شفاء العليل/الباب السادس


الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي

قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ذكر الحاكم في صحيحه من حديث أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة أو مرة ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقال مجاهد والكلبي وعبيد ابن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويمنع وينصر ويعز ويذل ويفك عانيا ويشفي مريضا ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويتوب على قوم ويكشف كربا ويغفر ذنبا ويضع أقواما ويرفع آخرين دخل كلام بعضهم في بعض وقد ذكر الطبراني في المعجم والستة وعثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي عن عبد الله بن مسعود قال: "إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات والأرض نور وجهه وأن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتي عشرة ساعة فيعرض عليه أعمالكم فيها على ما يكره فيغضبه ذلك وأول من يعلم غضبه العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة ثم ينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا سمع صوته فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة فتلك ست ساعات ثم يؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله في كتابه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال هذا شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى" قال الطبراني ثنا بشر بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق أنا حماد بن سلمة عن أبي عبد السلام عن عبد الله أو عبيد الله ابن مكرز عن ابن مسعود فذكره وقال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن أبي عبد السلام عن أيوب بن عبيد الله الفهري أن ابن مسعود قال: "أن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.." فذكر الحديث إلى قوله "فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة" فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري عند تعلق النفس به والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والأرض والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته وحكمته وزيادة تعريف لملائكته وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه وقد قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فتستنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه فيثبت الله تعالى منه ما فيه ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو وذكر ابن مردويه في تفسيره من طرق إلى بقية عن أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه أن أول خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول من بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عند الذكر وقال اقرؤا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه وقال آدم ثنا ورقاء عن عطاء بن السائب عن مقسم عن ابن عباس إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب وفي تفسير الأشجع عن سفيان عن منصور عن مقسم عن ابن عباس قال كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ثم بعث الحفظة على آدم وذريته وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد ثم قرأ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات تنزل من السماء كل غداة وعشية ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل والذي يغرق والذي يقع من فوق بيت والذي يتردى من جبل والذي يقع والذي يحرق بالنار فيحفظوا عليه ذلك كله وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم.

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه