجبل بفرسه، وهو جبل كؤود، فعجبنا من شأنه، واكثر التعجب من أمر افرس وكيف تمكن له الصعود ذلك المرتقى الصعب الذي لايرتقيه. فأمن جميع الحاج بمشاركة هذا الأمير لهم، فحصل على اجرين: أجر جهاد وحج، لأن تأمين وفد اله عز وجل في مثل ذلك اليوم من أعظم الجهاد.

واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله والليلة كلها يوم الجمعة كله. فاجتمع بعرفات من البشر جمع لايحصي عدده الا الله عز وجل. ومزدلفة بين منى وعرفات، من منى اليها مامن مكة منى، وذلك نحو خمسة أميال، ومنها عرفات، مثل ذلك أو أشف قليلاً، وتسمى المشعر الحرام، وتسمى جمعاً، فلها ثلاثة اسماء، وقبلها بنحو الميل وادي محسر، وجرت العادة بالهرولة فيه، وهو حد بين مزدلفة ومنى لأنه معترض بينهما.

ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحوله مصانع وصاريج كانت للماء في زمان زبيدة، رحمها الله. وفي وسط ذلك البسيط من الارض حلق في سوطه قبة في أعلاها مسجد يصعد اليه على أدراج من جهتين، يزدحم الناس في الصعود اليه والصلاة فيه عند مبيتهم بها. وعرفات أيضاً بسيط من الأرض مد البصر، لو كان محشراً لخلائق لوسعهم، يحدق بذلك البسيط الافينح جبال كثيرة. قبله بنحو الميلين، فما أمام العلمين عرفات حل، ومادونهما حرم. وبمقربة منهما، ممايلي عرفات، بطن عرنة الذي أمر النبي، الله عليه وسلم، بالاتفاع عنه في قوله، الله عليه وسلم: عرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، فالواقف فيه لايصح حجه، فيجب التحفظ من ذلك لأن الجمالين عشية الوقفة ربما استحثوا كثيراً من الحاج وحذروهم الزحمة في النفر واستدرجوهم بالعلمين اللذين أمامهم أن يصلوا بهم بطن عرنة أو يجيزوه فيبطلوا على الناس حجهم. والتحفظ لاينفر من الوقف حتى يتمكن سقوط القرصة من الشمس.

وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال قائم في وسط البسيط، وهو كله حجارة منقطعة بعضها عن بعض. وكان صعب المرتقى، فأحدث فيه جمال الدين المذكورة مآثره في هذا التقييد أدراجاً وطيئة من أربع جهاته، يصعد فيها بالدواب المذكورة، وانفق فيها مالاً عظيماً. وفي أعلى الجبل قبة تنسب أم سلمة، رضي الله عنها، ولا يعرف صحة ذلك. وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه. وحول ذلك المسجد المركم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر، يشرف منه على بسيط عرفات. وفي جهة القبلة منه جدار، وقد نصبت فيه محاريب يصلي الناس فيها.

وفي أسف هذا الجبل المقدس، عن يسار المستقبل للقبلة فيه، دار عتيقة البنيان في أعلاها غرف لها طيقان تنسب آدم، الله عليه وسلم. وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان عندها موقف النبي، الله عليه وسلم، وهي في جبل متطامن. وحول جبل الرحمة والدار المكرمة صهاريج للماء وجباب. وعن يسار الدار أيضاً، على مقربة منها، مسجد صغير.

وبمقربة من العلمين، عن يسار مستقبل القبلة، مسجد قديم فسيح البناء، بقي منه الجدار القبلي، ينسب ابراهيم، الله عليه وسلم، فيه يخطب الخطيب يوم الوقفة، ثم يجمع بين الظهر والعصر. وعن يسار العلمين أيضاً، في استقبال القبلة، وأدي الأراك، وهو أراك أخضر يمتد في ذلك البسيط مع البصر امتداداً طويلاً.

فتكامل جمع الناس بعرفات يوم الخميس وليلية الجمعة كلها. وفي نحو الثلث الباقي من ليلة الجمعة المذكورة وصل أمير الحاج العراقي فضرب أبنيته في البسيط الأفيح، ممايلي الجانب الأيمن من جبل الرحمة في استقبال القبلة.

والقبلة في عرفات هي مغرب الشمس، لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها. فأصبح يوم الجمعة المذكورة في عرفات جمع لاشبيه له الا الحشر، لكنه إن شاء الله تع حشر للثواب، مبشر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب؛ زعم المحققون من الأشياخ المجاورين أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعاً احفل منه، ولا أرى كان من عهد الرشيد، الذي هو آخر من حج من الخلفاء، جمع في الإسلام مثله، جعله الله جمعاً مرحوماً معصوماً بعزته.

فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين، و الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع فما رؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوباً خواشع، ولا اعناقاً لهيبة الله خوانع من ذلك اليوم. فمازال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب. وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور. وأخذ السر واليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جد فجد من عهد النبي، الله عليه وسلم، لاتتعدى قبيلة على منزل أخرى.

وكان المجتمع منهم في هذا العام عدداً لم يجتمع قط مثله. وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين، واحدتهن خاتون، ومن السيدات بنات الأمراء كثير، ومن سائر العجم عدد لايحصى، فوقف الجميع وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي، لأنه مذهب مالك، رضي الله عنه، يقتضي أن لاينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وفت المغرب. ومن السرو اليمنيين من نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعاً ارتجت له الأرض ووجفت الجبال، فياله موقفاً ما أهون مرآه وأرجى في النفوس عقباه! جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم، حنان منان.

محلة الأمير العراقي

وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر، بهية العدة، رائقة المضارب الأبينية، عجيبة القباب والاروقة، على هيئات لم ير أبدع منها منظراً. فأعظمها مرأى مضرب الامير، وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهي كلها سواد في بياض، مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض. وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية من ذلك السواد المنزل في البياض يستشعر الناظر اليها مهابة يتخيلها درقاً لمطية قد جللتها مزخرفات الاغشية.

لوهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها دهاليز وتعاريج ثم يفضى منها الفضاء الذي فيه القباب. وكأن هذا الأمير ساكن في مدينة قد أحدق بها سورها تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله، وهي من الابهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب.

ودخل تلك الأبواب حجاج الأمير وخدمه وغاشيته، وهي أبواب مرتفعة، يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تظأطؤ، قد احكمت اقامة ذلك كله أمراس وثيقة من الكتان تتصل بأوتاد مضروبة، أدير ذلك كله بتدبير هندسي غريب. ولسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مضارب دون ذلك لكنها عى تلك الصفة، وقباب بديعة المظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المصوبة، مايطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدة وغير ذلك مما يدل على سعة الأحوال وعظيم الانخراق في المكاسب والأموال.

ولهم أيضاً في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الأعواد يسمونها القشاوات، وهي كالتوابيت المجوفة، هي لركابها من الرجال والنساء كالامهدة للأطفال، تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحاً كأنه في مهاد لين فسيح وبإزائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الاخرى، والقبة مضروبة عليهما، فيسار بهما وهما نائمان لايشعران، أو كيفما أحبا، فعندما يصلان المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين أن كانا من أهل الترفه والنعم فيدخل بهما راكبين وينصب لهما كرسي ينزلان عليه، فينتقلان من ظل قبة المحمل قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما. وناهيك من هذا الترفيه ! فهؤلاء لايلقون لسفرهم، وإن بعدت شقته، نصباً، ولايجدون على طول الحل والترحال تعباً.

ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات وهو شبيهة الشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب، لكن الشقادف أبسط وأوسع، وهذه أضم وأضيق، وعليها أيضاً ظلائل تقي حر الشمس. ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب.


الرجوع إلى ذكر مناسك الحج

ثم يرجع القول استيفاء حال النفر عشية الوقفة المذكورة بعرفات، وذلك أن الناس نفروا مها بعد غروب الشمس، كما تقدم الذكر، فوصلوا مزدلفة مع العشاء الآخرة،فجمعوا بها بين العشاؤين، حسبما جرت به سنة النبي، الله عليه وسلم، واتقد المشعر الحرام تلك الليلة كلها مشاعيل من الشمع المسرج، وأما مسجده المذكور فعاد لكه نوراً، فيخيل للناظر أليه أن كواكب السماء كلها نزلت به. وعلى هذا الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة؛ ولن هوؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس همة في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه إضاءة لهذه المشاهد الكريمة. وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه، فيدخل منهم كل انسان بشمعة في يده، وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه. وشاهدنا منه شمعاً عظيماً أحضر منه، تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السرو، ووضع أمام الحنفي.

فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة، وهي ليلة السبت، فلما صلوا الصبح غدوا منه منى بعد الوقوف والدعاء، لأن مزدلفة كلها موقف وادي محسر، ففيه تقع الهرولة في التوجه منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وهو المستحب، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى، وكل ذلك واسع. فلما انتهى الناس منى بادروا الرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة. ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة، ومنهم من أقام اليوم الثاني، ومنهم من أقام اليوم الثالث، وهو يوم الانحدار مكة. فلما كان اليوم الثاني من يوم النحر، عند زوال الشمس، رمى الناس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالجمرة الوسطى كذلك، وبهاتين الجمرتين يقفون للدعاء، وبجمرة العقبة كذلك ولايقفون بها، اقتداء في ذلك كله بفعل النبي، الله عليه وسلم.فتعود جمرة العقبة في هذين اليومين أخيرة، وهي يوم النحر أولى منفردة لايخلط معها سواها.

وفي اليوم الثاني من يوم النحرر، بعد ريم الجمرات، خطب الخطيب بمسجد الخيف، ثم جمع بين الظهر والعصر، وهذا الخطيب وصل مع الأمير العراقي مقدماً من عند الخليفة للخطبة والقضاء بمكة على مايذكر، ويعرف بتاج الدين. وظاهر أمره البلادة والبله لأن خطبته أعربت عن ذلك، ولسانه لايقيم الإعراب.

فلما كان اليوم الثالث تعجل الناس في الانحدار مكة بعد أن كمل هلم رمي تسع وأربعين جمرة: سبع منها يوم النحر بالعقبة، وهي المحللة؛ ثم احدى وعشرون في اليوم الثاني، بعد زوال الشمس، سبعاً سبعاً في الجمرات الثلاث؛وفي اليوم الثالث كذلك، ونفروا مكة؛ فمنهم من العصر بالأبطح، ومنهم من صلاها بالمسجد الحرام، ومنهم من تعجل ف الظهر بالأبطح. ومضت السنة قديماً بإقامة ثلاثة أيام، بعد يوم النحر بمنى، لإكمال رمي سبعين حصاة، فوقع التعجيل في هذا الزمان في اليومين كما قال الله تبارك وتع: فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه،وذلك مخافة بني شعبة ومايطرأ من حرابة المكيين.

وقد كانت في يوم الانحدار المذكور بين سودان أهل مكة وبين الأتراك العراقيين جولة وهوشة وقعت فيها جراحات وسلت السيوف وفوقت القسي ورميت السهام انتهب بعض أمتعة التجار، لأن منى في تلك الأيام الثلاثة سوق من أعظم الأسواق يباع فيها من الجوهر النفيس أدنى الخرز، غير ذلك من الأمتعة وسائر سلع الدنيا، لأنها مجتمع أهل الآفاق. فوقى الله شر تلك الفتنة بتسكينها سريعاً. وكانت عين الكمال في تلك الوقفة الهنيئة، وكمل للناس حجم، والحمد لله رب العالمين.


كسوة الكعبة

نقل كسوة الأمير العراقي للكعبة وفي يوم السبت، يوم النحر المذكور، سيقت كسوة الكعبة المقدسة من محلة الأمير العراقي مكة على أربعة جمال، وتقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السوادية، والرايات على رأسه، والطبول تهر وراءه، وابن عم الشيبي محمد بن إسماعيل معها لأنه ذكر أن أمر الخليفة نفذ بعزله عن حجابة البيت لهنات اشتهرت عنه، والله يطهر بيته المكرم بمن يرضى من خدمه بمنه. وهذا ابن العم المذكور هو أشبه طريقة منه وأمثل حالاً، وقد تقدم ذكر ذلك في العزلة الأولى. فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى الكعبة. فلما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسناًن في أعلاها رسم أحمر واسع مكتوب في الصفح الموجه المقام الكريم حيث الباب المكرم، وهو وجهها المبارك، بعد البسملة: إن أول بيت وضع للناس لآية، وفي سائر الصفحات اسم الخليفة والدعاء له، وتحف بالرسم المذكور طرتان حمراوان بدوائر صغارر بيض فيها رسم بخط رقيق يتضمن آيات من القرآن وذكر الخليفة أيضاً. فكملت كسوتها، وشمرت أذيالها الكريمة صوناً من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتها عليها وانكبابها. فلاح للناظرين منها أجمل منظر، كأنها عروس جليت في السندس الأخضر، أمتع الله بالنظر اليها كل مشتاق لقائها حريص على المثول بفنائها بمنه.


الأعاجم

وفي هذه الأيام فتح البيت الكريم للأعاجم العراقيين والخراسانيين وسواهم من الواصلين مع الأمير العراقي. فظهر من تزاحمهم وتطارحهم على الباب الكريم ووصول بعضهم على بعض وسباحة بعضهم على رؤوس بعض كانهم في غدير من الماء، أمر لم ير أهوال منه، يؤدي تلهف المهج وكسر الاعضاء. وهم في خلال ذلك لايبالون ولايتوقفون، بل يلقون بأنفسهم على ذلك البيت الكريم، من فرط الطرب والارتياح، القاء الفراش بنفسه على المصباح. فعادت أحوال السرو اليمنيين في دخولهم البيت المبارك على الصفة المتقدمة الذكر، حال تؤدة ووقار بالإضافة هؤلاء الأعاجم الاغتام، نفعهم الله بنياتهم، وقد فقد منهم في ذلك المزدحم الشديد من دنا أجله، والله يغفر للجميع.

وربما زاحمهم في تلك الحال بعض نسائهم فيخرجن وقد نضجت جلودهن طبخاً في مضيق ذلك المعترك الذي حمي بأنفاس الشوق وطيشه، والله ينفغ الجميع بمعتقده وحسن مقصده بعزته.

وفي ليلة الخميس الخامس عشر من الشهر المبارك، اثر صلاة العتمة، نصب منبر الوعظ أمام المقام، فصعد واعظ خراساني حسن الشاررة مليح الإشارة، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان، فصيح المنطق، بارع الالفاظ، ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم اطراباً ويذيبهم زفرات وانتحاباً.


فما كانت الليلة الأخرى بعدها وضع منبر آخر خلف حطيم الحنفي، فصعد اثر صلاة العتمة ايضاً شيخ أبيض السبال، رائع الجلال، بارع التمام في الفضل والكمال، فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة، ثم تصررف في أساليب الوعظ وأفانين منالعلم باللسانين أيضاً، حرك بها القلوب حتى أطارها واورثها احتداماً بالخشية بعد استعارها. وفي اثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بمجن من الجواب السريع البليغ، فتحار له الالباب، ويملك كل نفس منه الإغراب والإعجاب، فكأنماهو وحي يوحى.

وهذا الذي مشى به وعاظ هذه الجهات المشرقية من القاء المسائل اليهم وافاضة شآبيب الامتحان عليهم من أعجب الأمور المعربة عن غريب شأنهم والناطقة بسحر بيانهم. وليست في فن واحد انما هي من فنون شتى. وربما قصد بها التعنيت والتنكيب فيأتون بالجواب كخطفة البرق وارتداد الطرف، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وبين أيدي هؤلاء الوعاظ قراء ينغمون بالقراءة فيأتون بألحان تكسب الجماد طرباً واريحية كأنها المزامير الداودية. فلا تدري من أي أحوال هذا المجتمع تعجب، والله يؤتي الحكمة من يشاء، لا اله سواه، وسمعت هذا الشيخ الواعظ يسند الحديث خمسة من أجداده: جد عن جد، نسقاً مسلسلاً من أبيه اليهم على اتصال، كلهم له لقب يدل على منزلته من العلم ومكانته من التذكير والوعظ، فهو معرررق في الصنعة الشريفة، تليد المجد فيها.


البيع والشراء في المسجد الحرام

وفي أيام الموسم كلها عاد المسجد الحرام، نزهه الله وشرفه، سوقاً عظيمة يباع فيه من الدقيق العقيق، ومن البر الدر، غير ذلك من السلع. فكان مبيع الدقيق بدار الندوة جهة باب بني شيبة، ومعظم السوق في البلاط الآخذ من الغرب الشمال، وفي البلاط الآخذ من الشمال الشرق، وفي ذلك من النهي الشرعي ماهو معلوم، والله غالب على أمرره، لا اله سواه.


مغادرة مكة

وفي عشي يوم الأحد الموفي عشررين من الشهر المذكور وهو أول أبريل، كان مسيرررنا محلة الأمير العراقي بالزاهر وهو على نحو الميلين من البلد، وقد كمل اكتراؤنا الموصل، وهو أمام بغداد بعشررة أيام، عرفنا الله الخير والخيرة بمنه، فأقمنا بالزاهر ثلاثة أيام نجدد العهد كل يوم بالبيت العتيق، ونعيد وداعه.فلما كان ضحوة يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة المذكور، أقلعت المحلة على تؤدة ورفق بسبب البطء والتأخر ونزلت على نحو ثمانية أميال من الواضع الذي أقلعت منه بمقربة من بطن مرة، والله كفيل بالسلامة والعصمة بمنه.

فكانت مدة مقامنا بمكة، قدسها الله، من يوم وصولنا إليها، وهو يوم الخميس الثالث عشر لرربيع الآخر من سنة تسع وسبعين، إقلاعنا من الزاهر، وهو يوم الخميس الثاني والعشرين لذي الحجة من السنة المذكورة، ثماينة أشهر وثلث شهر، التي هي بحسب الزائد والناقص من الأشهر مئتا يوم اثنتان وخمسة وابعون يوماً سعيدات مباركات، جعلها الله لذاته، وجعل القبول لها موافقاً لمرضاته، بمنه، غبناً عن رؤية البيت الكريم فيها ثلاثة أيام: يوم عرفة، وثاني يوم النحر، ويوم الأربعاء الذي هو الحادي والعشرون لذي الحجة، قبل يوم الخميس يوم اقلاعنا من الزاهر، والله لايجعله آخر العهد بحرمه الكريم بمنه.


الخواتين الثلاثة

ثم أقلعنا من ذلك الموضع إثر صلاة الظهر من يوم الخميس، بطن مر، وهو واد خصيب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة الماء تسقى منها أرض تلك الناحية. وعلى هذا الوادي قطر متسع وقرى كثيرررة وعيون، ومنه تجلب الفواكه مكة، حرسها الله، فأقمنا به يوم الجمعة لسبب عجيب، وذلك أن الملكة خاتون بيت الأمير مسعود ملك الدروب والأرمن وما يلي بلاد الروم، وهي احدى الخواتين الثلاث اللاتي وصلن للحج، مع أمير الحاج أبي المكارم طاشتكين مولى أمير المؤمينين، والموجه كل عام من قبل الخليفة، وله بتولي هذه الخطة نحو الثمانية أعوام أو أزيد، وخاتون هذه اعظم الخواتين قدراً، بسبب سعة مملكة أبيها.

والمقصود من ذكر أمرها أنها أسرت من بطن مر ليلة الجمعة مكة في خاصة من خدمها وحشمها، فتفقد موضعها يوم الجمعة المذكور، فوجه الأمير ثقات من خاصة أصحابه يستطلعونها في الانصراف، وأقام بالناس منتظراً لها. فوصلت عتمة يوم السبت، وأجليت في سبب انصراف هذه الملكة المترفة قداح الظنون، وسلت الخواطر على استخراج سرها المكنون، فمنهم من يقول: أنها انصرفت أنفة لبعض مانتقدته على الأميرر، ومنهم من قال: أن نوازع الشوق للمجاورة عطفت بها المثابة المكرمة، ولايعلم الغيب الا الله. وكيفما كان الأمر فقد كفى الله العطلة بسببها، وأطلق سبيل الحاج، ولله الحمد على ذلك.

وأبو هذه المرأة المذكورة الأمير مسعود، كما ذكرناه، وهو في بسطة من ملكه واتساع من أمرته، على ماحقق عندنا، أكثر من مئة الف فاررس، وصهره عليها نور الدين صاحب آمد وماسواها؛ ويركب له أيضاً نحو اثني عشر الف فارس. ولخاتون هذه افعال من البر كثيرة في طريق الحاج: منها سقي الماء للسبيل، عينت لذلك نحو الثلاثين ناضحة، ومثلها للزاد، واستجلبت لما تختص به من الكسوة والأزودة وغير ذلك نحو المئة بعير. وأمورررها يطول مصفها، وسنها نحو خمسة وعشرين عاماً.

ولخاتون الثانية، أم عز الدين صاحب الموصل، زوج قطب الدين بن اتابك أخي نور الدين الذي كان صاحب الشام، رحمه الله، ولهذه أفعال كثيررة من البر. وخاتون الثالثة ابنة الدقوس صاحب اصبهان من بلاد خراسان، وهي أيضاً كبيرة القدر عظيمة الشأن منافسة في أفعال البر. وشأنهن جمع عجيب جداً فيما هن بسبيله من الخيل والاحتفال في الأبهة الملوكية.


رحلة ابن جبير
في الاندلس | أهوال البحر | البشرى بالسلامة | شهر ذي الحجة من السنة المذكورة | ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها | منار الإسكندرية | مناقب الإسكندرية | ذكر مصر والقاهرة | شهر رمضان المعظم | شهر شوال