كتاب الزهرة/الباب التاسع عشر ما عتب من اغتفر ولا أذنب من اعتذر


الباب التاسع عشر ما عتبَ منِ اغتفرَ ولا أذنبَ منِ اعتذر

المعتذر لا ينفكُّ من إحدى حالين إمَّا أن يكون صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً فعذره مقبول وإن كان كاذباً فإنه لم يتجشَّم مضاضة الكذب في نفسه إلاَّ لنفاسة صاحبه في صدره ومن كان بهذه الحال قُبل عذره بل وجب شكره.

وقد قال البحتري:

إقبلْ معاذيرَ مَنْ يأتيكَ معتذراً
إنْ برَّ عندكَ فيما قالَ أو فجَرَا
فقدْ أطاعكَ مَنْ يُرضيكَ ظاهرهُ
وقدْ أجلَّكَ مَنْ يعصيكَ مُستترا

ولبعض أهل هذا العصر:

أنتَ ابتدأتَ بميعادِي فأوفِ بهِ
ولا تربَّصْ بهِ صرفَ المقاديرِ
ولا تكِلْني إلى عذرٍ تُزخرفهُ
فالذَّنبُ أحسنُ مِنْ بعضِ المعاذيرِ

وله أيضاً:

إلى اللهِ أشكُو مَنْ بدانِي بوصلهِ
فلمَّا حوَى قلبِي براهُ ببخلهِ
سآجرُ نفسِي عنْ تقاضيهِ راضياً
إلى أنْ أراهُ ساخطاً بعدَ فعلهِ
وآخذُ منهُ العفوَ ما دامَ باخلاً
وأنَّهَى لسانِي أنْ يعودَ لعذلهِ
فربَّ اعتذارٍ قدْ تمنَّيتُ أنَّني
خرستُ وأنِّي لمْ أُخاطبْ بمثلهِ

وقال آخر:

مْ أجنِ ذنباً فإنْ زعمتَ بأنْ
أتيتُ ذنباً فغيرُ مُعتمدِ
قدْ تطرفُ الكفُّ عينَ صاحبِها
فلا يرَى قطعَها منَ الرَّشَدِ

وقال آخر:

ما أحسنَ العفوَ منَ القادرِ
لا سيَّما عنْ غيرِ ذي ناصرِ
إنْ كانَ لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي
فما لهُ غيركَ مِنْ غافرِ
أعوذُ بالودِّ الَّذي بينَنا
أنْ تُفسدَ الأوَّلَ بالآخرِ

وقال آخر:

هبْنِي أسأتُ وقدْ أتيْ
تُ بمثلِ ذنبِ أبي لهبْ
فأنا أتوبُ ومَا أسأ
تُ وكمْ أسأتَ فلمْ تتبْ

وقال آخر:

هَبينِي يا معذِّبتِي أسأتُ
وبالهجرانِ قبلكمُ بدأتُ
فأينَ الفضلُ منكِ فدتكِ نفسي
عليَّ إذا أسأتِ كمَا أسأتُ

ولبعض أهل هذا العصر:

لجُرمِي عقابٌ والتَّجاوزُ ممكنٌ
وأولاهُما إسعافُ مَنْ صحَّ صدقهُ
فإنْ لمْ تجاوزْ حسبَ ما تستحقُّهُ
فلا تتجاوزْ حسبَ ما أستحقُّهُ

وله أيضاً:

العذرُ يلحقهُ التَّحريفُ والكذبُ
وليسَ في غيرِ ما يُرضيكَ لي أربُ
وقدْ أسأتُ فبالنُّعمى الَّتي سلفتْ
لما مننتَ بعفوٍ ما لهُ سببُ

وقال آخر:

لا والَّذي إنْ كذبتُ اليومَ عذَّبني
وإنْ صدقتكمُ فاللهُ نجَّانِي
ما قرَّتِ العينُ بالأبدالِ بعدكمُ
ولا مجدتُ لذيذَ العيشِ يغشانِي
إنِّي وجدتُ بكمْ ما لمْ يجدْ أحدٌ
جنٌّ بجنٍّ ولا إنسٌ بإنسانِ

وقال البحتري:

أأنسَى مَنْ يُذكِّرُ فيهِ ألاَّ
شبيهَ لهُ يعدُّ ولا ضريبُ
وقدْ أكدَى الصَّوابُ عليَّ حتَّى
وددتُ بأنَّ شانيَّ المُصيبُ
فإنْ لا تحسبِ الحسناتِ منها
لصاحبها فلا تُحصَى الذُّنوبُ
أتوبُ منَ الإساءةِ إنْ ألمَّتْ
وأعرفُ مَنْ يُسيءُ ولا يتوبُ

وقال أيضاً:

اللهُ يعلمُ والدُّنيا مُنغَّصةٌ
والعيشُ مُنتقلٌ والدُّهر ذُو دولِ
لأنتَ عندِي وإنْ ساءتْ ظنونكَ بِي
أحظَى منَ الأمنِ عندَ الخائفِ الوجلِ

ولعبيد بن طاهر:

إغتفرْ زلَّتي لتُحرزَ فضلَ الشُّك
رِ منِّي ولا يفوتكَ أجرِي
لا تكِلْني إلى التَّوسُّلِ بالعذْ
رِ لعلِّي ألاَّ أقومَ بعذرِي

وقال آخر:

فإنْ لا أكنْ للفضلِ أهلاً فإنَّكمْ
بفضلكمُ للعفوِ عنْ مذنبٍ أهلُ
ففضلكَ أرجُو لا البراءةَ إنَّه
أبى اللهُ إلاَّ أن يكونَ لكَ الفضلُ

وقال محمد بن عبد الملك الزيات:

رفعَ اللهُ عنكَ نائبةَ الدَّه
رِ وحاشاكَ أن تكونَ عليلا
أُشهدُ اللهَ ما علمتُ وما ذا
كَ من العذرِ جائزاً مقبُولا
فاجعلَنْ لي إلى التَّوسُّلِ بالعذْ
رِ سبيلاً إذْ لم أجدْ لِي سبيلا
فقديماً ما جادَ ذو الفضلِ بالصَّفحِ
وما سامحَ الخليلُ الخليلا

وقال الحسين الخليع:

بنفسِي حبيبٌ لا يملُّ التَّعتُّبا
إذا زدتهُ في العذرِ زادَ تعصُّبا
يُطيلُ ضِرارِي بامتحانِ صبابتِي
وقدْ علمَ المكنونَ منها المغيَّبا
فلستُ أُناجِي غيرهُ مذْ عرفتهُ
فأنظُرَ إلاَّ خائفاً مُترقِّبا
أيا مَنْ تجنَّى الذَّنبَ أعلمُ أنَّه
علَى ثقةٍ أنْ لستُ بالغيبِ مُذنبا
أمَا لخضُوعِي مِنْ ضميركَ شافعٌ
منَ السُّقمِ قدْ يشفي المُلحَّ المعذَّبا

أمَّا اعتذاره بأنَّه لا يُناجي غير صاحبه إلاَّ خائفاً مترقِّباً فقبيحٌ جدّاً ولعمري إنَّ الإصرار على الغدر أصلح من التَّنصُّل بهذا العذر إذ من لم يكن عليه رقيب من نفسه يصونها عن مكاره إلفه فلا درك في مودَّته.

وقد قال بعض أهل هذا العصر في هذا النحو:

كأنَّ رقيباً منكَ يرعَى خواطرِي
وآخرَ يرعَى ناظرِي ولسانِي
فما عاينتْ عينايَ بعدكَ منظراً
يسوؤكَ إلاَّ قلتُ قدْ رمَقانِي
ولا بدرتْ في فِيَّ بعدكَ مزحةٌ
لغيركَ إلاَّ قلتُ قدْ سمِعانِي
ولا خطرتْ مِنْ ذكرِ غيركَ خطرةٌ
علَى القلبِ إلاَّ عرَّجا بعنانِ
إذا ما تسلَّى الغايرونَ عنِ الهوَى
بشربِ مدامٍ أوْ سماعِ قيامِ
وجدتُ الَّذي يُسلِي سوايَ يشوقُني
إلى قربكمْ حتَّى أملَّ مكانِي
وفتيانِ صدقٍ قدْ سئمتُ لقاءهمْ
وعفَّفتُ طرفِي عنهمُ ولسانِي
وما الزُّهدُ أسلَى عنهمُ غيرَ أنَّني
أراكَ علَى كلِّ الجهاتِ تراني

وأتم من هذا قول مسلم بن الوليد:

رحلتُ مُذْ يومِ نادَوا بالرَّحيلِ علَى
آثارهمْ ثمَّ لمْ أنظرْ إلى أحدِ
أغضتْ عنِ الخلقِ عيني ما ترَى حسَناً
في النَّاسِ حتَّى تراهمْ آخرَ الأبدِ

وقال آخر:

لأيُّ شيءٍ صددتَ عنِّي
يا بائناً بالعَزَاءِ منِّي
أكانَ منِّي فعالُ سوءٍ
يحسنُ في مثلهِ التَّجنِّي
إنَّ شفيعِي إليكَ منِّي
دموعُ عَيني وحسنُ ظنِّي
فبالَّذي ساقَني ذليلاً
إليكَ ألا عفوتَ عنِّي

وقال آخر:

كلُّ يومٍ يقولُ لي لكَ ذنبٌ
يتجنَّى ولا يرَى ذاكَ منِّي
فأنا الدَّهرَ في اعتذارٍ إليهِ
فإذا ما رضِي فليسَ يُهنِّي
ربَّما جئتهُ أُسلِّفهُ العذ
رَ لبعضِ الذُّنوبِ خوفَ التَّجنِّي

وقال علي بن الجهم:

عفا اللهُ عنكَ ما حرمةٌ
أعوذُ بعفوكَ أنْ أُبعدا
ألمْ ترَ عبداً عدَا طورهُ
ومولًى عفا ورشيداً هدَى
ومفسدَ أمرٍ تلافيتَهُ
فعادَ فأصلحَ ما أفسدَا
أقِلْني أقالكَ مَنْ لمْ يزلْ
يَقيكَ ويصرفُ عنكَ الرَّدى
لئنْ جلَّ ذنبٌ ولمْ أعتمدْهُ
لأنتَ أجلُّ وأعلَى يدَا

وقال البحتري:

يُخوِّفني مِنْ سوءِ رأيكَ معشرٌ
ولا خوفَ إلاَّ أنْ تجورَ وتظلما
أُعيذكَ أنْ أخشاكَ مِنْ غيرِ حادثٍ
أتيتُ ولا جرمٌ إليكَ تقدَّما
أُقرُّ بما لمْ أجنِهِ متنصِّلاً
إليكَ علَى أنِّي إخالُكَ ألوَما

وقال أيضاً:

وعتابِ خلٍّ قدْ سمعتُ فلم أكنْ
جلدَ الضَّميرِ علَى استماعِ مُمِضِّهِ
طافَ الوشاةُ بهِ فأحدثَ ظلمةً
في جوِّهِ ووعورةً في أرضهِ
غضبانُ حمِّلَ إحْنَةً لوْ حُمِّلتْ
ثبَجَ الصَّباحِ لثُقِّلتْ مِنْ نهضهِ
مهلاً فداكَ أخوكَ قدْ ألهيتهُ
عنْ لهوهِ وشغلتهُ عن غُمضهِ
خزْيانُ أكبرَ أنْ تظنَّ جنايةً
في بسطهِ لصديقهِ أوْ قبضهِ
ماذا توهَّمُ أن يقولَ وقولهُ
في نفسهِ ولسانهُ في عِرضهِ
أنَبوتُ عنكَ بزعمهمْ ومتى نَبَا
في حالةٍ بعضُ امرئٍ عن بعضهِ

وقال بعض أهل هذا العصر:

أخوكَ الَّذي أمسَى بذكركَ مُغرما
يتوبُ إليكَ اليومَ ممَّا تقدَّما
فإنْ لم تصلهُ رغبةً في وصالهِ
ولمْ تكُ مشتاقاً فصِلْهُ تكرُّما
فقدْ والَّذي عافاكَ ممَّا ابتلَى بهِ
تندَّمَ لوْ أرضاكَ أنْ يتندَّما
وباللهِ ما كانَ الصُّدودُ الَّذي مضَى
ملالاً ولا كانَ الجفاءُ تبرُّما
فلا تحرِبَنْ بالغدرِ مَنْ صدَّ مُكرهاً
وأظهرَ إعراضاً وأبدَى تجهُّما
فلمْ يُلههِ عنكَ السُّلوُّ وإنَّما
تأخَّرَ لمَّا لم يجدْ مُتقدَّما

وقال آخر:

كُحلتْ مقلَتِي بشوكِ القَتادِ
لم أذُقْ مذْ حُممتَ طعمَ الرُّقادِ
يا أخِي الباذلُ المودَّةَ والنَّا
زلُ مِنْ مقلتِي مكانَ السَّوادِ
مَنَعَتْني عليكَ رقَّةُ قلبِي
مِنْ دُخولي عليكَ في العوَّادِ
لو بأُذني سمعتُ منكَ أنيناً
لتَفَقَّا معَ الأنينِ فؤادِي

وقال علي بن الجهم:

إنَّ دونَ السُّؤالِ والاعتذارِ
خطَّةٌ صعبةً علَى الأحرارِ
ليسَ جهلاً بها تورَّدها الح
رُّ ولكنْ سوابقُ الأقدارِ
إرضَ للسَّائلِ الخضوعِ وللقا
رفِ ذنباً مضاضةَ الاعتذارِ

وقال آخر:

هاجرتْنِي ثمَّ لا كلَّمتْني أبداً
إنْ كنتُ خنتكِ في حالٍ منَ الحالِ
أوِ انتجيتُ نجِيّاً في خيانتكمْ
وخفتُ خطرَتَها منِّي علَى بالِ
فسوِّغيني المُنى كيما أعيشَ بها
ثمَّ اطلقِي البخلَ ما أطلقتِ آمالي

ولبعض أهل هذا العصر:

أتوبُ إليكَ مِنْ نقضِ العهودِ
لتؤمنَ مقلَتِي منَ السُّهودِ
أسأتُ فلا تُعنَّى بالدَّعاوى
فها أنذا أُقرُّ بلا شهودِ
وقدْ كانَ الجحودُ عليَّ سهلاً
ولكنِّي أنِفتُ منَ الجحودِ
فقلْ لِي لا عدمتكَ مِنْ مسيءٍ
بما استحللتَ نقضَ عُرى العهودِ
ألا يا نفسُ قد أخطأتِ فيما
أتيتِ فإنْ نجوتِ فلا تعُودِي
فكمْ جانٍ تجافَى غيرَ جهلٍ
فعادَ فلمْ يذقْ طعمَ الهجودِ

وقال منصور النمري:

لعلَّ لهُ عذراً وأنتَ تلومُ
وكمْ لائمٍ قد لامَ وهو مُليمُ
أخٌ لكَ مشتاقٌ تذكَّرَ خلَّةً
لها عندهُ ودٌّ فباتَ يهيمُ
سلامٌ علَى أمِّ الوليدِ وذكرِها
وعهدٍ لها لمْ يُنسَ وهوَ قديمُ