كتاب الزهرة/الباب الثامن والأربعون من يئس ممن يهواه فلم يلتفت من وقته سلاه


الباب الثامن والأربعون مَنْ يئسَ ممَّن يهواهُ فلمْ يلتفتْ مِنْ وقتهِ سلاهُ

العلَّة في ذلك أنَّ اليأس هو مفارقة النَّفس للرَّجاء الَّتي كانت تعتاض به من حال الصّفات وتتماسك بمسامرته من سطوة الفراق الَّذي مُنيت بمشاهدته فأوَّل روعات اليأس تلقى القلب وهو غير مستعد لمقاومتها ولا مُصاب بمشاهدتها فتجرحه دفعةً واحدةً عادةً إلى غير عادةٍ والرَّوعة الثانية ترد على القلب وقد ذلَّلته لها الرَّوعة الأوَّلة فللثانية ألم المعاودة وليس لها ألمٌ وفقد العادة والرَّوعة الأوَّلة فيها مشاهدة المكروه ومفارقة ما تعوَّدت من المحبوب فإن هي لم تُتلف وفيها مكروهان لم تتلف الثانية وليس فيها إلاَّ أحدهما وكذلك كلّ روعةٍ يجلبها الفكر والتَّذكُّر هي أهون من الَّتي قبلها لأن المتقدّمة قدِ انذرت بها ووطَّأت المواضع لها حتَّى ينحلَّ ذلك أجمع من النَّفس حالاً بعد حالٍ لأنَّ دوام الرَّوعات إنَّما يكون بتنازع المخاوف والآمال فإذا وقع اليأس زال الخوف بوقوع المخوِّف وانقطع الأمل بذهاب المأمول.

ولعمري لقد أحسن البحتري حيث يقول:

حَنيني إلى ذاكَ القليبِ ولوعَتي
عليهِ وقلَّتْ لوعَتي وحَنيني
خلا أمَلي مِنْ يوسفِ بنِ محمَّدٍ
وأُوحشَ فكرِي بعدهُ وظنونِي
وكانتْ يدِي شلَّتْ ونفسِي تخوَّنتْ
ودُنيايَ بانتْ يومَ بانَ ودِيني
فوا أسَفي ألاَّ أكونَ شهدتهُ
فجاشتْ شمالِي عندهُ ويميني
فإذا بقيت الخواطر بغير محرك يزعجها تحللت مضاضة ذلك الألم الَّذي نزل بها ألا ترى أنَّ الحريق إذا صبَّ عليه الماء أفسد الماء موضعاً وأفسدت النار آخر..
قائمين فإذا ذهبا جميعاً بقي من تأثير النَّار يبس وحرارات ومن تأثير الماء برد ورطوبات ثمَّ تحلَّلا جميعاً على مرّ الأوقات والعلَّة في قتل روعة اليأس الأوَّلة أنَّ القلب يُحمى بورود المكاره عليه وسبيل سائر البدن أن يمدَّ القلب بمثل ما فيه من حرّ أو برد فإذا كثر ذلك انهتك حجاب القلب فكان التَّلف حينئذ لأنَّ القلب لا يصل إليه ألم نيَّة غير الألم الفكرة إلاّ أتلف صاحبه والعامَّة تقول شهق فلان فلا تصدَّعت مرارته ولعمري إنَّ المرارة لتحمى ولو زادت حرارتها لانصدعت ولو انصدعت لأتلفت ولكن إلى أن تحمل المرارة حمَّى تصدِّعها يكون قد حمي القلب وتصدَّع بل تقطَّع ومثل ذلك لو أنَّ قدراً من شمع وقار ثمَّ صبَّ فيها ماء ثمَّ أُوقد تحتها النار فلعمري إنَّ النَّار تذيب القار وإنَّ القار إذا ذاب انصبَّ الماء غير أنَّ قبل ذوب القار يكون انحلال الشمع وتليفةُ النَّار فكذلك القلب ينهتك حجابه بالحرارة المنحازة إليه قبل انهتاك الحرارة بحين طويل وتظنّ العامّة بل كثير من الخاصة أنَّ الزّفير سبب التَّلف وليس الأمر كذلك بل هو إذا أراد الله عزّ وجلّ سبب لدفع التَّلف وذلك أنَّ القلب إذا أفرط الحميُ عليه اجتلبت له القوى الغريزيَّة روحاً تدفع مضرَّة ذلك عنه فتجلبه له من نسيم الهوى الخارج عنه فربَّما جاء من النّسيم ما يدفع مضرَّة تلك الحرارة فيكون زفير ولا يكون تلف وربَّما ضعف النّسيم المجتلب وحمي في المجاري لشدَّة ما يلقاه من الحرارات فيعجز برده عن دفع مضرَّة الحرارة المحيطة بالقلب فتهتك الحرارة الحجاب ويكون التلف فلأنَّهم يرون التَّلف على أثر الزَّفرة يرون أنه قد وقع من أجلها وهو في الحقيقة إنَّما وقع من أجل ضدّها وقد تقتل أيضاً أوَّل مفاجأة الفرح الغالب بإفراط بردها كما تقتل أوَّل مفاجأة الحزن بإفراط حرّها لأنه ينحاز إلى القلب من سائر الأعضاء برد لا تفي به حرارة الغريزيَّة فيجمد دم القلب ويحدث التَّلف ولا يكون معه زفير ولا شهيق لأن النَّفس لا تجتلب الحرارة من خارج البدن كما تجتلب البرودة وقولهم أقرَّ الله عينك وأسخن الله عين فلان إنَّما هو لأنَّ دمعة الحزن حارَّة ودمعة الفرح باردة وكلّ واحدة من الفرح والحزن إذا استوطن النَّفس أنست بمجاورته قليلاً حتَّى يصير كالخلق المعتاد لها وكالطبع القائم بها ومن جيد ما قيل في باب التَّسلِّي عمَّن يئس منه:
هيَ الشَّمسُ مسكنُها في السَّماءِ
فعزِّ الفؤادَ عزاءً جميلا
فلنْ تستطيعَ إليها الصُّعودَ
ولنْ تستطيعَ إليكَ النُّزولا

وقال امرؤ القيس:

عيناكَ دمعُهما سِجالُ
كأنَّ شأنيهِما أوشالُ
مِنْ ذكرِ ليلَى وأينَ ليلَى
وخيرُ ما نلتَ ما ينالُ

أنشدني أحمد بن يحيى لأم الضحاك المحاربية:

سألتُ المحبِّينَ الَّذينَ تحمَّلوا
تباريحَ هذا الحبِّ في سالفِ الدَّهرِ
فقلتُ لهمْ ما يُذهبُ الحبَّ بعدَما
تبوَّأ ما بينَ الجوانحِ والصَّدرِ
فقالُوا شفاءُ الحبِّ يُزيلهُ
مِن آخرَ أوْ نأيٌ طويلٌ على هجرِ
أوِ اليأسُ حتَّى تذهلَ النَّفسُ بعدَما
رجتْ طمعاً واليأسُ عوناً علَى الصَّبرِ

وقال آخر:

فيا ربِّ إنْ أهلِكْ ولمْ تُروَ هامَتي
بليلَى أمتْ لا قبرَ أعطشُ مِنْ قبرِي
وإنْ أكُ عنْ ليلَى سلوتُ فإنَّما
تسلَّيتُ عنْ يأسٍ ولمْ أسلُ عنْ صبرِ
وإنْ يكُ عنْ ليلَى غنًى وتخلُّدٌ
فربَّ غنَى نفسٍ قريبٍ منَ الفقرِ

وقال كثيّر:

وإنِّي لآتيكمْ وإنِّي لراجعٌ
بغيرِ الجوَى مِنْ عندكم لمْ أُزوَّدِ
إذا دبَرانٌ منكِ يوماً لقيتهُ
أُؤمِّلُ أنْ ألقاكِ بعدُ بأسعدِ
فإنْ يسلُ عنكِ القلبُ أوْ يدعِ الصِّبى
فباليأْسِ يسلو عنكِ لا بالتَّجلُّدِ

وقال علي بن محمد العلوي:

كانَ يُبكيني الغناءُ سروراً
فأرانِيَ أبكِي لهُ اليومَ حُزنا
آهِ مِنْ خطرةِ الكبيرِ إذا ما
خطرَ اليأسُ دونَ ما يتمنَّى

وقال البحتري

أرجُو عواطفَ مِنْ ليلَى ويُؤيِسُني
دوامُ ليلَى علَى الهجرِ الَّذي تلِدا
ولمْ يعُدْني لها طيفٌ فيفْجَأني
إلاَّ علَى أبرحِ الوجدِ الَّذي عُهدا

وقال أيضاً

يرجُو مُقارنةَ الحبيبِ ودونهُ
وجدٌ يُبرِّحُ بالمَهارِي القُودِ
ومتى يُساعدُنا الوصالُ ودهرُنا
يومانِ يومُ نوًى ويومُ صدودِ
واليأسُ إحدَى الرَّاحتينِ ولنْ ترَى
تعباً كظنِّ الخائبِ المكدودِ

ولبعض أهل هذا العصر:

سأكفيكَ نفسِي لا كفايةَ غادرٍ
ولا سامعاً عذلاً ولا متعتّبا
ولكنَّ يأساً لمْ يرَ النَّاسُ مثلهُ
وصبراً علَى مرِّ المقاديرِ مُنصِبا
وفي دونِ ما بُلِّغتهُ بلْ رأيتهُ
بلاغٌ ولكنْ لا أرَى عنكَ مَذهبا

وله أيضاً:

حاولتُ أمراً فلمْ يجرِ القضاءُ بهِ
ولا أرَى أحداً يُعدَى علَى القدرِ
فقدْ صبرتُ لأمرِ اللهِ مُحتسباً
واليأسُ مِنْ أشبهِ الأشياءِ بالظَّفرِ
فالحمدُ للهِ شكراً لا شريكَ لهُ
ما أولعَ الدَّهرَ والأيَّامَ بالغيَرِ

وقال البحتري

عزَّيتُ نفسِي ببردِ اليأسِ بعدهمُ
وما تعزَّيتُ مِنْ صبرٍ ولا جلدِ
إنَّ النَّوى والهوَى شيئانِ ما اجتَمَعا
فخلَّيا أحداً يصبُو إلى أحدِ

وقال أيضاً

محلَّتُنا والعيشُ غضٌّ نباتهُ
وأفنيةُ الأيَّامِ خضرٌ ظلالُها
وليلَى علَى العهدِ الَّذي كانَ لمْ تغُلْ
نَواها ولا حالتْ إلى الصَّدِّ حالُها
وكنتُ أُرجِّي وصلَها عندَ هجرِها
فقدْ بانَ منِّي هجرُها ووصالُها
ولا قُربَ إلاَّ أنْ يعاودَ ذِكرها
ولا وصلَ إلاَّ أنْ يُطيفَ خيالُها

وقال الأحوص:

تذكَّرتُ أيَّاماً مضينَ منَ الصِّبى
وهيهاتَ هيهاتَ إليكَ رجوعُها
تُؤمِّلُ نُعمى أنْ تريعَ بها النَّوى
ألا حبَّذا نُعمى وسوفَ تريعُها
لعمرِي لراعَتْني نوائحُ غُدوةٌ
فصدَّعَ قلبِي بالفراقِ جميعُها
فظَلتُ كأنِّي خشيةَ البينِ إذ أنا
أخُو جِنَّةٍ لا يستبلُّ صريعُها

وقال آخر:

أمَا واللهِ غيرَ قلًى لليلَى
ولكنْ يا لهُ يأساً مُبينَا
لقدْ جعلتْ دَواوينَ الغَوانِي
سِوى ديوانِ حبِّكِ يمَّحينَا

وقال بشار بن برد:

أُحبُّ بأنْ أكونَ علَى بيانٍ
وأخشَى أنْ أموتَ منَ البيانِ
فقدْ أصبحتُ لا فرِحاً بدُنيا
ولا مُستنكراً دارَ الهوانِ
يُقلِّبُني الهوَى ظهراً لبطنٍ
فما يخفَى علَى أحدٍ يرَانِي

وقال ذو الرمة:

أفِي كلِّ أطلالٍ بها منكَ جنَّةٌ
كما جُنَّ مقرونُ الوَظيفينِ نازعُ
ولا بدَّ مِنْ ميٍّ وقدْ حِيلَ دونَها
فما أنتَ فيما بينَ هاتَينِ صانعُ
أمُستوجبٌ أجرَ الصَّبورِ فكاظمٌ
علَى الوجدِ أمْ مُبدِي الضَّميرِ فجازعُ

وقال مجنون بني عامر:

فيا قلبُ متْ حزناً ولا تكُ جازعاً
فإنَّ جزوعَ القومِ ليسَ بخالدِ
هويتَ فتاةً نيلُها الخلدُ فالتمسْ
سبيلاً إلى ما لستَ يوماً بواجدِ
أحنُّ إلى نجدٍ وإنِّي ليائسٌ
طوالَ اللَّيالي مِنْ قفولٍ إلى نجدِ
وإنَّكَ لا ليلَى ولا نجدَ فاعترفْ
بهجرٍ إلى يومِ القيامةِ والوعدِ

وقال آخر:

خَلتْ عنْ ثرَى نجدٍ فما طابَ بعدَها
ولوْ راجعتْ نجداً لطابَ إذنْ نجدُ
هو اليأسُ مِنْ ليلَى علَى أنَّ حبَّها
مُقيمُ المراسِي لمْ يزل عندَنا بعدُ

وقال آخر:

ألا لا أُحبُّ السَّيرَ إلاَّ مُصعِّداً
ولا البرقُ إلاَّ أنْ يلوحَ يمانِيا
علَى مثلِ ليلَى يقتلُ المرءُ نفسهُ
وإنْ كنتُ عنْ ليلَى علَى النَّايِ طاوِيا

ولبعض أهل هذا العصر:

يقولُ أبَعْدَ اليأسِ تبكِي صبابةً
فقلتُ وهلْ قبلَ الإياسِ بكاءُ
أبكي علَى مَن لستُ أرجُو ارتجاعهُ
وأبكي علَى أنْ لا يكونَ رجاءُ

وقال آخر:

يقولُونَ عنْ ليلَى عَييتَ وإنَّما
بيَ اليأسُ عنْ ليلَى وليسَ بيَ الصَّبرُ
فيا حبَّذا ليلَى إذِ الدَّهرُ صالحٌ
وسَقياً لليلى بعدَما خبُثَ الدَّهرُ
وإنِّي لأهواها وإنِّي لآيسٌ
هوًى وإياسٌ كيفَ ضمَّهما الصَّدرُ

وهذا من أحسن ما مرَّ ويمرُّ لأنه قد جمع لفظاً لطيفاً ومعنًى مليحاً هذا البائس قد علم أنَّ اليأس لا يكون معه هوًى لأحدٍ من النَّاس فأظهر التَّعجُّب منه لأنه خارج عن عادته ووجد في قلبه بقايا من الحزن لألم الفراق وليس هو هوًى قائمٌ ولكنَّه تأثير الاحتراق يزول حالاً بعد حالٍ إذ لم يدركه غليل الإشفاق ولم تحرّكه غلبات الاشتياق فظنَّ لشدَّة مضاضته أنَّ الهوى بعدُ مقيمٌ في قلبه.

وقال آخر:

نظرتُ وأصحابِي بنجدٍ غُديَّةً
لأُبصرهمْ أمْ هلْ أرَى فيَّ مطمعا
بنظرةِ مشتاقٍ رأَى اليأسَ والهوَى
جميعاً فعزَّى نفسهُ ثمَّ رجَّعا
شربتُ حراراتِ الفراقِ فلمْ أجدْ
كمثلكِ مشروباً أمرَّ وأوجَعا
وقاسيتُ تفريقَ الجميعِ فلمْ يدعْ
تفرُّقُ أُلاَّفي لعينيَّ مطعما

وأنشدني أحمد بن يحيى عن زيد بن بكَّار لرجل من بني أسد:

وكنتَ إذا اشتفيتَ بريحِ نجدٍ
وماءِ البيرِ مِنْ غللٍ شفاها
فلمَّا أنْ رأيتَ بها أُموراً
تقادمَ وهلُها وبدَا ثَآها
عرجتَ علَى المنازلِ غيرَ بُغضٍ
وأسمحَ علوُ نفسكَ عنْ هواهَا
وساقتكَ المقادرُ واللَّيالي
إلى أنْ لا تَراكَ ولا تَراها

ولبعض أهل هذا العصر:

أمنتُ عليكَ الدَّهرَ والدَّهرُ غادرُ
وسكَّنتُ قلبي عنكَ والقلبُ نافرُ
وما ذاكَ عنْ إلفٍ تخيَّرتُ وصلهُ
عليكَ ولا أنِّي بعهدكَ غادرُ
ولكنَّ صرفَ الدَّهرِ قدْ عجَّلَ الرَّدى
وأيأسَني منْ أنْ تدورَ الدَّوائرُ
فلستُ أُرجِّيهِ ولستُ أخافهُ
وهلْ يرتَجي ذو اللُّبِّ ما لا يحاذرُ
إذا بلغَ المكروهُ بي غايةَ المدَى
فأهونُ ما تجرِي إليهِ المقادرُ
تناسيتَ أيَّامَ الصَّفاءِ الَّتي مضتْ
لديكَ علَى أنِّي لها الدَّهرَ ذاكرُ
أُثبِّتُ قلبي عنكَ والوّدُّ ثابتٌ
وهل تصبرُ الأحشاءُ والحزنُ صابرُ
إلى اللهِ أشكُو لا إليكَ فإنَّهُ
علَى ردِّ أيَّامِ الصَّفاءِ لقادرُ

وقال العتبي:

فيا ويحَ قلبٍ عذَّبَ العينَ بالبُكا
علَى كلِّ شِفرٍ مِنْ مدامعِها غربُ
ويا ويحَ مشتاقٍ محَا اليأسُ ما رجَا
لحُرقتهِ شرقٌ وليسَ لها غربُ

وقال ذو الرمة:

تحنُّ إلى ميٍّ كما حنَّ نازعٌ
دعاهُ الهوَى فارتدَّ مِنْ قيدهِ قصرَا
ولا ميَّ إلاَّ أنْ تزورَ بمشرقٍ
أوِ الزُّرقِ مِنْ أطلالِها دِمناً قفرَا

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي لبعض الأعراب:

أظنُّ اليومَ آخرَ عهدِ نجدٍ
ألا فاقرأ علَى نجدٍ سلاما
فربَّتَما سكنتَ بحرِّ نجدٍ
وربَّتَما ركبتَ بها السَّواما
وربَّتَما رأيتَ لأهلِ نجدٍ
علَى العلاَّتِ أخلاقاً كراما
وإنِّي للمكلَّفُ حبَّ نجدٍ
وإنِّي للمسرُّ بها السَّقاما

فهؤلاء الذين ذكروا أشعارهم قد سلوا على أوَّل روعات اليأس فمنهم من تشاغل بإظهار الحنين تجمّلاً للنَّاس ومنهم من صرَّح بالسّلوِّ عن نفسه ومنهم من اشتغل بمعالجة ما بقي من الهوَى في قلبه ونحن الآن نذكر طرفاً من أخبار من تمكَّنت الرَّوعة الأولى من نفسه وتظاهر سلطانه على قلبه فبلغ إلى ما لا يمكن منه تلافٍ ولا ينفع فيه استعطاف حدَّثني أبو طاهر الدمشقي قال حدثنا حامد بن يحيى النَّجليّ قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مُزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سريَّة وقال إن رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذّناً فلا تقتلوا أحداً وإنَّا قد لقينا قوماً فأسرناهم ورأى نسوة وهو في ذمَّته فدنا إلى هؤلاء أفض إليهنَّ فدنَا إلى امرأة منهنَّ فقال أسلمي حُبيش قبل نفاذ العيش.

أرأيتِ إذ طالبتكمْ فوجدتمُ
بحَليةَ أوْ ألفيتكمْ بالخوانقِ
ألمْ يكُ حقّاً أنْ ينوَّلَ عاشقٌ
تكلَّفَ إدلاجَ السُّرى والودائقِ
فلا ذنبَ لِي قدْ قلتُ إذ أهلُنا معاً
أثِيبي بودٍّ قبلَ إحدَى الصَّفائقِ
أثِيبي بودٍّ قبلَ أنْ تشحطَ النَّوى
وينأَى الأميرُ بالحبيبِ المفارقِ

قال فقالت وأنت فحييت عشراً وتسعاً وترَا وثمانياً تترَا قال ثمَّ قدَّمناه فضربنا عنقه فنزلت إليه امرأة تخصُّه فأكبَّت عليه فما زالت تحنُّ عليه حتَّى ماتت وقال الجاحظ ذُكرت لأمير المؤمنين المتوكّل لتأديب بعض ولده فلمَّا رآني استشبع منظري فأمر لي بعشرة آلاف وصرفني فخرجت من عنده فلقيت محمَّد بن إبراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السَّلام فعرض عليَّ الخروج معه وقرَّب حرَّاقته ونصب ستارته وأمر بالغناء فاندفعتْ عوَّادة له فغنَّت:

كلَّ يومٍ قطيعةٌ وعتابُ
ينقضِي دهرُنا ونحنُ غِضابُ
ليتَ شِعري أنا خُصصتُ بهذا
دونَ ذا الخلقِ أمْ كذا الأحبابُ

ثمَّ سكتت وأمر طُنبوريَّة فغنَّت:

وا رحمَتَا للعاشِقينا
ما إنْ أرَى لهمُ مُعينا
كمْ يهجرونَ ويُضربونَ
ويُقطعونَ فيصبِرُونا

فقالت لها العوَّادة فيصنعون ماذا؟ قالت ويصنعون هكذا وضربت بيدها إلى السّتارة فهتكتها وبرزت كأنَّها فلقة قمر فزجَّت نفسها إلى الماء قال وعلى رأس محمَّد غلام يضاهيها في الجَمال وبيده مِذبَّة فلمَّا رأَى ما صنعت ألقى المذبَّة من يده وأتى الموضع فنظر إليها وهي تمرُّ بين الماء فأنشأ يقول:

أنتَ الَّتي غرَّقْتِني
بعدَ القضَا لوْ تعلَمينا

وزجَّ بنفسه في أثرها فأدار الملاَّح الحرَّاقة فإذا بهما معتنقان ثمَّ غاصا فلم يُريا فهال ذلك محمداً واستفظعه وقال لي أبا عمرو ولتحدّثني بحديث يُسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما قال فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك وقد قعد للمظالم وعُرضت عليه القصص فمرَّت به قصَّة فيها إن رأى أمير المؤمنين أعزَّه الله أن يُخرج إليَّ جاريته فلانة حتَّى تغنِّيني ثلاثة أصوات فعل فاغتاظ سليمان وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه واسترجع وأتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه فلمّا وقف بين يديه قال له ما الَّذي حملك على ما صنعت؟ قال الثّقة بحملك والاتّكال على عفوك فأمره بالقعود حتَّى إذا لم يبق من بني أُميَّة أحد إلاَّ خرج فأمر فأُخرجت الجارية ومعها عودها ثمَّ قال قل لها غنِّي فقال لها الفتى غنِّي:

أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التَّدلُّلِ
وإن كنتِ قدْ أزمعتِ هجري فاجْمِلي

فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:

تألَّقَ البرقُ نجديّاً فقلتُ لهُ
يا أيُّها البرقُ إنِّي عنكَ مشغولُ

فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:

حبَّذا رجعُها إليها يدَيْها
في يدَيْ درعِها تحلُّ الإزارا

فغنَّته فقال له قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فما استتمَّ شربه حتَّى وثب فصعد على قبَّة لسليمان فرمى بنفسه على دماغه فقال سليمان إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون أتراه الأحمق الجاهل ظنَّ أنِّي أُخرج الجارية إليه وأردُّها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدَّقوا عنه فلمَّا انطلقوا بها نظرت إلى حفرة في دار سليمان قد أُعدَّت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم وأنشأت تقول:

مَنْ ماتَ عشقاً فليمتْ هكذا
لا خيرَ في الحبِّ بلا موتِ

وزجَّت بنفسها على دماغها فماتت فسُري عن محمَّد وأحسن صلتي وذكر لنا أنَّ محمَّداً بن حميد الطُّوسي كان جالساً مع ندمانه يوماً فغنَّت جارية له وراء السِّتارة:

يا قمرَ القصرِ متى تطلعُ
أشقَى وغيرِي بكَ مُستمتعُ
إنْ كانَ ربِّي قدْ قضَى كلَّ ذا
منكَ علَى رأْسِي فما أصنعُ

قال وعلى رأس محمَّد غلام بيده قدح يسقيه فرمى بالقدح من يده وقال تصنعين هكذا ورمى بنفسه من الدَّار إلى الدِّجلة فهتكت الجارية السِّتارة ثمَّ رمت بنفسها على أثره فنزل الغاصة خلفها فلم يجدوا واحداً منهما فقطع محمَّد الشُّرب وقام من مجلسه وأخبار هذا الباب أكثر من أن يتضمَّنها مثل هذا الكتاب غير أنَّا اقتصرنا منها على ما يكون معه مضربين عنها ولا مكترثين بها ولقد كادت شهرتها له لتمنعنا عن ذكرها غير أنَّها كانت شاهداً لما قدَّمناه وأحببنا أن يؤيّد بذكرها على ما شرطناه.