كتاب الأم/أحكام التدبير/الخلاف في التدبير
[قال الشافعي]: رضي الله تعالى عنه: فخالفنا بعض الناس وأجرى في المدبر خلافا سأحكي بعضه إن شاء الله تعالى فقال لي بعض من خالفنا فيه: على أي شيء اعتمدت في قولك: المدبر وصية يرجع فيه صاحبه متى شاء؟ قلت: على سنة رسول الله ﷺ التي قطع الله بها عذر من علمها: قال فعندنا فيه حجة، قلنا: فاذكرها. قال: ألا ترى أن النبي ﷺ في حديثكم باعه ولم يسأله صاحبه بيعه؟ قلت: العلم يحيط أن رسول الله ﷺ كان لا يبيع على أحد ماله إلا فيما لزمه أو بأمره؟ قال: فبأيهما باعه؟ قلت: أما الذي يدل عليه آخر الحديث في دفعه إياه إلى صاحبه الذي دبره فإنه دبره وهو يرى أنه لا يجوز له بيعه حين دبره وكان يريد بيعه إما محتاجا وإما غير محتاج، فأراد الرجوع فذكر النبي ﷺ فباعه، وكان في بيعه دلالة على أن بيعه جائز له إذا شاء، وأمره إن كان محتاجا أن يبدأ بنفسه فيمسك عليها يرى ذلك لئلا يحتاج إلى الناس، قال: فإن قال قائل: فإنا روينا عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ إنما باع خدمة المدبر.
[قال الشافعي]: فقلت له: ما روى هذا أحد عن أبي جعفر فيما علمت يثبت حديثه، ولو رواه من يثبت حديثه ما كان لك فيه حجة من وجوه. قال: وما هي؟ قلت: أنت لا تثبت المنقطع لو لم يخالفه غيره، فكيف تثبت المنقطع يخالفه المتصل الثابت؟ قال: فهل يخالفه؟ قلت: ليس بحديث، وأحتاج إلى ذكره فأذكره على ما فيه، قال: لو ثبت كان يجوز أن أقول: باع النبي ﷺ رقبة مدبر كما حدث جابر وخدمة مدبر كما حدث محمد بن علي.
[قال الشافعي]: فإن قلت: إنه يخالفه، قلت: هو أدل لك على أن حديثك حجة عليك، قال: وكيف؟ قلت: إن كان محمد بن علي قال للمدبر الذي روى جابر أن النبي ﷺ باع رقبته إنما باع النبي ﷺ خدمته كما قلت فغلط من قال باع رقبته بما بين الخدمة والرقبة كنت خالفت حديثنا وحديث محمد بن علي، قال: وأين؟ قلت: أتقول: إن بيعه خدمة المدبر جائز، قال: لا؛ لأنها غرر فقلت: فقد خالفت ما رويت عن النبي ﷺ قال: فلعله باعه من نفسه قلت: جابر سمى باعه بثمانمائة درهم من نعيم النحام، ويقول: عبد قبطي يقال له يعقوب مات عام أول في إمارة ابن الزبير، فكيف يوهم أنه باعه من نفسه؟ وقلت له: روى أبو جعفر: (أن النبي ﷺ قضى باليمين مع الشاهد) فقلت: مرسلا، وقد رواه معه عدد فطرحته وروايته يوافقه عليها عدد. فيها حديثان متصلان، أو ثلاثة صحيحة ثابتة وهو لا يخالفه فيه أحد برواية غيره وأردت تثبت حديثا رويته عن أبي جعفر يخالفه فيه جابر عن النبي ﷺ ما أبعد ما بين أقاويلك، وقلت له: وأصل قولك أنه لو لم يثبت عن النبي ﷺ فقال بعض أصحاب النبي ﷺ شيئا لا يخالفه فيه غيره لزمك، وقد باعت عائشة مدبرة لها فكيف خالفتها مع حديث النبي ﷺ وأنتم راوون عن أبي إسحاق عن امرأته عن عائشة شيئا في البيوع تزعم وأصحابك أن القياس غيره وتقول: لا أخالف عائشة، ثم تخالفها ومعها سنة رسول الله ﷺ والقياس والمعقول.
[قال الشافعي]: وقلت له: وأنت محجوج بما وصفنا من سنة رسول الله ﷺ التي لا عذر لأحد في تركها ولو لم تكن فيما نثبته محجوجا كنت محجوجا بقول عائشة فيما تزعم أنك تذهب إليه ولو لم يكن لعائشة فيه قول كنت محجوجا بالقياس ومحجوجا بحجة أخرى، قال: وما هي؟ قلت: هل يكون لك أن تقول إلا على أصل، أو قياس على أصل؟ قال: لا، قلت: والأصل كتاب، أو سنة، أو قول بعض أصحاب رسول الله ﷺ أو إجماع الناس، قال: لا يكون أصل أبدا إلا واحدا من هذه الأربعة، قلت: وقولك في المدبر داخل في واحد من هذه الأربعة؟ قال: لا، قلت: أفقياس على واحد منها، قال: أما قياسا في كل شيء فلا، قلت: فمع أي شيء هو قياس؟ قال: إذا حمله الثلث ومات سيده عتق، قلت: نعم بوصيته كعتق غير المدبر، قال: فهو قول أكثر الفقهاء، قلت: بل قول أكثر الفقهاء أن يباع، قال: لسنا نقوله ولا أهل المدينة، قلت جابر بن عبد الله وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن المنكدر وغيرهم يبيعه بالمدينة وعطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم من المكيين وعندك بالعراق من يبيعه وقول أكثر التابعين يبيعه، فكيف ادعيت فيه الأكثر والأكثر من مضى عليك مع أنه لا حجة لأحد مع السنة وإن كنت محجوجا بكل ما ادعيت وبقول نفسك، قال: وأين ذلك من قول نفسي؟ فقلت: أرأيت المدبر لم أعتقه من الثلث وأستسعيه إذا لم يخرج من الثلث أرأيت لو كان العتق له ثابتا كهو لأم الولد ألم تعتقه فارغا من المال ولا تستسعيه أبدا، قال: إنما فعلت هذا؛ لأنه وصية، قلت: أرأيت وصية لا يكون لصاحبها أن يرجع فيها، قال: لا، غير المدبر، قلت: أفيجوز أن تفرق بين الوصايا فتجعل لصاحبها في بعضها الرجوع ولا تجعل له في بعض بلا خبر يلزم فيجوز عليك أن يرجع الموصي في المدبر ولا يرجع في عبد لو أوصى بعتقه غير مدبر، قال: الناس مجتمعون على أنه يرجع في الوصايا ومتفرقون في الوصية في المدبر، قلت: فإن اجتمعوا على أن يكون التدبير وصية على أن له أن يرجع في جميع الوصايا غيره وافترقوا فيه فكيف لم تجعل القول قول الذين قالوا يرجع فيه فتستدل على أن من قال لا يرجع فيه قد ترك أصل قوله في أنه وصية إذا كان يرده فيما سواه من الوصايا.
[قال الشافعي]: ثم ذكرت أن قائل هذا القول يقول: لو قال لعبد إذا مت أنا وفلان فأنت حر كان له أن يبيعه، ولو قال: إذا جاءت السنة فأنت حر كان له أن يرجع فيه، فقلت: فكيف زعمت أن له أن يرجع في هذا ولا يرجع في قوله: إذا مت فأنت حر؟ فقال: ما هما في القياس إلا سواء، والقياس أن يرجع فيه كله؛ لأن أصل الأمر فيه أن هؤلاء مماليك له أوصى لهم بالعتق في وقت لم يقع فنثبت لهم به حرية، قلنا: فهذه الحجة عليك في المدبر قال: وأخرجت المدبر اتباعا، والقياس فيه أن له أن يرجع فيه، قلنا: فمن اتبعت فيه إن كان قال قولك أحد أكثر من سعيد بن المسيب فاذكره، فقد خالفت القياس كما زعمت وخالفت السنة والأثر وأنت تترك على سعيد بن المسيب أقاويل له لا يخالفه فيها أحد وتزعم أن ليست عليك فيه حجة والذين احتججت بموافقتهم من أهل ناحيتنا يخالفونك في. المدبر نفسه فيبيعونه بعد موت سيده إذا كان على سيده دين ولم يدع مالا، قال: هؤلاء باعوه في الحين الذي صار فيه حرا ومنعوه من البيع قبل أن يصير حرا، قلت: ويقولون أيضا إذا كان العبد بين اثنين فدبره أحدهما تقاوماه، فإن صار للذي لم يدبر بطل التدبير، فقال: وهذا أعجب من القول الأول؛ لأنهم أبطلوا التدبير والسيد لا يريد إبطاله وجبروا المالكين على التقاوم وهما لا يريدانه ولا واحد منهما فهذان أبعد قولين قالهما أحد من الصواب، قلت: فإذا كانت حجتك بأن وافقك هؤلاء في معنى من قولك وأنت تستدرك في قولهم ما تقول فيه هذا القول، أفترى فيك وفيهم حجة على أحد لو خالفكم؟ قال: ما فينا حجة على أحد، قلت: ولو لم يكن مع من خالفكم سنة ولا أثر، قال: ولو قلت: فإن الحجة في السنة، قال: الحجة مع من معه السنة، قلت: ولو لم يكن مع من خالفكم سنة كانت الحجة مع من معه الأثر قال: نعم، قلت: فهما معا معنا، قلت: ولو لم يكن أثر كانت الحجة مع من معه القياس؟ قال: نعم، قلت: وأنت وغيرك تشهد لنا أن السنة والأثر والقياس معنا، فكيف ذهبت عن هذا كله؟ فرجع بعض أهل العلم منهم عندهم إلى قولنا في المدبر.
[قال الشافعي]: وأخبرني عن أبي يوسف أنه قال: السنة والأثر والقياس والمعقول قول من قال: يباع المدبر، وما رأيت أشد تناقضا من قولنا فيه ولكن أصحابنا غلبونا، وكان الأغلب من قوله الأكثر لم يرجع عنه مع هذه المقالة، وقد حكي لي عنه أنه اشترى مدبرا وباعه وقال: هذه السنة، والله تعالى أعلم.
[قال الشافعي]: قال لي قائل منهم: لا يشك أهل العلم بالحديث أن إدخال سفيان في حديث عمرو وأبي الزبير فمات فباع النبي ﷺ مدبره غلط، إلا أن الحفاظ كما قلت حفظوه عن عمرو بن دينار وعن أبي الزبير بسياق يدل على أن سيده كان حيا ولو لم يعلم أن مثل هذا غلط لم نعرف غلطا ولا أمرا صحيحا أبدا، ولكن لو كان صحيحا لا يخالفه غيره أن النبي ﷺ باع المدبر بعد موت سيده الذي دبره ما كان القول فيه إلا واحدا من قولين: أحدهما: أن التدبير لا يجوز إذا لم يكن أنه باعه في دين على سيده؛ لأن أقل أمره عندنا وعندك إذا كان التدبير جائزا أن يعتق ثلثه إن لم يكن على سيده دين وهذا أشبه بظاهر الحديث الثاني أن الناس إذا اجتمعوا على إجازة التدبير فلا يكون أن يجهل عامتهم سنة النبي ﷺ فلم يبعه النبي ﷺ وشيء منه يخرج من الثلث وإن لم يكن ذلك مؤدى في الحديث، قال: ولو لم يكن ذلك حجة في المدبر إلا هذا وكان صحيحا أكانت لك الحجة؟ فقلت: نعم، فقال: وما هي؟ قلت: لو باعه النبي ﷺ بعد الموت استدللت على أن الحرية لم تتم فيه وأنه وصية وأن الوصايا تكون من الثلث وذلك أني رأيت أم الولد تعتق فارغة من المال. والمكاتب لا تبطل كتابته بموت سيده، فلما بطلت وصية هذا وجاز بيعه استدللت على أن بيعه في الحياة جائز؛ لأنه وصية من الوصايا له الرجوع فيها كما يرجع في الوصايا وأنه خارج من معنى من يثبت له العتق؛ لأن المكاتب يرق إذا عجز فلا تبطل كتابته حتى يكون يبطلها هو فتبطل بالعجز وكان بسبب من حرية فلم تبطل حتى يبطلها هو ويبطل تدبير المدبر واستدللت على أن المدبر وصية وإن صار إليه عتق فبالوصية لا بمعنى حرية ثابتة.
[قال الشافعي]: وزعم آخر قال: فجملة قوله لا يباع المدبر؛ لأن سيد المدبر إذا ادان دينا يحيط بماله لم يبع مدبره في دينه ولا في جناية لو جناها المدبر؛ لأنه محبوس على أن يموت سيده يعتق بموته، فإن مات سيده وعليه دين بيع في دينه، وكذلك إن كانت على المدبر جناية لم يبع في جنايته، فمنعه من أن يباع وسيده حي قبل أن يقع له العتق وقد يموت المدبر قبل سيده فيموت عبدا؛ لأنه لا يقع عليه العتق عنده إلا بموت سيده، فلما مات سيده وانقضى عنه الرق عنده ووقع عتقه باعه في جناية نفسه ودين سيده، فباعه في أولى حالة أن يمنعه فيها من البيع ومنعه البيع. في أولى حالة أن يبيعه فيها، والله المستعان وإياه أسأل التوفيق.
[قال الشافعي]: فإن قال: فإني إنما بعته بعد موت سيده لأنه مات ولا مال له وإنما هو وصية، ولا تكون الوصايا إلا من الثلث، قيل: فذلك الحجة عليك أن تجعله كالوصايا في أن ترقه إذا لم يخرج من الثلث وتمنع من أن تجعله من الوصايا فتجعل لصاحبه الرجوع فيه كما يرجع في الوصايا، فإن قلت: إن فيه حرية والحرية لا ترد؟ قلت: فقد رددتها حين وقعت وإن اعتللت بإفلاس سيده فقد يفلس وله أم ولد فلا يردها وينفذ عتقها، وقد يفلس وله مكاتب قد كاتبه على نجوم متباعدة فلا تنقض كتابته ولا يرقه بعد موته إلا بما يرقه به في حياته، وقد قلت في أم ولد النصراني تسلم وهي حرة ولم يمت سيدها فيأتي الوقت الذي يقع فيه عتقها حين صار فرجها من سيدها ممنوعا وأنت لا ترعى الاستسعاء بالدين، قالوا: مطلقا لا يباع المدبر، قالوا: هو حر ويسعى في قيمته، وكذلك قالوا في أم ولد النصراني، فقولهم على أصل مذهبهم أشد استقامة من قولك على أصل مذهبك، أفرأيت الرجل إن كان إذا أفلس عبده بمنزلة الميت يباع ماله ويحل ما لم يكن حل من ديونه، فكيف لم يبع مدبره كما باعه بعد الموت وأحل ديونه بعد الموت؟ فإن قال قائل: فقد يفيد مالا، قيل: فلم أرك انتظرت بدين عليه إلى مائة سنة وجعلته حالا بموته. فإن قلت: إنما أحكم عليه حكم ساعته وذلك حكم الموت فكذلك بيع مدبره بإفلاسه وقد يمكن في الموت أن يظهر له مال بعد موته لم يكن عرف فلست أراه ترك إرقاقه بعد الموت بما يمكن ولا بيعه في الحياة في إفلاس صاحبه بحكم ساعته ولا سوى بين حكمه في موت ولا حياة وقد أرقه في الحياة بغير إفلاس ولا رجوع من صاحبه فيه حيث لم يرقه من أرق المدبر ولا أحد غيره؛ لأن من أرقه في الحياة إنما أرقه إذا رجع فيه صاحبه، وقال: إذا كان العبد بين اثنين فدبره أحدهما تقاوماه، فإن صار للذي دبره كان مدبرا كله، وإن لم يشتره الذي دبره انتقض التدبير إلا أن يشاء الذي له فيه الرق أن يعطيه الذي دبره بقيمته فيلزمه ويكون مدبرا.
[قال الشافعي]: ولا يجوز في قوله - والله تعالى أعلم - لا يباع المدبر ما عاش سيده إلا أن يكون مدبرا كله ويضمن الذي دبره لشريكه نصف قيمته؛ لأن التدبير عنده عتق، وكذلك هو عنده لو أعتقه، ولا يجوز في قوله أن ينتقض التدبير؛ لأنه إذا جعل لسيده المدبر نقض التدبير فكيف جعل له نقض التدبير إذا لم يشتر المدبر إن كان إذا نقض التدبير فقد جعله له فأثبت عليه في موضع غيره، وقد ذكرناه وإن كان لم يرد نقضه فقد جعل له نقضه وهو لا يريده، وما معنى يتقاومانه وهما لا يريدان التقاوم ولا واحد منهما؟ ما أعرف ل " يتقاومانه " وجها في شيء من العلم، والله المستعان، والقول فيه في قول من لا يبيعه ما وصفت من أنه مدبر كله وعلى المدبر السيد نصف قيمته. وهكذا قال من قال لا يباع المدبر فأما نحن فإنا إذا جعلنا لسيده نقض تدبيره وبيعه فتدبيره وصية، وهو بحالة مدبر النصف مرقوق النصف للشريك؛ لأنه لم يعتقه فيضمن لشريكه نصف قيمة العبد ويعتق عليه.