كتاب الزهرة/الباب الأربعون من قصر نومه طال ليله


الباب الأربعون مَنْ قصُرَ نومُهُ طالَ ليلُهُ

أمَّا هؤلاء الذين ترجمنا هذا الباب بذكرهم فهم على كلِّ الأحوال أعذر ممَّن كان قبلهم على أنَّ فراغهم لوصف ما بدا لهم هُجنة بهم ودلالة على ضعف أحوالهم وقال الطائي وما أظنُّ أنَّه احترز به من هذا اللَّوم الَّذي يلحق غيره فألزم نفسه أكثر ما حذره وذلك قوله:

لستُ أدري أطالَ ليلِي أمْ لا
كيفَ يدرِي بذاكَ مَنْ يتقلاَّ
لوْ تفرَّغتُ في استطالةِ ليلِي
ولرعيِ النُّجومِ كنتُ مخلاَّ

فهو وإنْ كانت جهالته بحاله دالَّة على قوَّة اشتغاله فإنَّ علمه بالعلَّة الَّتي أوجبت جهله بها ضربٌ من الفلسفة الَّتي لا يصلح أن يعلمها إلاَّ متخلٍّ من هذه الحالة كلِّها ففرَّ من شيءٍ ووقع في أعظم منه ألا ترى أنَّ البهائم تجد ألم ما ينالها وتُظهر التَّأذِّي به وليس يعلم أنَّ الاشتغال بالألم يمنع من وصفه إلاَّ أهل الفلسفة والحكم والتَّكلُّف إذا دخل في شيء نبَّه على موضعه وترجم عن ضمير متحلِّله ولسنا قادرين على ذكر حال تامَّة عن أحد من الشُّعراء في هذا الباب لأنَّ كلّ واصف بوصفه أدلّ الأشياء على ضعفه فأهل التَّمام إذن سكوتٌ عن الوصف مستغرقون في غمراته مشتغلون به عن صفاته ولكنَّا نذكر عن أهل الضَّعف المستطيعين لترتيب الوصف أحسن ما يحضرنا من أقاويلهم وما زادوا فيه على أمثالهم ونظرائهم.

قال النابغة الذبياني:

كِليني لهمٍّ يا أُميمةُ ناصبِ
وليلٍ أُقاسيهِ بطيءُ الكواكبِ
وصدرٍ أراحَ اللَّيلَ غاربَ همِّهِ
يُضاعفُ فيه الحزنَ مِنْ كلِّ جانبِ
تقاعسَ حتَّى قلتُ ليسَ بمنقضٍ
وليسَ الَّذي يرعَى النُّجومَ بآيبِ

وقال عبيد الراعي:

كأنَّ بلادهنَّ سماءُ ليلٍ
تكشَّفُ عنْ كواكبها الغيومُ
مللتُ بها الثَّواءَ وأرقتْني
همومٌ ما تنامُ ولا تُنيمُ
أبيتُ بها أُراعي كلّ نجمٍ
وشرُّ رعايةِ العينِ النُّجومُ

وقال سويد بن أبي كاهل:

وأبيتُ اللَّيلَ ما أرقدهُ
وبعينيَّ إذا النَّجمُ طلعْ
فإذا ما قلتُ ليلِي قدْ مضَى
عطفَ الأوَّلُ منهُ فرجعْ
يسحبُ اللَّيلُ نجوماً ظلَّعاً
فتُواليها بطيئاتُ التَّبعْ

وقال جرير:

أتَى دونَ هذا اليومِ همٌّ فاسهَرَا
أُراعي نجوماً تالياتٍ وغُوَّرا
أقولُ لها مِنْ أجلهِ ليسَ طولُها
كطولِ اللَّيالي ليتَ صُبحكِ نوَّرا

وقال أبو تمام:

أفنَى وليلي ليسَ يفنَى آخرهْ
هاتَا مواردهُ فأينَ مصادرهْ
نامتْ عيونُ الشَّامتينَ تيقُّناً
أنْ ليسَ يهجعُ والهمومُ تسامرهْ
لا شيءَ ضائرُ عاشقٍ فإذا نأَى
عنهُ الحبيبُ فكلُّ شيءٍ ضائرهْ

وقال كثيّر:

ولِي منكِ أيَّامٌ إذا تشحطُ النَّوى
طوالٌ وليلاتٌ تزولُ نجومُها
إذا سمتُ نفسِي هجرَها واجتنابَها
رأتْ غمراتِ الموتِ فيما أسومُها

وذكروا أنَّ علي بن الجهم لمَّا طُعن في برِّيَّة حلب قال لغلامه في أول اللَّيل أطلعَ النَّجمُ أم لا؟ فقال له غلامه هذا بعد وقت العشاء فأنشأ يقول:

هلْ زِيدَ في اللَّيلِ ليلُ
أمْ سالَ بالصُّبحِ سيلُ
ذكرتُ أهلَ دُجيلٍ
وأينَ منِّي دُجيلُ

ثمَّ مات من ليلته.

وقال البحتري:

مغانِي سُليمى بالعقيقِ ودونَها
أجدَّ الشَّجى إخلاقُها ودثورُها
وألحقَني بالشَّيبِ في عقرِ دارهِ
مناقلُ في عرضِ الشَّبابِ أسيرُها
مضتْ في سوادِ الرَّأسِ أُولى بطالَتي
فدعْني يُصاحبْ وخْطَ رأسي أخيرُها
وأطريتَ لي بغدادَ إطراءَ مادحٍ
وهذي لياليها فكيفَ شهورُها

وقال أيضاً:

أُنبِّيكَ عنْ عيني وطولِ سهادِها
ووحدةِ نفسِي بالأسَى وانفرادِها
وأنَّ الهمومَ اعتدنَ بعدكِ مضجَعي
وأنتِ الَّتي وكَّلْتني باعتيادِها
خليليَّ إنِّي ذاكرٌ عهدَ خلَّةٍ
تولَّتْ ولمْ أذممْ حميدَ ودادِها
فواعجَبا ما كانَ أقصرَ دهرَها
لديَّ وأدنَى قربَها مِنْ بعادِها
وكنتُ أرَى أنَّ الرَّدى قبلَ بينِها
وأنَّ افتقادَ العيشِ قبلَ افتقادِها
بنفسيَ مَنْ عاديتُ مِنْ أجلِ فقدهِ
بلادِي ولولا فقدهُ لمْ أُعادِها

وقال أبو تمام:

رأيتُ في النَّومِ أنَّ الصُّلحَ قدْ فسدَا
وأنَّ مولايَ بعدَ القربِ قدْ بعُدا
لِمْ لَمْ أمتْ جزعاً لِم لَم أمتْ أسفاً
لِم لَم أمت حزناً لِم لَم أمتْ كمدَا
قدْ كدتُ أحلفُ لولا أنَّه سرَفٌ
أنْ لا أذوقَ رُقاداً بعدهُ أبدا

فهذا قد زادنا رتبة على ما عنى لأنه لم يدع النوم شوقاً إلى من يهواه ثمَّ رأى في النَّوم ما قد وصف وهو يزعم أنَّ تركه إيّاه مع ذلك سرف ولو جعل امتناعه من ترك النَّوم شوقاً إلى رؤية الطَّيف فقال قد كدتُ أحلف لولا الطَّيف مجتهداً ألا أذوق رقاداً بعده أبداً كان أعذر على كلّ حال وإن دخل ذلك ضروبٌ من الاختلال منها أنَّه نام أوَّلاً حتَّى رأى ما رأى، ومنها أنَّه لم يتهيَّأ له ترك النَّوم إلاَّ بيمين على نفسه، ومنها أنَّه مع ذلك لم يحلف أيضاً وإنَّما أرجف باليمين.

وقال أيضاً:

لا نِمتَ عيناً ولا لُقِّيتَ عافيةً
وكانَ حظُّكَ بعدَ اللَّيلةِ الأرَقا
أنمتَ لا نمتَ في خيرٍ ولا دعَةٍ
حتَّى أتَى أجلُ الميعادِ فانطلَقا

فهذا عافانا الله وإيَّاه ألوَم في هذا النَّوم من كلِّ ما لمناه لأنَّ الإنسان يشغل قلبه بمجيء خادمه من حاجة لا قدر لها في قلبه فيشغله ذلك عن نومه فكيف لمن يعِده من يهواه بزيارة فينام عن موعده.

وقال البحتري:

أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ
واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ
لا ذُقتَ ما ذاقهُ مَنْ أنتَ مالكهُ
ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ
أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ
والعينُ تعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ
فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهُما
فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ

وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي لنفسه:

أرقتُ وحالفتْ لِينَ الوِسادِ
ولمْ يسعدْ ولُذَّتْ بالمهادِ
وباتتْ والسُّرورُ لها ضجيعٌ
يجنَّبها مجانبةُ الرُّقادِ
وبتُّ ومرهفاتُ الشَّوقِ تفرِي
بها عنقَ الكرَى يدُ السُّهَادِ
فكمْ تروِي بأدمعِنا خدوداً
لنا جرحَى وأنفسُنا صوادِ

وقال آخر:

تطاولَ أيَّامي ولَلَّيلُ أطولُ
ولامَ علَى حبِّي أُميمةَ عُذَّلُ
يلومونَ صبّاً أضرعَ الحبُّ جسمهُ
وما ضرَّهمْ لوْ لمْ يلوموا وأجملوا

وقال آخر:

قدْ كانَ يكفيكَ ما بالحسمِ مِنْ سقمٍ
لِمْ زِدْتني سهراً لا مسَّكَ السَّهرُ
عينٌ مُؤرَّقةٌ والجسمُ مختبلٌ
والقلبُ بينهما تخلُو بهِ الفكرُ
يا حارِمِي لذَّةَ الدُّنيا وبهجتَها
قد كانَ يُقنعني مِنْ وجهكَ النَّظرُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يا مانعاً مُقلتي مِنْ لذَّةِ الوسنِ
رُوحي تَقيكَ منَ الأسواءِ والحزنِ
واللهِ لا سكنتْ روحي إلى سكنٍ
إلاَّ إليكَ ولا حنَّتْ إلى وطنِ
ولنْ أقولَ ولوْ أضنَى الهوَى كبدِي
ردّاً لقولكَ لي قدْ خنتَ لم أخُنِ
هبْني غريباً أُلامُ اليومَ فيكَ ألمْ
أكنْ حقيقاً بأنْ أُعدَى علَى الزَّمنِ
فلا تدعْ رعيَ ما قد كنتَ تعلمهُ
منِّي يقيناً وتهجرْني علَى الظِّننِ
فلمْ تزلْ مذْ عرفتُ الحبَّ في كبدِي
أحبَّ واللهِ مِنْ روحي إلى بدنِي

وتوهم هؤلاء بمنع أحبَّتهم إيَّاهم النَّوم وإن كان مُسقطاً عنهم لائمة النُّوَّام فإنَّه موجب عليهم ضرباً من الملام لأن في الحال يرون سهرهم بالفكر في أحبَّتهم نعمة لا يعرف قدرها فضلاً عن أن يؤدَّى شكرها.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

يا نسيمَ الرَّوضِ في السَّحرِ
وشبيهَ الشَّمسِ والقمرِ
إنَّ مَنْ أسهرتَ ليلتهُ
لقريرُ العينِ بالسَّهرِ

على أنَّه غير مأمون على صاحب هذا الشِّعر أن يكون السَّهر الَّذي مدحه هو السَّهر مع إلفه لا السَّهر بالفكرة في أمره ومن أبلغ ما قيل في طول الليل.

قول خالد الكاتب:

رقدتَ فلمْ ترثِ للسَّاهرِ
وليلُ المحبِّ بلا آخرِ
ولمْ تدرِ بعدَ ذهابِ الرُّقا
دِ ما صنعَ الدَّمعُ بالنَّاظرِ

ولقد أكثر النَّاس في استطالة الليل وأصحّ ما قيل فيه معنًى.

قول بشار:

لمْ يطلْ ليلِي ولكنْ لمْ أنمْ
ونفَى عنِّي الكرَى طيفٌ ألمّْ
وإذا قلتُ لها جُودِي لنا
خرجتْ بالصَّمتِ عنْ لا ونعمْ

وأنشدني أبو الفضل بن أبي طاهر قال أنشدني أبو دعامة علي بن زيد لخليل بن هشام:

يقولونَ طالَ اللَّيلُ واللَّيلُ لمْ يطلْ
ولكنَّ مَنْ يهوَى منَ الهمِّ يسهرُ
وكمْ ليلةٍ طالتْ عليَّ بهجركمْ
وأُخرى تليها نلتقِي فهيَ تقصرُ

ولا أعلم أحداً استطالَ الليل ممّن خبَّر بعلّة استطالته ولا ممّن لم يخبّرها شرح السبب المضجر من اللَّيل ما هو غير الطرماح حيث يقول:

ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا اصبَحِ
بصبحٍ وما الإصباحُ فيها بأروحِ
علَى أنَّ للعينينِ في الصُّبحِ راحةً
بطرحِهِما طرفيهِما كلَّ مطرحِ

وهذا قول امرئ القيس:

ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا انجلِي
بصبحٍ وما الإصباحُ فيكَ بأمثلِ

إلاَّ أنَّ امرء القيس لم يقل لم صار النَّهار وإن لم يكن أمثل من اللَّيل والقلوب إليه أميل منها إلى اللَّيل كما بيَّنه الطرمّاح ومن سرق معنى فزاد فيه احتمل له جرم سرقته لموضع زيادته ومن أحسن ما قيل في ترك النَّوم قول مسلم بن الوليد:

لمَّا التَقَيْنا افْترعْنا في تعاتُبِنا
منَ الحديثِ ومِنْ لذَّاتهِ العُذرا
قالتْ أأقررتَ بالإجرامِ قلتُ نعمْ
إنْ كانَ جرمٌ علَى الإقرارِ مُغتفرا
لمْ تُغمضِ العينُ مذْ عُلِّقتُ حبُّكمُ
إلاَّ إذا خالستْها عينكِ النَّظرا

ولقد أحسن بشار بن برد حيث يقول:

كأنَّ جفونهُ سُملتْ بشوكٍ
فليسَ لنومهِ فيها قرارُ
جفتْ عيني عنِ التَّغميضِ حتَّى
كأنَّ جفونها عنها قِصارُ
أقولُ وليلَتي تزدادُ طولاً
أما للَّيلِ بعدهمُ نهارُ

وقال آخر:

وعينٍ لنا من ذكرِ صعبةَ واكفٍ
إذا غاضها كانتْ سريعاً جُمومها
تنامُ قريراتُ العيونِ وبينها
وبينَ حجابَيْها قذًى لا يريمُها

وقال آخر:

لعلَّ جفوناً فرَّقَ البينُ بينها
وبينَ الكرى تحظى بطعمِ رُقادِ
ويُحسرُ دمعٌ ما يزالُ كأنَّهُ
علَى الخدِّ مُنهلاًّ تدافعُ وادِ
كأنَّ السَّواري والغوادي تكلَّفتْ
لهُ بسواري أدمعٍ وغوادي

وقال آخر:

إذا زُيِّنتْ بالدُّرِّ يوماً فإنَّها
تُزيِّنهُ والدُّرُّ ليسَ يزينُها
أبيتُ طوالَ الدَّهرِ أبكي لذكرها
بعينِ محبٍّ ما تلاقى جفونها
وأقطعُ أيَّامي بهمٍّ وفكرةٍ
أُعلِّلُ نفساً قد براني حنينها
وأحفظها في الغيبِ حتَّى كأنَّني
حلفتُ لها باللهِ أن لا أخونها

وقال جرير:

ألا حيِّ الدِّيارَ بسُعدَ إنِّي
أحبُّ لحبِّ فاطمةَ الدِّيارا
أرادَ الظَّاعنونَ ليُحزنوني
فهاجوا صدعَ قلبيَ فاستطارا
أبيتُ اللَّيلَ أرقبُ كلَّ نجمٍ
تعرَّضَ حيثُ أنجدَ أو أغارا
يهيمُ فؤادهُ والعينُ تلقَى
منَ العبراتِ جولاً وانحدارا

وقال أيضاً:

نامَ الخليُّ وما رقدْتُ لحبِّكُمْ
ليلَ التَّمامِ تأرُّقاً وسهودا
وإذا رجوتُ بأنْ تُقرِّبكِ النَّوى
كانَ القريبُ لما رجوْتُ بعيدا

وقال الراعي:

كفاني مُقاساةَ الكرى وكفيْتُهُ
كلاءُ النُّجومِ والنُّعاسُ معانقُهْ
فباتَ يُريهِ عرسهِ و.....
وبتُّ أُراعي النَّجمَ أينَ مخافقُهْ

وقال امرؤ القيس:

أعنِّي علَى الأشجانِ والذِّكراتِ
يبتْنَ علَى ذي الهمِّ مُعتكراتِ
ظللْتُ ردائي فوقَ رأسيَ قاعداً
أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي
بليلِ التَّمامِ أوْ وُصلْنَ بمثلهِ
مُقايسةً أيَّامها نكراتِ

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

أرقْتُ وطالتْ ليلتي بأبانِ
لبرقٍ سرى بعدَ الهدوِّ يماني
فيا عمُّ عمَّ السُّوءِ فرَّقْتَ بيننا
ونحنُ جميعاً شملُنا متداني

وقال محمد بن عبد الملك الزيات:

كتبَتْ علَى فصٍّ لخاتَمها
منْ ملَّ من أحبابهِ رقدا
فكتبْتُ في فصِّي ليبلغها
من نامَ لم يشعرْ بمنْ سهدا
قالتْ يعارضني بخاتمهِ
والله لا كلَّمتهُ أبدا

وقال آخر:

ولي مقلةٌ عهدها بالمنامِ
بعيدٌ وبالدَّمعِ عهدٌ قريبْ
يحارُ إذا زادَ طرفي المنامُ
كما حارَ في الحيِّ ضيفٌ غريبْ