شفاء العليل/الباب الأول


الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" رواه مسلم في الصحيح وفيه دليل على أن خلق العرش سابق على خلق القلم وهذا أصح القولين لما روى أبو داود في سننه عن أبي حفصة الشامي قال عبادة بن الصامت لإبنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يك ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" سمعت رسول الله يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال رب وماذا أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني سمعت رسول الله يقول: "من مات على غير هذا فليس مني" وكتابة القلم للقدر كان في الساعة التي خلق فيها لما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره قال تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني إني سمعت رسول الله يقول: إن أول ما خلق الله تعالى القلم ثم قال أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة: يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار، وهذا الذي كتبه القلم هو القدر لما رواه ابن وهب أخبرني عمر بن محمد أن سليمان بن مهران حدثه قال قال عبادة بن الصامت ادع لي ابني وهو يموت لعلي أخبره بما سمعت من رسول الله يقول: "إن أول شيء خلقه الله من حلقه القلم فقال له: اكتب فقال: يا رب ماذا أكتب قال: القدر قال رسول الله فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار" وعن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي يوما فقال لي: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فسل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فقال النبي يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر" رواه البخاري في صحيحه قال حدثنا أصبغ ثنا ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ورواه ابن وهب في كتاب القدر وقال فيه: "فأذن لي أن أختصي قال فسكت عنى حتى قلت ذلك ثلاث مرات فقال جف القلم بما أنت لاق" وقال أبو داود الطيالسي ثنا عبد المؤمن هو ابن عبد الله قال كنا عند الحسن فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا فقال يا أبا سعيد أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فقال الحسن: نعم والله إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلا أنه كائن في يوم كذا وكذا في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر قال: يا أبا سعيد والله لقد أخذتها وإني عنها لغني ثم لا صبر لي عنها قال الحسن: أولا ترى، واختلف في الضمير قوله من قبل أن نبرأها فقيل هو عائد على الأنفس لقربها منه وقيل هو عائد على الأرض وقيل عائد على المصيبة والتحقيق أن يقال هو عائد على البرية التي تعم هذا كله ودل عليه السياق وقوله نبرأها فينتظم التقادير الثلاثة انتظاما واحدا والله أعلم، وقال ابن وهب أخبرني عمر بن محمد أن سليمان بن مهران حدثه قال قال عبد الله بن مسعود: "إن أول شيء خلقه الله عز وجل من خلقه القلم فقال له اكتب فكتب كل شيء يكون في الدنيا إلى يوم القيامة فيجمع بين الكتاب الأول وبين أعمال العباد فلا يخالف ألفا ولا واوا وميما" وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى ومن أخطأه ضل" قال عبد الله: فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن رواه الإمام أحمد وقال أبو داود حدثنا عباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي قال حدثني ربيعة بن يزيد ويحيى بن أبي عمرو الشيباني قال حدثني عبد الله بن فيروز الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو ابن العاص وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط فقلت خصال بلغتني عنك تحدث بها عن رسول الله أنه قال: "من شرب الخمر لم تقبل توبته أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه" وقال سمعت رسول الله يقول: "أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل" فلذلك أقول جف القلم على علم الله ورواه الإمام أحمد في مسنده أطول من هذا عن عبد الله بن فيروز الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو محاضر فتى من قريش يزن بشرب الخمر فقلت: بلغني عنك حديث: "أن من شرب شربة خمر لم تقبل توبته أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه وأن من أتى بيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه" فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو أني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول: "من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة" قال وسمعت رسول الله يقول: "أن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمه ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله" وسمعت رسول الله يقول: "إن سليمان بن داود سأل الله عز وجل ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجوا أن تكون لنا الثالثة سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه فأعطاه الله إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه فنحن نرجوا أن يكون الله تعالى عز وجل قد أعطانا إياه" ورواه الحاكم في صحيحه وهو على شرط الشيخين ولا علة له.


شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه