شفاء العليل/الباب الرابع عشر


الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال ومراتبهما والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

هذا المذهب هو قلب أبواب القدر ومسائله فإن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجل ما يقسمه له الهدى وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال وكل نعمة دون نعمة الهدى وكل مصيبة دون مصيبة الضلال وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد وأن العبد هو الضال أو المهتدي فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه ولا بد قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن فأما مراتب الهدى فأربعة:إحداها: الهدى العام وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها وهذا أعم مراتبه، المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده وهذا خاص بالمكلفين وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى وأعم من الثالثة، المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.

فصل: فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فذكر سبحانه أربعة أمور عامة الخلق والتسوية والتقدير والهداية وجعل التسوية من تمام الخلق والهداية من تمام التقدير قال عطاء "خلق فسوى أحسن ما خلقه وشاهده قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} فإحسان خلقه يتضمن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخل بالتناسب والاعتدال فالخلق الإيجاد والتسوية إتقانه وإحسان خلقه" وقال الكلبي "خلق كل ذي روح فجمع خلقه وسواه باليدين والعينين والرجلين" وقال مقاتل" خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق" وقال أبو إسحاق "خلق الإنسان مستويا" وهذا تمثيل وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وقال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} فالتسوية شاملة لجميع مخلوقاته: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق فإن التسوية أمر وجودي تتعلق بالتأثير والإبداع فما عدم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير فتأمل ذلك فإنه يزيل عنك الإشكال في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية كما أن الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها وتمام هذا يأتي إن شاء الله في باب دخول الشر في القضاء عند قول النبي : "والشر ليس إليك" والمقصود أن كل مخلوق فقد سواه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه وإن فاتته التسوية من وجه آخر لم يخلق له

فصل: وأما التقدير والهداية فقال مقاتل "قدر خلق الذكر والأنثى فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها" وقال ابن عباس والكلبي وكذلك قال عطاء "قدر من النسل ما أراد ثم هدى الذكر للأنثى" واختار هذا القول صاحب النظم فقال: "معنى هدى هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها" لأن إتيان ذكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيآت فلولا أنه سبحانه جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك وقال مقاتل أيضا: "هداه لمعيشته ومرعاه" وقال السدي: "قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج" وقال مجاهد: "هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة" وقال الفراء: "التقدير فهدى وأضل فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر" قلت: الآية أعم من هذا كله وأضعف الأقوال فيها قول الفراء إذا المراد هاهنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه ليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته وهو نظير قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج والهداية التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه وما ذكر مجاهد فهو تمثيل منه لا تفسير مطابق للآية فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه طيره ودوابه فصيحه وأعجمه وكذلك قول من قال أنه هداية الذكر لإتيان الأنثى تمثيل أيضا وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله وكذلك قول من قال هداه للمرعى فإن ذلك من الهداية فإن الهداية إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان كهداية النحل إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يغرس بنو آدم وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أن لها أميرا ومدبرا وهو اليعسوب وهو أكبر جسما من جميع النحل وأحسن لونا وشكلا وإناث النحل تلد في إقبال الربيع وأكثر أولادها يكن إناثا وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها بل إما أن تطرده وإما أن تقتله إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك وذلك أن الذكر منها لا تعمل شيئا ولا تكسب ثم تجمع الأمهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المزوج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها فيجتني منها كفايتها فيرجع بها الملك فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها ولم يدع ذكرا ولا نحلة غريبة تدخلها فإذا تكامل دخولها دخل بعدها وتواجدت النحل على مقاعدها وأماكنها فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلمها إياه فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه ويترك الملك العمل ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار ثم تقتسم النحل فرقا فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب وهم حاشية الملك من الذكورة ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه والشمع هو ثفل العسل وفيه حلاوة كحلاوة التين وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها وفرقة تبني البيوت وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال وتعديهن ببطالتها ومهانتها وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته فيبنى له بيتا مربعا يشبه السرير والتخت فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه ويجعل النحل بين يديه شيئا يشبه الحوض يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ويملأ منه الحوض يكون ذلك طعاما للملك وخواصه ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال وتبنى بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع كأنها قرأت كتاب أقليدس حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلا مستديرا كاستدارة الرحى ولا يبقى فيه فروج ولا خلل ويشد بعضه بعضا حتى يصير طبقا واحدا محكما لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين إحداهما: أن لا يكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلا الثانية: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض وامتلأت العرصة منها فلا يبقى منها ضائعا ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط فإن المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها بل يبقى فيما بينها فروج خاليه ضائعة وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين فهداها سبحانه على بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطر ولا آلة ولا مثال يحتذى عليه وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتها ذللا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهلا وجبلا فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار وورق الأشجار فترجع بطانا وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جنته فتعيده حلاوة ونضجا ثم تمجه في البيوت حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفى فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته فاتخذت فيه بيوتا وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى فإذا برد الهوى وأخلف المرعى وحيل بينها وبين الكسب لزمت بيوتها واغتذت بما ادخرته من العسل وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح في المراتع وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل فإذا أمست رجعت إلى بيوتها وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بواب منها ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها فإن وجد منها رائحة منكرة أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول وعزلها ناحية إلى أن يدخل الجميع فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانية فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو نجس قده نصفين ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية هذا دأب البواب كل عشية وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرا إذا اشتهى التنزه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم يعود إلى مكانه ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه فيغضب ويخرج من الخلية ويتباعد عنها ويتبعه جميع النحل وتبقى الخلية خالية فإذا رأى صاحبها ذلك وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل فيعرفه باجتماع النحل إليه فإنها لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودا وهو إذا خرج غضبا جلس على مكان مرتفع من الشجرة وطافت به النحل وانضمت إليه حتى يصير كالكرة فيأخذ صاحب النحل رمحا أو قصبة طويلة ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ويدنيه إلى محل الملك ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك فإذا رضي وزال غضبه طفر ووقع على الضغث وتبعه خدمه وسائر النحل فيحمله صاحبه إلى الخلية فينزل ويدخلها هو وجنوده ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ولا تدين لطاعتها والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا وإذا فعلت ذلك جاد العسل وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلها خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم وبينها وبين العسالة حرب فهي تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها وتقصد هلاكها والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل فلا تقدر على الطيران ولا يفلت منها الآكل طويل العمر فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها وألقتها خارج الخلية وقد ذكرنا ان الملك لا يخرج إلا في الأحايين وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشبان وإذا عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم الفراخ وينزلها منازلها ويرتبها فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبره معهن لا يخرجن عنه وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يتطلبن الملك فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ ولا يقتل ملك منها ملكا آخر لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية وخاف من تفرق النحل بسببهم احتال عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحدا ويحبس الباقي عنده في إناء ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث مرض أو موت أو كان مفسدا فقتلته النحل أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدا وجعله مكانه لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتت أمرها ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج متنزها ومعه الأمراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة فالكرام دائما تطردها وتنفيها عن الخلية ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ولذلك لا تلقي زبلها إلا حين تطير وتكره النتن والروائح الخبيثة وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا من الكبار وأقل لسعا وأجود عسلا ولسعها إذا لسعت أقل ضررا من لسع الكبار ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه قد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته لما لم يشركها فيه غيرها وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام كان أكثر الحيوان أعداء وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم

فصل: وهذه النمل من أهدى الحيوانات وهدايتها من أعجب شيء فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها لطريق فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوما ذا شمس فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها ثم أعادته إليها ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ثم أتت بالاسم المبهم ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة للعموم ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول وهو خشية أن يصيبهم معرة الجيش فيحطمهم سليمان وجنوده ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك وهذا من أعجب الهداية وتأمل كيف عظم الله سبحانه شأن النمل بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ثم قال: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ودل على أن ذلك الوادي معروفا بالنمل كوادي السباع ونحوه ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنا لا يدخل عليهم فيه سواهم ثم قالت لا يحطمنكم سليمان وجنوده فجمعت بين اسمه وعينه وعرفته بهما وعرفت جنوده وقائدها ثم قالت وهم لا يشعرون فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ويدخلوا مساكنهم ولذلك تبسم نبي الله ضاحكا من قولها وأنه لموضع تعجب وتبسم وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن رسول الله : "نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد والصرد" وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: "نزل بني من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج وأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح فهلا نملة واحدة" وذكر هشام بن حسان: "أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدة فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند تنورين فجلس عليه ثم تشهد ثم قال لتنتهن أو ليحرقن عليكن ونفعل ونفعل قال فذهبن" وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير قال قال أبو موسى الأشعري: "إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سماواته على عرشه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون فأذاهم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو مستلقية على ظهرها فقال ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم" ولهذا الأثر عدة طرق ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره وقال الإمام أحمد حدثنا قال: "خرج سليمان بن داؤد يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنا عن سقياك ورزقك فأما أن تسقينا وترزقنا وإما أن تهلكنا فقال ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" ولقد حدثني أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة فحاولت أن تحمله فلم تطق فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها قال فرفعت ذلك من الأرض فطافت في مكانه فلم تجده فانصرفوا وتركوها قال فوضعته فعادت تحاول حمله فلم تقدر فذهبت وجاءت بهم فرفعته فطافت فلم تجده فانصرفوا قال فعلت ذلك مرارا فلما كان في المرة الأخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها وقطعوها عضوا عضوا قال شيخنا وقد حكيت له هذه الحكاية فقال هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب والنمل من أحرص الحيوان ويضرب بحرصه المثل ويذكر أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة وسألها كم تأكل النملة من الطعام كل سنة قالت ثلاث حبات من الحنطة فأمر بإلقائها في قارورة وسد فم القارورة وجعل معها ثلاث حبات حنطة وتركها سنة بعد ما قالت ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة فوجد حبة ونصف حبة فقال أين زعمك أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات فقالت: نعم ولكن لما رأيتك مشغولا بمصالح أبناء جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة فاقتصرت على نصف القوت واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي فعجب سليمان من شدة حرصها وهذا من أعجب الهداية والعطية ومن حرصها أنها تكد طوال الصيف وتجمع للشتاء علما منها بإعواز الطلب في الشتاء وتعذر الكسب فيه وهي على ضعفها شديدة القوى فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها وتجره إلى بيتها ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو كزبرة يابس فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف من النمل يحتملونه فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع فتأتي من مكان بعيد إلى موضع أكل فيه الإنسان وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره فتحلمه وتذهب به وإن كان أكبر منها فإن عجزت عن حمله ذهبت إلى حجرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها فجاؤا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضا حتى يتساعدوا على حمله ونقله وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها فإن وجدتها حنطة قطعتها ومزقتها وحملتها وإن وجدتها شعيرا فلا ولها صدق الشم وبعد الهمة وشدة الحرص والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن لها رائدا يطلب الرزق فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئا لنفسها دون صواحباتها ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيرا ويملأه ماء ثم يضع فيه ذلك الشيء فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه فيتسلق في الحائط ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء فتلقي نفسها عليه وجربنا نحن ذلك وأحمى صانع مرة طوقا بالنار ورماه على الأرض ليبرد واتفق أن اشتمل الطوق على نمل فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار فلزم المركز ووسط الطوق وكان ذلك مركزا له وهو أبعد مكان من المحيط.

فصل: وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض لا يراه غيره ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاءه بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال أحطت بما لم تحط به وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به وهو خبر عظيم له شأن فلذلك قال وجئتك من سبأ بنبأ يقين والنبأ هو الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ومعرفته وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التأكيد فقال إني وجدت امرأة تملكهم ثم أخبر عن شأن تلك الملكة وأنها من أجل الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه وأنه عرش عظيم ثم أخبره بما يدعوهم إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله} وحذف أداة العطف من هذه الجملة وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها إيذانا بأنها هي المقصودة وما قبلها توطئة لها ثم أخبر عن المغوي لهم الحامل لهم على ذلك وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله وحده ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخبء في السماوات والأرض وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض قال صاحب الكشاف "وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله فما عمل آدمي عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله".

فصل: وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية حتى قال الشافعي: "أعقل الطير الحمام" وبرد الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها وتنهي الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول والقيمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناء عظيما فيفرقون بين ذكورها وإناثها وقت السفاد وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها والإناث عن ذكورها ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها ويتعرفون صحة طرقها ومحلها لا يأمنون أن تفسد الأنثى ذكرا من عرض الحمام فتعتريها الهجنة والقيمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء بحيث إذا رأوا حماما ساقطا لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها ويعظمون صاحب التجربة والمعرفة وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها ويقولون هو أحن إلى بيته لمكان أنثاه وهو أشد متنا وأقوى بدنا وأحسن اهتداء وطائفة منهم يختار لذلك الإناث ويقولون الذكر إذا سافر وبعد عهده حن إلى الإناث وتاقت نفسه إليهن فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها فيترك المسير ومال إلى قضاء وطره منها وهدايته على قدر التعليم والتوطين والحمام موصوف باليمن والألف للناس ويحب الناس ويحبونه ويألف المكان ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن أساء إليه ويعود إليه من مسافات بعيدة وربما صد فترك وطنه عشر حجج وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعة عاد إليه والحمام إذا أراد السفاد يلطف للأنثى غاية اللطف فيبدأ بنشر ذنبه وإرخاء جناحه ثم يدنو من الأنثى فيهدر لها ويقبلها ويزفها وينتفش ويرفع صدره ثم يعتريه ضرب من الوله والأنثى في ذلك مرسلة جناحها وكتفها على الأرض فإذا قضى حاجته منها ركبته الأنثى وليس ذلك في شيء من الحيوان سواه وإذا علم الذكر أنه أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد يقدم هو والأنثى بطلب القصب والحشيش وصغار العيدان فيعملان منه أفحوصة وينسجانها نسجا متداخلا في الوضع الذي يكون بقدر حيمان الحمامة ويجعلان حروفها شاخصة مرتفعة لئلا يتدحرج عنها البيض ويكون حصنا للحاضن ثم يتعاودان ذلك المكان ويتعاقبان الأفحوص يسخنانه ويطيبانه وينفيان طباعه الأول ويحدثان فيه طبعا آخر مشتقا ومستخرجا من طباع أبدانهما ورائحتهما لكي تقع البيضة إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام ويكون على مقدار من الحر والبرد والرخاوة والصلابة ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ووضعت فيه البيض فإن أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيأته كالمرأة التي تسقط من الفزع فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزالا يتعاقبان الحضن حتى إذا بلغ الحضن مداه وانتهت أيامه انصدع عن الفرخ فأعاناه على خروجه فيبدآن أولا بنفخ الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته علما منهما بأن الحوصلة تضيق عن الغذاء فتتسع الحوصلة بعد التحامها وتنفتق بعد ارتقاقها ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئا فإنها في أول الأمر لا تحتمل الغذاء فيزقانه بلعابهما المختلط بالغذاء وفيه قوى الطعم ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء وأنها تحتاج إلى دفع وتقوية لتكون لها بعض المتانة فيلقطان من الغيطان الحب اللين الرخو ويزقانه الفرخ ثم يزقانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشد ولا يزالان يزقانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ وهو يطلب ذلك منهما حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللقط ويعتاده وإذا علما أن رئته في قويت ونمت وأنهما إن فطماه فطما تاما قوي على اللقط وتبلغ لنفسه ضرباه إذا سألهما الزق ومنعاه ثم تنزع تلك الرحمة العجيبة منهما وينسيان ذلك التعطف المتمكن حين يعلمان أنه قد أطاق القيام بنفسه والتكسب ثم يبتدآن العمل ابتداء على ذلك النظام والحمام يشاكل الناس في أكثر طباعه ومذاهبه فإن من إناثه أنثى لا تريد إلا زوجها وفيه أخرى لا ترد يد لامس وأخرى لا تنال إلا بعد الطلب الحثيث وأخرى تركب من أول وهلة وأول طلب وأخرى لها ذكر معروف بها وهي تمكن ذكرا آخر منها إذا غاب زوجها لم تمتنع ممن ركبها وأخرى تمكن من يغنيها عن زوجها وهو يراهما ويشاهدهما ولا تبالي بحضوره وأخرى تعمط الذكر وتدعوه إلى نفسها وأنثى تركب أنثى وتساحقها وذكر يركب ذكرا ويعسفه وكل حالة توجد في الناس ذكورهم وإناثهم توجد في الحمام وفيها من لا تبيض وإن باضت أفسدت البيضة كالمرأة التي لا تريد الولد كيلا يشغلها عن شأنها وفي إناث الحمام من إذا عرض لها ذكر أي ذكر كان أسرعت هاربة ولا تواتي غير زوجها البتة بمنزلة المرأة الحرة ومنها ما يأخذ أنثى يتمتع بها تم ينتقل عنها إلى غيرها وكذلك الأنثى توافق ذكرا آخر عن زوجها وتنتقل عنه وإن كانوا جميعا في برج واحد ومنها ما يتصالح على الأنثى منها ذكران أو أكثر فتعايرهم كلهم حتى إذا غلب واحد منهم لرفيقه وقهره مالت إليه وأعرضت عن المغلوب وفي الحديث أن النبي : "رأى حمامة تتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانه" ومنها ما يزق فراخه خاصة ومنا ما فيه شفقة ورحمة بالغة يزق فراخه وغيرها ومن عجيب هداها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس لئلا يعرض لها من يصدها ولا يرد مياههم بل يرد المياه التي لا يردها الناس ومن هدايتها أيضا أنه إذا رأى الناس في الهواء عرف أي صنف يريده وأي نوع من الأنواع ضده فيخالف فعله ليسلم منه ومن هدايته أنه في أول نهوضه يغفل ويمر بين النسر والعقاب وبين الرخم والبازي وبين الغراب والصقر فيعرف من يقصده ومن لا يقصده وإن رأى الشاهين فكأنه يرى السم الناقع وتأخذه حيرة كما يأخذ الشاة عند رؤية الذئب والحمار عند مشاهدة الأسد ومن هداية الحمام أن الذكر والأنثى يتقاسمان أمر الفراخ فتكون الحضانة والتربية والكفالة على الأنثى وجلب القوت والزق على الذكر فإن الأب هو صاحب العيال والكاسب لهم والأم هي التي تحبل وتلد وترضع ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ أن رجلا كان له زوج حمام مقصوص وزوج طيار وللطيار فرخان قال ففتحت لهما في أعلى الغرفة كوة للدخول والخروج وزق فراخهما قال فحبسني السلطان فجأة فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام ولم أشك في موتهما لأنهما لا يقدران على الخروج من الكوة وليس عندهما ما يأكلان ويشربان قال فلما خلى سبيلي لم يكن لي هم غيرهما ففتحت البيت فوجدت الفراخ قد كبرت ووجدت المقصوص على أحسن حال فعجبت فما لبث أن جاء الزوج الطيار فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ فزقاهم فانظر إلى هذه الهداية فإن المقصوصبن لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش فعلا كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطيارين فزقاهما كما يزقان فرخيهما ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره قال الجاحظ: "وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار فلم يشك أهل تلك المحلة أنه لم يبق منهم أحد فعمدوا إلى باب الدار فسدوه وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم ففتح الباب فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جراء كلبة قد كانت لأهل الدار فراعه ذلك فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من أطبائها فمصها وذلك أن الصبي لما اشتد جوعه ورأى جراء الكلبة يرتضعون من أطباء الكلبة حبا إليها فعطفت عليه فلما سقته مرة أدامت له ذلك وأدام هو الطلب ولا يستبعد هذا" وما هو أعجب منه فإن الذي هدى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد ثم هداه إلى التقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة كأنه قد قيل له هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفا وفي هدايته للحيوان إلى مصالحة ما هو أعجب من ذلك ومن ذلك أن الديك الشاب إذا لقي حبا لم يأكله حتى يفرقه فإذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق كما قال المدائني "إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبا ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرما فإن الديك الشاب يفرق الحب ليجتمع الدجاج حوله فتصيب منه والهرم قد فنيت رغبته فليس له همة إلا نفسه قال إياس: والديك يأخذ الحبة فهو يريها الدجاجة حتى يلقيها من فيه والهرم يبتلعها ولا يلقيها للدجاجة" وذكر ابن الأعرابي قال: "أكلت حبة بيض مكاء فجعل المكاء يصوت ويطير على رأسها ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها وهمت به ألقى حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت" وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول الأسدي:

إن كنت أبصرتني عيلا ومصطلما فربما قتل المكاء ثعبانا

وهداية الحيوانات إلى مصالح معاشها كالبحر حدث عنه ولا حرج ومن عجيب هدايتها أن الثعلب إذا امتلأ من البراغيث أخذ صوفة بفمه ثم عمد إلى ماء رقيق فنزل فيه قليلا قليلا حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة فيلقيها في الماء ويخرج ومن عجيب أمره أن ذئبا أكل أولاده وكان للذئب أولاد وهناك زبية فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها وحفر فيها سردابا يخرج منه ثم عمد إلى أولاد الذئب فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب فلما أقبل وعرف أنها فعلته هرب قدامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية ثم خرج من السرداب فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده ولم يطق الخروج فقتله أهل الناحية ومن عجيب أمره أن رجلا كان معه دجاجتان فاختفى له وخطف إحداهما وفر ثم أعمل فكرة في أخذ الأخرى فتراأى لصاحبها من بعيد وفي فمه شيء شبيه بالطائر وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفر فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئا فلم يطق فذهب وجاء بضغث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير ففزع منه فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها فعاد لذلك مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى تواظب الطير على ذلك وألفته فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك فدخل فيها وعبر إلى الطير فلم يشك الطير أنه من جنس ما قبله فلم تنفر منه فوثب على طائر منها وعدا به ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لإنسان يريد قتله فرأى معه قوسا وسهما فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه وأقبل نحو الرجل فجعل الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم حتى أعجزه وعاين نفاذ سهمه فصادف من استعان به على طرد الذئب ومن عجيب أمر القرد ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيت في الجاهلية قردا وقردة زينا فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا" فهؤلاء القرود أقاموا حد الله حين عطله بنو آدم وهذه البقر يضرب ببلادتها المثل وقد أخبر النبي : "أن رجلا بينا هو يسوق بقرة إذ ركبها فقالت لم أخلق لهذا فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم قال وبينا رجل يرعى غنما له إذ عدا الذئب على شاة منها فاستنقذها منه فقال الذئب هذه استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم فقال رسول الله أني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم" ومن هداية الحمار الذي هو من أبلد الحيوان أن الرجل يسير به ويأتي به منزله من البعد في ليلة مظلمة فيعرف المنزل فإذا خلى جاء إليه ويفرق بين الصوت الذي يستوقف به والصوت الذي يحث به على السير، ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلا الجرة فنقص وعز عليها الوصول إليه ذهبت وحملت في أفواهها ماء وصبته في الجرة حتى يرتفع الزيت فتشربه والأطباء تزعم أن الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار إذا تعسر عليه الذرق جاء إلى البحر المالح وأخذ بمنقاره منه واحتقن به فيخرج الذرق بسرعة وهذا الثعلب إذا اشتد به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة فتتداوله الطير فلا يظهر حركة ولا نفسا فلا تشك أنه ميت حتى إذا نقر بمنقاره وثب عليها فضمها ضمة الموت وهذا ابن عرس والقنفذ إذا أكلا الأفاعي والحيات عمدا إلى الصتر النهري فأكلاه كالترياق لذلك ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قلبه لظهره لأجل شوكه فيجتمع القنفذ حتى يصير كبة شوك فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى فكيه فإذا أصابه البول اعتراه الأسر فانبسط فيسلخه الثعلب من بطنه ويأكل مسلوخه وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} قال أبو جعفر الباقر والله ما اقتصر على تشبههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلا منها فمن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياما تهرب به من الذر والنمل لأنها تضعه كقطعة من لحم فهي تخاف عليه الذر والنمل فلا تزال ترفعه وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد وقال ابن الأعرابي: "قيل لشيخ من قريش من علمك هذا كله وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب قال: علمني الله ما علم الحمامة تقلب بيضها حتى تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من حضانتها ولخوف طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد" وقيل لآخر: "من علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها قال: من علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ثم تصعد ثم تسقط مرارا عديدة حتى تستمر صاعدة" وقيل لآخر: "من علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به قال من علم الطير تغدو خماصا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض" وقيل لآخر: "من علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته فقال الذي علم السهر أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك ولا تتلوى ولا تختلج كأنها ميتة حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد" وقيل لآخر: "من علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون قال من علم أبا أيوب صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة والمشي والتعب وغلظة الجمال وضربه فالثقل والكل على ظهره ومرارة الجوع والعطش في كبده وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه ولا يعدل به ذلك عن الصبر" وقيل لآخر: "من علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل قال من علم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها فلا يأكلها بل يستدعي الدجاج ويطلبهن طلبا حثيثا حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به وإذا وضع له الحب الكثير فرقه هاهنا وهاهنا وإن لم يكن هناك دجاج لأن طبعه قد ألف البذل والجود فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام" وقيل لآخر: "من علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله قال من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها وهي أكثر من أن تذكر" ومن علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب عفى أثر مشيته بذنبه ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه لأن اللبؤة تضعه جروا كالميت فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع ومن علم الأسد أن يخضع للبر ويذل له إذا اجتمعا حتى ينال منه له ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى عليه شيء من السباع دعا الأسد فأجابه إجابة المملوك لمالكه ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنيه فإذا أراد السباع ذلك أذعنت له بالطاعة والخضوع ومن علم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره ويختلس نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ فيظن الظان أنه ميتة فيقع عليه فيثب على من انقضى عمره منها ومن علمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم ومن علم الدب إذا أصابه كلم أن يأتي إلى نبت قد عرفه وجهله صاحب الحشائش فيتداوى به فيبرأ ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان وهي عالية فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق فتأتي ما وسطها تضعه فيه فيكون كالفراش اللين والوطاء الناعم ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر ومن علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره والذكر من الأنثى فيقصد الذكر مع علمه بأن عدوه أشد وأبعد وثبة ويدع الأنثى على نقصان عدوها لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطا أو شوطين حقن ببوله وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو فيقل عدوه فيدركه كالكلب وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج فيدوم عدوها ومن علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف فيعلم أن تحته جحر الأرنب فينبشه ويصطادها علما منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبا بين عينيه فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها وفتح النائمة حتى قال بعض العرب:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

ومن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم ويحدثون له قوة وهمة وحركة حتى يطير معهم قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فلا يطير وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئا فلا يتحرك فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي ومن علم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش وأن يقيما له حروفا تشبه الحائط ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى ثم يقلبان البيض في الأيام ومن قسم بينهما الحضانة والكد فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى وأكثر ساعات جلب القوت على الأب وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا فيه نفخا متداركا حتى تتسع حوصلته ثم يزقانه اللعاب أو شيئا قبل الطعام وهو كاللبا للطفل ثم يعلمانه احتياج الحوصلة إلى دباغ فيزقانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب تندبغ به الحوصلة فإذا اندبغت زقاه الحب فإذا علما أنه أطاق اللقط منعاه الزق على التدريج فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه ومن علمهما إذا أراد السفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء فتتطارد له الأنثى قليلا لتذيقه حلاوة المواصلة ثم تطيعه في نفسها ثم تمتنع بعض التمنع ليشتد طلبه وحبه ثم تتهادى وتتكسل وتريه معاطفها وتعرض محاسنها ثم يحدث بينهما من التغزل والعشق والتقبيل والرشف ما هو مشاهد بالعيان ومن علم المرسلة منها إذا سافرت ليلا أن تستدل ببطون الأودية ومجاري المياه والجبال ومهاب الريح ومطلع الشمس ومغربها فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلت فإذا عرفت الطريق مرت كالريح ومن علم اللبب وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه فيرى الذبابة أنه لاه عنها ثم يثب عليها وثوب الفهد ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة وتجعل في أعلاها خيطا ثم تتعلق به فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها ومن علم الظبي أنه لا يدخل كناسة إلا مستدبرا ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخشفه ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود ثم يشير إليها بالرجوع وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ويعمقه ثم يتخذ في زواياه أبوابا عديدة ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة علامة له على البيت إذا ضل عنه ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ثم يظهر ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح وأكثر من الحركة ليشتد لحمه ويزول السمن المانع له من العدو وهذا باب واسع جدا ويكفي فيه قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ الله يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقد قال النبي : "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" وهذا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون إخبارا عن أمر غير ممكن فعله وهو أن الكلاب أمة لا يمكن إفناؤها لكثرتها في الأرض فلو أمكن إعدامها من الأرض لأمرت بقتلها والثاني: أن يكون مثل قوله: "أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح" فهي أمة مخلوقة بحكمة ومصلحة فإعدامها وإفناؤها يناقض ما خلقت لأجله والله أعلم بما أراد رسوله قال ابن عباس في رواية عطاء: ": {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني" مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} ومثل قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ويدل على هذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابّ} وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} ويدل عليه قوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} ويدل عليه قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل} وقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} وقول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} وقال مجاهد: "أمم أمثالكم أصناف مصنفة تعرف بأسمائها" وقال الزجاج: "أمم أمثالكم في أنها تبعث" وقال ابن قتيبة: "أمم أمثالكم في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك" وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم" فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمه لم يحفظ واحدة منها وإن أخطأ رجل ترواه وحفظه قال الخطابي: "ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة" وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعا لظاهره وجب المصير إلى باطنه وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة وعدم من جهة النطق والمعرفة فوجب أن يكون منصرفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك انتهى كلامه والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبا محتالا وبعضها متوكلا غير محتال وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقا مضمونا وأمرا مقطوعا وبعضها يدخر وبعضها لا تكسب له وبعض الذكورة يعول ولده وبعضها لا يعرف ولده البتة وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه وجعل بعض الحيوانات يتمها من قبل أمهاتها وبعضها يتمها من قبل آبائها وبعضها لا يلتمس الولد وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكره وبعضها ليس ذلك عنده شيئا وبعضها يؤثر على نفسه وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدا يدنو منه وبعضها يحب السفاد ويكثر منه وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة وبعضها يقتصر على أنثاه وبعضها لا يقف على أنثى ولو كانت أمه أو أخته وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها وبعضها لا ترد يد لامس وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار وبعضها لا يأكل إلا الطيب وبعضها لا يأكل إلا الخبائث وبعضها يجمع بين الأمرين وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها وبعضها يؤذي من لا يؤذيها وبعضها حقود لا تنسى الإساءة وبعضها لا يذكرها البتة وبعضها لا يغضب وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها مع الطول وبعضها لا يقبل ذلك بحال وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى وأن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.

فصل: فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع وهو الكلام على الهداية العامة التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال مجاهد: "أعطى كل شيء خلقه لم يعط الإنسان خلق البهائم ولا البهائم خلق الإنسان" وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى قال عطية ومقاتل: "أعطى كل شيء صورته" وقال الحسن وقتادة: "أعطى كل شيء صلاحه" والمعنى أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له ثم هداه لما خلق له وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين فيكون نظير قوله: {قَدَّرَ فَهَدَى} وقال الكلبي والسدي: "أعطى الرجل المرأة والبعير الناقة والذكر الأنثى من جنسه" ولفظ السدي: "أعطى الذكر الأنثى مثل خلقه ثم هدى إلى الجماع" وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء قال الفراء: "أعطى الذكر من الناس امرأة مثله والشاة شاة والثور بقرة ثم ألهم الذكر كيف يأتيها" قال أبو إسحاق: "وهذا التفسير جائز لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله فألهمه الله ذلك وهداه إليه" قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه وقوله أعطى كل شيء يأبى هذا التفسير فإن حمل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع لا وجه له وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن ومن لم يتزوج من بني آدم ومن لم يسافد من الحيوان وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقا له وأين نظير هذا في القرآن وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه وذكره بأدل عبارة عليه وأوضحها فقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُْثَى} فحمل قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} على هذا المعنى غير صحيح فتأمله وفي الآية قول آخر قاله الضحاك قال: "أعطى كل شيء خلقه أعطى اليد البطش والرجل المشي واللسان النطق والعين البصر والأذن السمع" ومعنى هذا القول أعطى كل عضو من الأعضاء ما خلق له والخلق على هذا بمعنى المفعول أي أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله أودعها الأعضاء وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه لكن معنى الآية أعم والقول هو الأول وأنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه المختص به ثم هداه لما خلق له ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه عدل إلى سؤال فاسد عن وارد فقال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} أي فما للقرون الأولى لم تقر بهذا الرب ولم تعبده بل عبدت الأوثان والمعنى لو كان ما تقوله حقا لم يخف على القرون الأولى ولم يهملوه فاحتج عليه بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين فعارضه عدو الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين وهذا شأن كل مبطل ولهذا صار هذا ميزانا في ورثته يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال الزنادقة والملاحدة وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة ومبتدعة الأمة وأهل الضلال منهم فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب فيجازيهم عليه يوم القيامة ولم يودعه في كتاب خشية النسيان والضلال فإنه سبحانه لا يضل ولا ينسى وعلى هذا فالكتاب ها هنا كتاب الأعمال وقال الكلبي: "يعني به اللوح المحفوظ" وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق والمعنى على هذا أنه سبحانه قد علم أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها فيكون هذا من تمام قوله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فتأمله.

فصل: وهو سبحانه في القرآن كثيرا ما يجمع بين الخلق والهداية كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الآيات ثم قال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني فهذا خلقه وهذا هداه وتعليمه.

فصل: المرتبة الثانية من مراتب الهداية هداية الإرشاد والبيان للمكلفين وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتّباع الحق وإن كانت شرطا فيه أو جزء سبب وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب بل قد يتخلف عنه المقتضى إما لعدم كمال السبب أو لوجود مانع ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه فأعماهم عنه بعد أن أراهموه وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها وقال: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ونفى عنه ملك الهداية الموجبة وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} ولهذا قال : "بعثت داعيا ومبلغا وليس إليّ من الهداية شيء وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء" قال تعالى: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فجمع سبحانه بين الهداء يتبين العامة والخاصة فعم بالدعوة حجة مشيئة وعدلا وخص بالهداية نعمة مشيئة وفضلا وهذه المرتبة أخص من التي قبلها فأنها هداية تخص المكلفين وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه قيل حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى وبيان الرسل لهم وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانا وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرا وباطنا ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه نعم قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه فتأمل هذا الموضع واعرف قدره والله المستعان.

فصل: المرتبة الثالثة من مراتب الهداية هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل وهذه المرتبة أخص من التي قبلها وهي التي ضل جهال القدرية بإنكارها وصاح عليهم سلف الأمة وأهل السنة منهم من نواحي الأرض عصرا بعد عصر إلى وقتنا هذا ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم كما ظلموا أنفسهم بإنكار الأسباب والقوى وإنكار فعل العبد وقدرته وأن يكون له تأثير في الفعل البتة فلم يهتدوا لقول هؤلاء بل زادهم ضلالا على ضلالهم وتمسكا بما هم عليه وهذا شأن المبطل إذا دعى مبطلا آخر إلى ترك مذهبه لقوله ومذهبه الباطل كالنصراني إذا دعى اليهودي إلى التثليث وعبادة الصليب وأن المسيح إله تام غير مخلوق إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه وهذه المرتبة تستلزم أمرين أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي والعبد المهتدي قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ} ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له ولو حرص عليه ولا إلى أحد غير الله وأن الله سبحانه إذا أضل عبدا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ الله فَلا هَادِيَ لَهُ} وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ الله يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقال: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} وقال: {فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} ولم يريدوا أن بعض الهدى منه وبعضه منهم بل الهدى كله منه ولولا هدايته لهم لما اهتدوا وقال تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقال تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو} وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وقال: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كل يوم وليلة في الصلوات الخمس وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط والهداية فيه كما أن الضلال نوعان ضلال عن الصراط فلا يهتدي إليه وضلال فيه فالأول ضلال عن معرفته والثاني ضلال عن تفاصيله أو بعضها قال شيخنا: "ولما كان العبد في كل حال مفتقرا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية فهو محتاج إلى التوبة منها وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها أو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها ليزداد هدى وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية إلى غير ذلك من أنواع الهدايات فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله وهي الصلاة مرات متعددة في اليوم والليلة" انتهى كلامه ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده وتنزيله عن غيرها ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها وأوقات السير من غيره وزاد المسير وآفات الطريق ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} قال: "سبيلا وسنة" وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير فالسبيل الطريق وهي المنهاج والسنة الشرعة وهي تفاصيل الطريق وحزوناته وكيفية المسير فيه وأوقات المسير وعلى هذا فقوله سبيلا وسنة يكون السبيل المنهاج والسنة الشرعة فالمقدم في الآية للمؤخر في التفسير وفي لفظ آخر سنة وسبيلا فيكون المقدم للمقدم والمؤخر للتالي.

فصل: ومن هذا إخباره سبحانه بأنه طبع على قلوب الكافرين وختم عليها وأنه أصمها عن الحق وأعمى أبصارها عنه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} والوقف التام هنا ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} كقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمى} فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} قرأها الكوفيون وصد بضم الصاد حملا على زين وقال تعالى: {إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وقال: {وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ومعلوم أنه لم ينف هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة فإنه حجته على عباده، والقدرية ترد هذا كله إلى المتشابه وتجعله من متشابه القرآن وتتأوله على غير تأويله بل تتأوله بما يقطع ببطلانه وعدم إرادة المتكلم له كقول بعضهم المراد من ذلك تسمية الله العبد مهتديا وضالا فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك وهذا مما يعلم قطعا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه وأنت إذا تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة وليس في لغة أمة من الأمم فضلا عن أفصح اللغات وأكملها هداه بمعنى سماه مهتديا وأضله سماه ضالا وهل يصح أن يقال علمه إذا سماه عالما وفهمه إذا سماه فهما وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاء} فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا ليس عليك تسميتم مهتدين ولكن الله يسمي من يشاء مهتديا وهل فهم أحد قط من قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} لا تسميه مهتديا ولكن الله يسميه بهذا الاسم وهل فهم أحد من قول الداعي اهدنا الصراط المستقيم وقوله اللهم اهدني من عندك ونحوه اللهم سمني مهتديا وهذا من جناية القدرية على القرآن ومعناه نظير جناية إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات وتحريفها عن مواضعها وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم فتأويل التحريف الذي سلسلته هذه الطوائف أصل فساد الدنيا والدين وخراب العالم وسنفرد إن شاء الله كتابا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين وأنت إذا وازيت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة من القرامطة الباطنية وأمثالهم كبير فرق والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى فتتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس والألغاز مع القول عليه بلا علم أنه أراد هذا المعنى فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا واستعمال المتكلم له في ذلك المعنى في أكثر المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه وعليه أن يقيم دليلا سالما عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل، وتأويل بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة وهذا التأويل من أبطل الباطل فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين قسما لا يقدر عليه غيره وقسما مقدورا للعباد فقط في القسم المقدور للغير: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال في غير المقدور للغير: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقال: {مَنْ يُضْلِلِ الله فَلا هَادِيَ لَهُ} ومعلوم قطعا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه وكذلك قوله: {فَإِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان فإن هذا يهدى وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله: {وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله} هل يجوز حمله على معنى فمن يدعوه إلى الهدى ويبين له ما تقوم به حجة الله عليه وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال فإن قالوا ليس ذلك معناها وإنما معناها الفاهم ووجدهم كذلك أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم أو جعل على قلوبهم علامة يعرف الملائكة بها أنهم ضلال قيل هذا من جنس قولكم إن هداه سبحانه وإضلاله بتسميتهم مهتدين وضالين فهذه أربع تحريفات لكم وهو أنه سماهم بذلك وعلمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة وأخبر عنهم بذلك ووجدهم كذلك فالإخبار من جنس التسمية وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى وأما العلامة فيا عجبا لفرقة التحريف وما جنت على القرآن والإيمان ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} على معنى أنك لا تعلمه بعلامة ولكن الله هو الذي يعلمه بها وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ الله فَلا هَادِيَ لَهُ} من يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} لعلمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها وفي أي لغة يفهم من قول الداعي اهدنا الصراط المستقيم علمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون وقولهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا لا تعلمها بعلامة أهل الزيغ وقوله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وأمثال ذلك من النصوص ففي أي لغة وأي لسان يفهم من هذا علمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة} علمناها بعلامة القسوة أو وجدناها كذلك نعم لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لأمكن حمله على ذلك أو كان الحق تبعا لأهوائهم وكانت نصوصه تبعا لبدع المبتدعين وآراء المتحيرين وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبهم وبدعها وآرائها فالقرآن عند الجهمية جهمي وعند المعتزلة معتزلي وعند القدرية قدري وعند الرافضة رافضي وكذلك هو عند جميع أهل الباطل: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى ألفاهم ووجدهم ففي أي لسان وأي لغة وجدتم هديت الرجل إذا وجدته مهتديا وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة فإن قالوا نحن لم نقل هذا في نحو ذلك وإنما قلناه في نحو أضله الله أي وجده ضالا كما يقال أحمدت الرجل وأبخلته وأجننته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه فيقال لفرقة التحريف هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته وقعد وأقعدته وذهب وأذهبته وسمع وأسمعته ونام وأنمته وكذا ضل وأضله الله وأسعده وأشقاه وأعطاه وأخزاه وأماته وأحياه وأزاغ قلبه وأقامه إلى طاعته وأيقظه من غفلته وأراه آياته وأنزله منزلا مباركا وأسكنه جنته إلى أضعاف ذلك هل تجد فيها لفظا واحدا معناه أنه وجده كذلك تعالى الله عما يقول المحرفون ثم انظر في كتاب فعل وافعل هل تظفر فيه بأفعلته بمعنى وجدته مع سعة الباب إلا في الحرفين أو الثلاثة نقلا عن أهل اللغة ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة أن العرب وضعت أضله الله وهداه وختم على سمعه وقلبه وأزاغ قلبه وصرفه عن طاعته ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ولم يقل وأضلك وقال في حق من خالف الرسول وكفر بما جاء به وأضله على علم ولم يقل ووجده الله ضالا ثم أي توحيد تمدح وتعريف للعباد أن الأمر كله لله وبيده وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة الرب تعالى عباده كذلك ووجوده لهم على هذا الصفات من غير أن يكون له فيها صنع أو خلق أو مشيئة وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود كذلك فأي مدح وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك فأنتم وإخوانكم من الجبرية لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يمدح به ولم تثنوا عليه بأوصاف كماله ولم تقدروه حق قدره وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم ومنهم في باطلكم وباطلهم وهم معكم ومعهم فيما عندكم من الحق لا يتحيزون إلى غير ما بينه الرسول وجاء به ولا ينحرفون عنه نصرة لآراء الرجال المختلفة وأهوائهم المتشتتة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم قال ابن مسعود: "علمنا رسول لله التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا لله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية: {وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}: {اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} الآية" قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن خالد الحذاء عن عبد الأعلى عن عبد الله بن الحارث قال: "خطب عمر بن الخطاب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه وعنده جاثليق يترجم له ما يقول فقال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فنفض جبينه كالمنكر لما يقول قال عمر: ما يقول قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا قال عمر: كذبت أي عدو الله بل الله خلقك وقد أضلك ثم يدخلك النار أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون فقال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر".

فصل: المرتبة الرابعة من مراتب الهداية الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فهذه هداية بعد قتلهم فقيل المعنى سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم وقال ابن عباس سيهديهم إلى أرشد الأمور ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا واستشكل هذا القول لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنهم سيهديهم واختاره الزجاج وقال: "يصلح بالهم في المعاش وأحكام الدنيا" قال: "وأراد به يجمع لهم خير الدنيا والآخرة" وعلى هذا القول فلا بد من حمل قوله قتلوا في سبيل الله على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال./43)

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه