كتاب الرد على ابن النغريلة/الصفحة الثانية


الفصل الأول

فكان أول ما اعترض به هذا الزنديق المستسر باليهودية ، على القرآن بزعمه أن ذكر قول لله عز وجل : {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} (النساء: 78) قال هذا المائق الجاهل : فأنكر في هذه الآية تقسيم القائلين بأن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فمن عند محمد ، وأخبر أن كل ذلك من عند الله ؛ قال: ثم قال في آخر هذه الآية: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء: 79) قال هذا الزنديق الجاهل : فعاد مصوباً لقولهم ومضاداً لما قدم في أول الآية .

قال أبو محمد بن حزم : لو كان لهذا الجاهل الوقاح أقل بسطة أو أدنى حظ من التمييز لم يتعرض بهذا الاعتراض الساقط الضعيف ، والآية المذكورة مكتفية بظاهرها عن تكلف تاويل ، مستغنية ببادي ألفاظها عن تطلب وجه لتأليفها ، ولكن جهله أعمى بصيرته وطمس إدراكه .

وبيان ذلك أن الكفار يقولون : إن الحسنات الواصلة إليهم هي من عند الله عز وجل وان السيئات المصيبة لهم في دنياهم هي من عند محمد فأكذبهم الله تعالى في ذلك ، وبين وجه ورود حسنات الدنيا وسيئاتها على كل من فيها بان الحسنات السارة هي من عند الله تعالى بفضله على الناس ، وان كل سيئة يصيب الله تعالى بها إنساناً في دنياه فمن قبل نفس المصاب بها بما يجني على نفسه من تقصيره فيما يلزمه من أداء حق الله تعالى الذي لا يقوم به أحد، وكل ذلك من عند الله تعالى جملة .

فأحد الوجهين وهو : الحسنات فضل من الله تعالى مجرد لم يستحقه أحد على الله تعالى إلا حتى يفضل به عز وجل من احسن إليه من عباده .

والوجه الثاني وهو السيئات تأديب من الله تعالى أوجبه على المصاب بها تقصيره عما يلزمه من واجبات ربه تعالى .

ولا يستوحشن مستوحش فيقول : كيف يكون النبي المخاطب بهذا الخطاب مقصراً في أداء واجب ربه تعالى ؟

فليعلم أن التقصير ليس يكون معصية في كل وقت ، وإنما يكون النبي منزهاً عن تعمد المعصية صغيرها وكبيرها .

وأما تأدية شكر الله تعالى وجميع حقوقه على عباده فهذا ما لا يستوفيه ملك ولا نبي فكيف من دونهما ، كما أخبر رسول الله  : "إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله"

فقيل له: ولا أنت يا رسول الله ؟ فقال  : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" ، أو كما قال .

فإنما أنكر الله تعالى على الكفار في الآية المتلوة آنفاً قولهم للنبي  : عن ما أصابهم من سيئة فهي منك يا محمد ، وأخبر عز وجل أنها من عند أنفسهم ، وأن كل ذلك من عند الله تعالى ؛ فلم يفرق المجنون بين ما أوجبه الله تعالى من أن كل من أصابته سيئة فمن نفسه ، وبين ما ذكر الله تعالى من قول الكفار لمحمد  : إن ما أصابهم من سيئة فمنك يا محمد .

فأي ظلم يكون اعظم من ظلم من جهل أن يفرق بين معنيي هذين اللفظين ؟

وإنما كان الكفار يتطيرون بمحمد عندما يرد عليهم من نكبة تعرض لهم بكفرهم وخلافهم له ، كما تطير إخوانهم قبلهم بموسى إذ قال تعالى حاكياً عنهم قولهم : {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله} (الأعراف: 131) .

وما أرى هذا الزنديق الأنوك إذ اعترض بهذا الاعتراض كان إلا سكران الخمر ، وسكر عجب الصغير إذا كبر ، والخسيس إذا أشر ، والذليل الجائع إذا عز وشبع ، والسفلي إذا أمر وشط ، والكلب إذا دلل ونشط ، فإن لهذه المعاني مسالك خفية في إفساد الأخلاق التي تقرب من الاعتدال .

وكيف بخلق سوء متكرر في الخساسة والهجنة والرذالة والنذالة واللعنة والمهانة ؟

ولله در القائل :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى

وهذا الذي قلنا هو المفهوم من نص الآية دون تزيد ولا انتقاص ولا تبديل لفظ ، والحمد لله رب العالمين كثيراً .

ولكن لو تذكر هذا المائق الجاهل ما يقرأونه في كفرهم البدل وإفكهم المحرف بأخرق تحريف وأنتن معان حاشا ما خذلهم الله تعالى في تركه على وجهه ليبدي فضائحهم ، فأبقوه تخبيثاً من الله تعالى لهم ليكون حجة عليهم ، من ذكر عيسى في كتابهم الذي يسمونه : "التوراة" .

إذ يقولون فيه في السفر الرابع عن موسى انه قال مخاطبا لله عز وجل : "يا رب كما حلفت قائلاً : الرب وديع ذو حن عظيم بعفو عن الذنب والسيئة وليس ينسى شيئاً من المآثم ، الذي يعاقب بذنب الوالد الولد في الدرجة الثانية والرابعة" .

ويقرأون فيه أيضاً في أول السفر الأول : "إن قاين ابن آدم عاقبه الله في السابع من ولده"

ثم يقرأون في الكتاب المذكور نفسه في السفر 150 و الخامس منه : "إن الله تبارك وتعالى قال لموسى: لا تقتل الآباء لأجل الأبناء، ولا الأبناء لأجل الآباء، ألا كل واحد يقتل بذنبه" .

فلو تفكر هذا الجاهل المائق وعظيم التناقض لشغله عظيم مصابه عن أن يظن بقول الله تعالى الذي هو الحق الواضح الواحد غير المختلف : {قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً* ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}

وهذا قد بيناه كما مر آنفاً انه لا مجاز للتناقض فيه أصلاً ، وإنما التناقض المحض ما نسبوا إلى موسى عليه السلام من أنه قدر بربه أنه يغفر الذنب لفاعله ، ويعاقب بذلك الذنب من كان من ولد المذنب في الدرجة الرابعة ، ثم يقول في مكان آخر : أن لا تقتل الأبناء لأجل الآباء ولا الآباء لأجل الأبناء ، هذا مع إقرارهم بأنه ليس في التوراة ذكر عذاب ولا جزاء بعد الموت أصلاً ، وإنما فيها الجزاء بالثواب والعقاب في الدنيا فقط ، فهذا هو التناقض المجرد الذي لا خفاء به ، وبالله تعالى التوفيق .

كتاب الرد على ابن النغريلة
مقدمة المؤلف | الفصل الأول | الفصل الثاني | الفصل الثالث | الفصل الرابع | الفصل الخامس | الفصل السادس والفصل السابع | الفصل الثامن وفصل في قبائحهم