كتاب الزهرة/الباب الثاني والثمانون ذكر آداب المجالسات وحسن المنادات


الباب الثاني والثمانون ذكر آداب المجالسات وحسن المنادات

حدَّثنا العباس بن أحمد الدوري قال: حدَّثنا يحيى بن معين قال: حدَّثنا حجاج بن محمد الأعور قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي زياد عن هشام بن عروة قال: رأيت ربيعة بن عباد وهو يحدث أبي، وأبي يسأله قال: إن ابن عفان رضي الله عنه كان أغزانا في غزوة، فمررنا فيها على معاوية، وقد كان وجد علينا في شيء بلغه من أمرنا في غزاتنا تلك، فدخلنا إليه، فجعلنا نعتذر إليه، ونكذِّب ما بلغه، وجعل يوافقنا على بعض ذلك، ويؤنبنا فيه، ثمَّ قام رجل فقال: أصلح الله الأمير، إنا مكذوبٌ علينا، فلينظر الأمير في أمرنا، فإن كنَّا أبرياء غفر لنا ذلك، وإن كان لنا ذنب عفاه عنَّا. فقال معاوية: فكذاك إذاً، ثمَّ قال الرَّجُل: إن كنتُ لم أذنب فلا تظلمنَّني، وإن كنت ذا ذنبٍ فسوف أتوب، ثمَّ أقبل في وجوه القوم حيث جلس معاوية فقال:

ولا تنس قربان الأمير شفاعةً
لكلِّ امرئ فيما أفادَ نصيبُ

قال: فقبل منَّا معاوية، وصنع إلينا معروفاً.

ومن جيد ما قيل في حسن المساعدة قول دريد بن الصمة وقد أغار وأخوه في نفر من قومهم على نِعمٍ لقيس، فاستاقوها، فلمَّا كانوا في بعض الطريق، ترك عبد الله بن الصمة فقال له أخوه دريد: ليس هذا منزلنا، إن قيساً غير نائمة عن أموالها. فقال: والله لا أبرح حتَّى آكل وأعلف وأشرب، فبينا هم كذلك إذْ رأوا غبرة، فقالوا لرقيبهم: ما ترى؟ فقال: أَرَى خيلاً كالعقبان، عليها فوارس كالصبيان، فقال: تلك فزارة ولا بأس. ثمَّ رأوا غبرة فقالوا: ما ترى؟ فقال: أَرَى خيلاً كأنَّ قوائمها تنقلع من الصخر، قال: تلك عبس والموت. فلم يلبثوا أن خالطتهم الخيل، فصاح صائح: أودى فارس، فنظروا فإذا هو عبد الله بن الصمة، فقال دريد في ذلك شعراً طويلاً، قد ذكرنا طرفاً منه في بعض أبواب المراثي، ومع ذلك يقول في مساعدته أخاه على الرَّأي الَّذي لا يرضاه:

أمرتهُمُ أمري بمُنقطع اللِّوى
فلم يسْتبينوا النُّصحَ إلاَّ ضُحى الغدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى
ضلالتهم وأنَّني غيرُ مُهْتدِي
وهل أنا إلاَّ من غزيّة إن غَوتْ
غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةَ أرشُدِ

قال آخر:

أخوك الَّذي إن قمت بالسَّيف عامداً
لتضربَهُ لم يستغشّك في غدِ
ولو جئتَ تبغي كفَّه لتبينَها
لبادَرَ إشفاقاً عليك من الرَّدي
يرى أنَّه في الودِّ وانٍ مقصرٌ
علَى أنَّه قد زادَ فيه علَى الجهدِ

وفيما بلغنا أن العباس بن عبد المطلب أوصى ابنه عبد الله حين اصطفاه عمر بن الخطاب أن قال له: يا بني. إن هذا الرَّجل قد قدَّمك على غيرك، فاحفظ عنِّي ثلاثاً: لا تُجري عليك كذباً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تفشينَّ له سرّاً.

ومن جيد ما قيل في السِّرّ قول النابغة:

لعمرُك إن وشاة الرِّجا
لِ لا يتركونَ أديماً صَحيحا
فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك
فإن لكلّ نَصيح نصيحا

قال آخر:

وفتيان صدق لستُ أطلِعُ بعضَهم
علَى سرِّ بعض غير أنِّي جماعُها
يبيتونَ شتَّى في البلادِ وسرّهم
إلى صخرةٍ صمَّاء أعيا انصداعها

قال آخر:

سأكتمه سرِّي وأحفظُ سرَّه
ولا غرَّني أنِّي عليه كريمُ
حلين فينسى أوْ جهول يضيعُه
وما الناسُ إلاَّ جاهل وحليمُ

قال آخر:

لا تسألي النَّاس ما مالي وما ورقي
وسائلي الناسَ ما وقعي وما خُلُقي
أُعطي السّنانَ غداة الرَّوع حصَّتهُ
وعامل الرُّمح أرويه من العَلَقِ
وأطعن الطَّعنة النَّجلاء عن عُرُضٍ
وأحفظُ السرَّ فيه ضَرْبة العُنُقِ

قال قيس بن الخطيم:

وإن ضيَّعَ الأقوامُ سرّاً فإنَّني
كتومٌ لأسرارِ العَشير أمين
يكونُ لهم عندي إذا ما ضمنتُهُ
مكانٌ بسَوداء الفؤاد كمين
سَلي مَن نديمي في النّدامَى ومألفي
ومنْ هو لي عند الصَّفاء خدين

قال آخر:

خير إخوانك المشاركُ في المرّ
وأين الشَّريك في المرِّ أينا
ذاك مثل العقبان إن مسَّه النَّ
ارُ جلاه لغلامٍ وازداد زينا
لا يني شاهداً بسرّك ما
دمت وإن غبتَ كانَ أُذْناً وعَيْنا

وقال:

وكنت إذا الصديق أراد غيظي
وأشرقني علَى حَنَق بريقي
غَفَرت ذنوبَهُ وكظمتُ غيظي
مخافة أن أكونَ بلا صديقِ

وقال آخر:

وأخوك الَّذي إن سرَّك الآمر سرّهُ
وإن نابَ أمرٌ ظلَّ وهو حزينُ
يُقرِّب من قرَّبت من ذي مودَّة
ويُقصي الَّذي أقصيتهُ ويُهينُ

وقال آخر:

عليَّ لإخواني رقيبٌ من الصّفا
تبيد الليالي وهو ليس يبيدُ
يُذكرنيهم في مغيب ومسهدِ
فسيَّان منهم غائب وشهيدُ
وإنِّي لأستحيي أخي أن أبرَّهُ
قريباً وأن أجفوه وهو بعيدُ

قال إبراهيم ابن العباس:

أميلُ مع الصديق علَى ابن أُمِّي
وأحذر للصَّديق من الشَّقيقِ
وإنْ أبصرتني حرّاً مطاعاً
فإنَّك واجدي عبدَ الصَّديقِ
أُفرِّق بين معروفي ومَنِّي
وأجمع بين مالي والحقوقِ

وقال الصلتان العبدي:

إذا ما أخي يوماً تولَّى بودِّه
وأنكرتُ منه بعض ما كنتُ أعرفُ
عطفت عليه بالمودَّة إنَّني
علَى مدبر الإخوانِ بالبرِّ أعطفُ
ولستُ وإنْ ولَّى بودّ علَى الَّذي
بذلتُ له من صفو ودِّي آسفُ
فأغفرُ منه ذنبَهُ لاصطناعِهِ
وأسترُ منه بعض ما يتكشفُ
فإغضاؤك العينين عن عيب صاحبٍ
لعمرك أبقى للإخاء وأشرفُ

قال الطائي:

ذو الودِّ منِّي وذو القُربى بمنزلةٍ
وأخوتي أسوةٌ عندي وإخواني
عصابة جاورت آدابَهم أدبي
فهم وإنْ فُرِّقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكانٍ واحدٍ وغدتْ
أبدانُنا بشآمٍ أوْ خراسانِ

قال معن بن أوس المزني:

إذا أنتَ لم تنصفْ أخاكَ وجدتَهُ
علَى طَرَف الهِجران إنْ كانَ يعقلُ
وتركبُ حدَّ السَّيف من أن تضمهُ
إذا لم يكن عن شفرةِ السَّيف معدلُ
ستُقطع في الدُّنيا إذا ما قطعتني
يمينُك فانظرْ أيَّ كفٍّ تبدّلُ

قال أبو نهشل حميد بن عبد الحميد الطوسي:

عدلتُ عن الرحاب إلى المضيق
وزرتُ البيت من غير الطَّريقِ
وتظلم عند طاعتك الموالي
وليس الظلم من فعل الصديقِ
تجود بفضل عفوك للأقاصي
وتمنعه من الخلّ الشَّفيقِ
وتحملني وأنت شقيق نفسي
علَى هول الصَّواعق والحريقِ
وتعرضُ حاجتي فتُعدُّ فيها
شفيعاً غير منطقك الرَّقيقِ
تقدمُ سوءَ ظنّك بي وتنسَى
محافظتي علَى وَجب الحقوقِ
أما والرَّاقصات بذات عرق
وربّ الرُّكن والبيتِ العتيقِ
لقد أطلعتَ لي تُهماً أراها
ستحملني علَى مضض العقوقِ
وأحسبُ ها هنا عتباً وسخطاً
ولست لسخط عبدك بالمطيقِ

قال محمد بن حازم:

مَن يخبرك بسبٍّ عن أخٍ
فهو الشَّاتمُ لا مَن شَتَمك
ذاك أمرٌ لم يواجهك به
إنَّما اللَّومُ علَى مَن أعلَمَك
إن ذا اللؤمِ إذا أكرمتَهُ
حسب الإكرام حقّاً لزمك

قال آخر:

إذا كنت لا يُرضيك عن من تودُّهُ
سوى جمع ما تهوى فأنت المُفنَّدُ
خذ العفو ممَّن قد رضيت إخاءَهُ
وحسبك منه أن يصُحَّ التَّودُّدُ

قال آخر:

فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا
لاقيتُ أهلَ الوفاءِ والكرمِ
أرسلتُ نفسي على سجيَّتها
وقلتُ ما شئتُ غيرَ محتشمِ

قال آخر:

خذي العفو منِّي تستديمي مودَّتي
ولا تنطقي في سورتي حينَ أغضَبُ
فإنِّي رأيتُ الحبّ في القلبِ والأذَى
إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهبُ

قال الحسين بن مطير:

ونفسك أكرم عن نفوس كثيرة
فما بك نفس بعدها تستعيرها
وما الجود عن فقر الرِّجال ولا الغِنَى
ولكنَّه خيمُ الرِّجال وخيرها

قال زهير:

وليس لمن يركب الهول بغيةٌ
وليس لأمرٍ حطَّهُ الله حاملُ
إذا أنت لم تعرض عن الجهلِ والخنا
أصبت حليماً أوْ أصابك جاهلُ

قال عدي بن زيد:

كفى زاجراً للمرء أيَّام دهره
تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها من الغيّ والرَّدَى
مَتَى تغوها تغو الَّذي بك يقتدي
وإن كانت النعماء عندك لامرئٍ
كفاك بها فاحدُ المطالب وازددِ
وللبَخلة الأولى لمن كانَ باخلاً
أعفُّ ومن يبخل يُلَمْ ويزهَّدِ
إذا ما امرؤ لم يرجُ منك هوادةً
فلا ترجُها منه ولا دفع مشهدِ
وعَدِّ سواهُ القوم واعلم بأنَّه
مَتَى ما يبُنْ في اليومِ يصرمك في الغدِ
إذا أنت فاكهتَ الرِّجال فلا تَلَعْ
وقلْ مثل ما قالوا ولا تتزيَّدِ
عن المرءِ لا تسأل وابصر قرينه
فإنَّ القرين بالمقارن يقتدي
وظلم ذوي القُربى أشدُّ مضاضة
علَى المرءِ من وقع الحسامِ المُهنَّدِ
وفي كثرة الأيدي عن الظّلم زاجرٌ
إذا حضرتْ أيدي الرِّجال المُشهّدِ

قال آخر:

إذا أنتَ أعطيتَ القليلَ فلا تكن
ل مستقلاً عن طريقِ التجبّرِ
ولا من طريق المنِّ مستكثراً لما
فعلت وأنت المرءُ غير مُقصّرِ
وعُد للَّذي أوليته العُرف مرَّةً
بعائد فضلٍ منك غير مكدَّرِ
ولا تستعض منه ثناءً فترجعا
سواءٌ ويبقَى الفضل كالمتحيّرِ

قال آخر:

دار الصُّديق إذا استشاط تغيّظاً
فالغيظ يُخرجُ كامن الأحقادِ
ولربَّما كانَ التغضّبُ باحثاً
لمثالب الآباء والأجدادِ

قال سعيد بن وهب:

لا خير في الشّرب إلاَّ مع أخي ثقةٍ
إن سُرَّ غنَّى وإن غنيته طربا
يعطيك صمتاً إذا حدثته وإذا ما
شربتَ حيّاً وإن خالطته شَرِبا

قال آخر:

أَرَى للخمر حقّاً لا أراه
لغير الرَّاح إلاَّ للنَّديم
هو القطب الَّذي دارتْ عليه
رحى اللَّذّات في الزَّمن القديم

قال آخر:

ألم تعلمي يا سلمُ أنِّي موكلٌ
بما سرَّ ندمانيّ في العسرِ واليُسر
وأنيَ لم أبسط لساني ولا يدي
لوجه نديمي حين فنَّدني سكري

قال آخر:

ليس من شأنه إذا دارت ال
كأسُ فأزرى إدمانها بالحُلُومِ
قول ما يسخط النَّديم وإن
أسخطَهُ عند ذاك قول النَّديمِ

قال آخر:

ورضيع راضعتُ في كبر السَّ
نِّ وأضحَى أخاً لديَّ مُطاعا
لم يكن بيننا رضاعٌ ولكن
صيَّرت بيننا المُدام رضاعا

قال يحيى بن زياد:

ولستُ له في فضلة الكأسِ قائلاً
لأصرفَهُ عنها تحسُّ وقد آبى
ولكن أحييه وأكرمُ وجهَهُ
وأشربُ ما أبقى وأسقيه ما اشتهى

قال حميد بن عبد الحميد الطوسي لبعض من استأذن عليه وهو في النبيذ:

إن كنت ترضَى بالسّواءِ وبالَّتي
تدع الصَّحيح من الرِّجال سقيما
فادخلْ علَى حجرِ الحداق ترَى لها
فضلاً أبانَ خلائقاً وجُسوما
مُتفضِّلينَ مقددين قد أسندوا
زقّاً أمقّ وبَربَطاً مختوما

قال آخر:

أُعيذك من رَكبةٍ بالعشيّ
تحطُّ وتهدمُ قدر النَّبيلِ
فإما رجعت بذلِّ الحجا
ب وإما حللتَ محلَّ الثَّقيلِ