كتاب الزهرة/الباب التاسع والثلاثون مسامرة الأوهام والأماني سبب لتمام العجز والتواني

​الباب التاسع والثلاثون مُسامرةُ الأوهامِ والأماني سببٌ لتمام العجزِ والتَّواني​ المؤلف أبو بكر محمد بن داود الظاهري


الباب التاسع والثلاثون مُسامرةُ الأوهامِ والأماني سببٌ لتمام العجزِ والتَّواني

قال حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدثني أبو العالية قال حدثني حباب القشيري قال لمَّا ملك الوليد بن يزيد بعث إلى ابن ميادة وكان معجباً بشِعره فألزمه بابه فاشتاق الشَّيخ لمَّا طال مقامه فقال:

ألا ليتَ شِعرِي هلْ أبيتنَّ ليلةً
بحرَّةِ ليلَى حيثُ ربَّتَني أهلِي
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائِمِي
وقُطِّعنَ عنِّي حيثُ أدركَني عقلِي
فإن كنتُ عنْ تلكَ المواطنِ حَابسِي
فأيسِرْ عليَّ الرِّزقَ واجمعْ إذاً شملِي

قال فلمَّا سمع شِعره كتب إلى مصدِّق كلبٍ أن يعطيه مئة ناقةٍ دهماءَ جعاداً.

وقال ابن ميادة:

ألا ليتَ شِعرِي هلْ يحلَّنَّ أهلَها
وأهلكَ روضاتٍ ببطنِ اللِّوى خُضرا
وهلْ تأتينَّ الرِّيحُ تدرجُ موهناً
بريَّاكِ تعرُوني بها بلداً قفرَا
بريحِ خُزامَى الرَّملِ باتَ معانقاً
فرُوعُ الأقاحِي تهضبُ الطَّل والقطرَا
ألا ليتَني ألقاكِ يا أُمَّ جحدرٍ
قريباً فأمَّا الصَّبرُ عنكِ فلا صبرَا
ألا لا تلُظِّي السِّترَ يا أُمَّ جحدرٍ
كفَى بذُرى الأعلامِ مِنْ دوننا سِترا

وأنشدني أحمد بن يحيى:

قالتْ أُميمةُ ما لجسمكَ شاحباً
وجدٌ بقلبِي يا أُميمُ برَاني
للهِ صاحبيَ الَّذي نبَّأتهُ
وشكوتُ حبُّكِ عندهُ فكَواني
ظنَّ المكاوِي مُخرجاتِ حرارةٍ
بينَ الضُّلوعِ ودونَها هَيَماني
يا للرِّجالِ أمَا رأَى ما شفَّني
أفلا بذكركِ والمُنى داوانِي

وقال كثيّر:

وددتُ وما تُغني الودادةُ أنَّني
بما في ضميرِ الحاجبيَّةِ عالمُ
فإنْ كانَ خيراً سرَّني وعلمتهُ
وإن كانَ شرّاً لمْ تلُمْني اللَّوائمُ
وما ذكرتكِ النَّفسُ إلاَّ تفرَّقتْ
فريقينِ منها عاذرٌ لي ولائمُ

وقال البحتري:

مُنَى النَّفسِ في أسماءَ لوْ تستطيعُها
بها وجدُها مِنْ غادةٍ وولوعُها
عجبتُ لها تُبدِي القِلى وأودُّها
وللنَّفسِ تَعصينِي هوًى وأُطيعُها

وقال آخر:

وددتُ بأنَّ النَّاسَ كلّهمُ أنا
وأنِّي فداءٌ للَّذي أنا عاشقهْ
وأنِّي إذا صاحبتُ للعرضِ مِنْ غدٍ
إلى اللهِ جيراناً هناكَ أُوافقهْ
فإمَّا إلى جنَّاتِ عدنٍ نكنْ معاً
وإمَّا إلى نارٍ ففيها أُرافقهْ

وقال كثيّر:

يودُّ بأنْ يُمسي سقيماً لعلَّها
إذا سمعتْ عنهُ بشكوَى تُراسلهْ
ويرتاحُ للمعروفِ في طلبِ العُلى
لتُحمدُ يوماً عندَ ليلَى شمائلهْ
فلوْ كنتُ في كبلٍ وبحتُ بعَوْلَتي
إليهِ ألانتْ جمَّةً لي سلاسلهْ
ويدركُ غيري عندَ غيركِ حظَّهُ
بشِعري ويُعييني بهِ ما أُحاولهْ
فلا هانتِ الأشعارُ بعدِي وبعدكمْ
مُحبّاً وماتَ الشِّعرُ بعدِي وقائلهْ

وقال آخر:

تمنَّيتُ في عرضِ الأمانِي وربَّما
تمنَّى الفتَى أُمنيَّةً لنْ ينالَها
لَوَ انِّي وسُعدى جارُ بيتٍ حبائباً
فتعلمَ حالِي ثمَّ أعلَمَ حالها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

يا ليتَني قدْ أجزتُ الحبلَ دونكمُ
حبلَ المعرَّفِ أوْ جاورتُ ذا عُشرِ
إنَّ الثَّواءَ بأرضٍ لا أراكِ بها
فاسْتيقنيهِ ثواءٌ حقٌّ ذي كدَرِ
وما مللتُ ولكنْ زادَ حبُّكمُ
وما ذكرتكِ إلاَّ ظَلتُ كالسَّدرِ
أُذري الدُّموعَ كذِي سقمٍ يُخامرهُ
وما يخامرُ مِنْ سقمٍ سوَى الذِّكرِ
كمْ قدْ ذكرتكِ لوْ أُجزَى بذكركمُ
يا أشبهَ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ بالقمرِ
إنِّي لأجذَلُ أنْ أمشِي مقابلهُ
حبّاً لرؤيةِ مَنْ أحببتُ في الصُّورِ

ولبعض أهل هذا العصر:

زُبالةُ لا همَّ اسقِها ثمَّ روِّها
وقلَّتْ لها أضعافُ ذي الدَّعواتِ
ألا هلْ إلى نجدٍ وماءٍ بقاعِها
سبيلٌ وأرواحٍ بها عطراتِ
وهلْ لي إلى تلكَ الطُّليحةِ عودةٌ
علَى مثلِ تلكَ الحالِ قبلَ وفاتِي
فأشربَ مِنْ ماءِ السَّماءِ فأرتوي
وأرعَى معَ الغزلانِ في الفلواتِ
وأُلصقَ أحشائِي برملِ زُبالةٍ
وآنسَ بالظِّلمانِ والظَّبياتِ

وقال بعض الأعراب:

يا ليتَ شِعري وليتٌ أصبحتْ حرَجاً
هلْ أهبطنَّ بلاداً ما بها دورُ
ألا سبيلَ إلى نجدٍ وساكِنها
أمْ لا بنجدٍ حبيبُ الأهلِ مهجورُ
لقدْ تبدَّلتُ مِنْ نجدٍ وساكنهِ
أرضاً بها الدِّيكُ يزقُو والسَّنانيرُ

وقال آخر:

ليتَ شِعري وأينَ منِّيَ ليتٌ
إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ
أيُّ ساعٍ سعى ليقطعَ حبلِي
حينَ لاحتْ للصَّالحِ الجوزاءُ
واستكنَّ العصفورُ كُرهاً معَ الضَّ
بِّ وأوفَى في عودهِ الحرباءُ
وأما أهلُ قريةٍ أنكرُوني
عرفَتْني الدَّوِّيَّةُ الملساءُ
عرفتْ ليلَها الطَّويل وليلِي
إنَّ ليلَ المحزونِ فيهِ عناءُ

وقال آخر:

عسَى اللهُ يا ظلاَّمُ أنْ يعقبَ الهوَى
فتلقَى كما قدْ كنتُ فيكِ لقيتُ
وتنهَيْ فتزدادِي إليَّ صبابةً
كما ازددتُ في حبِّيكِ حينَ نُهيتُ
ألمْ تعلمِي يا ريقةَ الوصلِ أنَّني
شربتُ بصابٍ بعدكمْ فرويتُ
وإنِّي لخيرٍ قدْ تداويتُ بعدكمْ
بهجرٍ لكمْ مِنْ حبِّكمْ فبريتُ

وقال آخر:

ألا ليتَني لا أطلبُ الدَّهرَ حاجةً
ولا بغيةً إلاَّ عليكِ طريقُها
فيا حبَّذا مِنْ منظرٍ لوْ تنالهُ
عذابُ الثَّنايا أُمُّ عمرٍو وريقُها

وقال آخر:

إذا كلَّمْتِني وكحلتِ عيني
بعينكِ فامنَعي ما شئتِ منِّي
إذا ازدحمتْ همومِي في فؤادِي
طلبتُ لها المخارجَ بالتَّمنِّي

وقال آخر:

ألا ليتَ بعدَ الموتِ أُنشرُ نشرةً
فأنظرَ ما شمطاءُ صانعةٌ بعدِي
أترعَى وصالَ العهدِ بيني وبينَها
فذلكَ ظنِّي أمْ تغيَّرُ عنْ عهدِي

وقال العباس بن الأحنف

تمنَّى رجالٌ ما أحبُّوا وإنَّما
تمنَّيتُ أنْ أشكُو إليها وتسمعَا
أرَى كلَّ معشوقينِ غيرِي وغيرَها
قدِ استعذَبا طعمَ الهوَى وتمتَّعا
وإنِّي وإيَّاها علَى حدِّ رقبةٍ
وتفريقِ شملٍ لمْ نبتْ ليلةً معَا
وإنِّي لأنهَى النَّفسَ عنها ولمْ تكنْ
بشيءٍ منَ الدُّنيا سواها لتقْنَعا

وقال جميل:

ألا ليتَنا نحيَى جميعاً وإنْ نمتْ
يجاورُ في الموتَى ضريحِي ضريحُها
فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ
إذا قيلَ قدْ سُوِّي عليها صفيحُها
أظلُّ نهارِي مُستهاماً ونلتَقِي
معَ اللَّيلِ رُوحي في المنامِ وروحُها

وقال أبو بكر عبد الرحمن الزهري:

ولمَّا نزلْنا منزلاً طلَّهُ النَّدى
أنيقاً وبستاناً منَ النَّورِ حاليا
أجدَّ لنا طيبُ المكانِ وحسنهُ
مُنًى فتمنَّينا فكنتِ الأمانيا

وقال مزاحم العقيلي:

وددتُ علَى ما كانَ منْ شرفِ الفتَى
وجهلِ الأمانِي أنَّ ما شئتُ تفعلُ
فترجعَ أيَّامٌ مضينَ بنعمةٍ
علينا وهلْ يُثنَى منَ العيشِ أوَّلُ

وقال جرير:

أُؤمِّلُ أنْ أُلاقيَ آلَ ليلَى
كما يرجُو أخُو السَّنةِ الرَّبيعا
فلستُ بنائمٍ إلاَّ بهمٍّ
ولا مستيقظاً إلاَّ مَروعا

وقال آخر:

فما مسَّ جنبِي الأرضَ إلاَّ ذكرتُها
وإلاَّ وجدتُ ريحَها في ثيابيا
فيا ربِّ إنْ كانتْ عروضُ هيَ المُنى
فزنِّي بعينيها كما زِنتَها لِيا

وقال سعد ذلفاء:

فليتَ ابنَ أوسٍ حينَ يأتيهِ أهلُها
يخاصمهمْ أهلِي قضانِي لها عبْدا
فتربطُني ذلفاءَ في شقِّ بيتِها
إلى الطَّنبِ الأقصَى فتوسعُني جلدا
فأضحكَ منها إذا تقولُ نساؤُها
لكِ الويلُ يا ذلفاءُ لا تقتُلي سعدَا

وقال عروة بن حزام:

كأنَّ قطاةً عُلِّقتْ بجناحِها
علَى كبدِي مِنْ شدَّةِ الخفقانِ
ألا ليتَنا نحيَى جميعاً وليتَنا
إذا نحنُ مُتنا ضمَّنا كفنانِ
ألا ليتَنا عفراءُ مِنْ غيرِ ريبةٍ
بعيرانِ نرعَى القفرَ مؤتلفانِ
وإنِّي لأهوَى الحشرَ إذْ قيلَ إنَّني
وعفراءَ يومَ الحشرِ ملتقيانِ

وقال آخر:

ألا مَنْ لهمٍّ بتُّ وحدِي أُكابدهْ
ومَنْ يكُ ذا همٍّ يبتْ وهوَ عامدهْ
تذكَّرتُ بطنَ الحِبرِ يا ليتَني بهِ
إذا اعتمَّ بيتاً متنهُ وأجالدهْ

وقال الأحوص:

إنِّي لآملُ أن تدنُو وإنْ بعُدتْ
والشَّيءُ يؤملُ أنْ يدنُو وإنْ بعُدا
أبغضتُ كلَّ بلادٍ كنتُ آلفُها
فما أُلائمُ إلاَّ أرضَها بلدَا
يا للرِّجالِ لمقتولٍ بلا ترَةٍ
لا يأخذونَ لهُ عقلاً ولا قوَدا
إنْ قرَّبتْ لمْ يُفقْ عنها وإنْ بعُدتْ
تقطَّعتْ نفسهُ مِنْ حبِّها قدَدا
ما تذكرُ الدَّهرَ لي سُعدى وإنْ نزحتْ
إلاَّ ترقرقَ ماءُ العينِ فاطَّردا
ولا قرأتُ كتاباً منكِ يبلُغُني
إلاَّ تنفَّستُ مِنْ وجدٍ بكمْ صعدا
وقدْ بدتْ لي مِنْ سُعدى معاتبةٌ
أمسَى وأضحَى بها جدِّي وما سعِدا
ولو أُعاتبُ ذا حقدٍ قتلتُ لهُ
نفساً مُعاتَبَتي إيَّاكِ ما حقدا

وقال النميري:

ألا هلْ إلى نصِّ النَّواعجِ بالضُّحى
وشمِّ الخُزامى بالعشيِّ سبيلُ
بلادٌ بها أمسَى الهوَى غيرَ أنَّني
أميلُ معَ المقدارِ حيثُ يميلُ

وقال أبو القمقام الفقعسي:

يقرُّ بعيني أن أرَى رملةَ الغضا
إذا ما بدتْ يوماً لعينِي قِلالُها
ولستُ وإنْ أحببتُ مَنْ يسكنُ الغضا
بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها

وقال أيضاً:

تبدَّلَ هذا السِّدرُ أهلاً وليتَني
أرَى السِّدرَ بعدِي كيفَ كانتْ بدائلهْ
فعهدِي بهِ عذبَ الجنَى ناعمَ الذُّرَى
تطيبُ وتندَى بالعشيِّ أصائلهْ
كما لوْ وشَى بالسِّدرِ واشٍ رددْتهُ
كئيباً ولمْ تملحْ لديَّ شمائلهْ

وقال آخر:

ألا هلْ إلى إلمامةٍ قبلَ موتِنا
سبيلٌ وهلْ للنَّازحينَ رجوعُ
وهلْ لعيونٍ قدْ بكينَ إلى الفلا
وأبكينَ حتَّى ما لهنَّ دموعُ
يُحاذرنَ إنْ لا يرتجعنَ إلى الفلا
وإنْ لا يُراعُ الشَّملُ وهوَ جميعُ