كتاب الزهرة/الباب الخامس والثمانون ذكر ما قيل في ذم الإخوان وشكاية الزمان


الباب الخامس والثمانون ذكر ما قيل في ذم الإخوان وشكاية الزَّمان1

حدَّثنا محمد بن سلمة الواسطي قال: حدَّثنا يزيد بن هارون ومحمد بن حرب قالا: حدَّثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عروة عن عائشة قال: كانت عائشة من أفصح النَّاس وأقولهم لشعر لبيد. قالت: قال لبيد في الجاهلية:

ذهبَ الَّذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجربِ
يتأكَّلون ملاذةً وخيانةً
ويُعاب قائلهم وإن لم يَشغبِ

قالت عائشة: وكيف بلبيد لو أدرك زماننا هذا، قال عروة: فكيف بعائشة لو أدركت ما نحن فيه اليوم. قال هشام: كيف بأبي لو أدرك ما نحن فيه اليوم.

حدَّثنا أبو البحتري عبد الله بن محمد بن شاكر قال: حدَّثنا محمد بن جعفر الأحمر قال: كنَّا يوماً عند أبي نُعيم فتذاكرنا حديث عائشة حيثُ ذكرت شعر لبيد:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم

قال: فأنشدنا أبو نُعيم:

ذهب الناسُ فاستقلُّوا وصرنا
خَلَفاً في أراذل النسناسِ
في أُناسٍ تعدُّهمْ في عديد
فإذا فُتشوا فليسَ بناسِ
كلَّما جئتُ أبتغي النَّيل منهمْ
بدروني قبل السُّؤال بياسِ
وبكوا لي حتَّى تمنَّيت أنِّي
مُفلت عند ذاك رأسٌ براسِ

قال آخر:

ذهبَ الرِّجالُ المُقتدى بفعالهمْ
والمُنكّرون لكلِّ أمرٍ مُنكر
وبقيتُ في خَلف يزين بعضَهم
بعضاً ليدفع معورٌ عن مِعْور

ولطفيل بن أسود المحاربي:

أشاقك ربعٌ بالسّتار قديمُ
أقامَ وما مَن حلَّ فيه مُقيمُ
لإقحاط أعوامٍ كأنَّ وليدَها
وإن كانَ حيّ الوالدين يتيمُ

قال آخر:

أخٌ بيني وبين الدَّهر
صاحب أيِّنا غَلَبا
صديقي ما استقامَ فإنْ
نبا دهرٌ عليَّ نبا
وثبتُ علَى الزَّمان بهِ
فعادَ بهِ وقدْ وثبا
ولو عادَ الزَّمان أخاً
لعادَ بهِ أخاً حَدِبا

قال ابن طوعة الفزاري:

فلو أنَّ قومي أكرموني وأتأقُوا
سجالاً بها أسقي الَّذين أُساجلُ
كَفَفتُ الأذى ما عشتُ عن حلمائهم
وناضلتُ عن أحسابهم مَنْ يناضلُ
ولكنَّ قومي عَزّهم سفهاؤهم
عن الأمرِ حتَّى ليسَ للأمرِ حاملُ
تُظوهرَ بالعُدوان واختيل بالغِنَى
وشوركَ في الرَّأي الرِّجالُ الأماثلُ

قال آخر:

إنِّي ابتليتُ بمعشر
نَوْكى أخفُّهمُ ثقيلُ
قومٌ إذا جالستَهم
صَدِئت لقربهم العُقولُ
قومٌ حضورٌ غُيّبُ الأذ
هان ليس لها قبولُ
لا يفهمون حديثهم
ويحلُّ عنهم ما أقولُ
فهم كثيرٌ بي وأع
لمُ أنَّني بهم قليلُ

قال عمرو بن قميئة:

رمتني بناتُ الدَّهر من حيث لا أَرَى
فكيف بمن يُرمى وليس يرامِ
فلو أنَّها نبلٌ إذاً لاتَّقَيْتها
ولكنّما أُرمى بغير سهامِ
وأفنى وما أفني من الدَّهر ليلةً
ولم يُغنِ ما أفنيتُ سلك نظامِ
وأهلكني تأميلُ يومٍ وليلةٍ
وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ

وللبحتري:

لنا في كلِّ يوم أصدقاء
تعود عِدًى وحالاتُ تجولُ
وما فقدُ الجميل لقرب عهْدٍ
فيسأل عنه بل نُسيَ الجميلُ

ولإبراهيم بن العباس:

وكنتَ أخي بإخاءِ الزما
ن فلما نَبا صرتَ حرباً عوانا
وكنتُ أعدُّك للنّائبا
ت فقد صرتُ أطلب منه الأمانا
وكنتُ أذمُّ إليك الزما
ن فقد صرت أحمد فيك الزَّمانا

وقال إبراهيم بن العباس أيضاً:

أخٌ كنت أوى منه عند ادّكاره
إلى ظلِّ أيام من العزِّ باذخِ
جَرتْ نُوَبُ الأيَّام بيني وبينه
فأقلعن منّا عن ظلوم وصارخِ
فإنِّي وإعدادي لدهري محمداً
كملتمسٍ إطفاء نارٍ بنافخِ

وذكر لنا عن نُعيم بن حماد أنَّه قال: بلغنا أن سهماً وجد على عهد تُبَّع مُلقًى في وادٍ مكتوب عليه بيتان من شعر، فترجم فإذا هو:

ألا هل إلى أبيات شيخٍ بذي اللِّوى
لوى الرمل فاصدقني النُّفوس تعادُ
بلادٌ بها كنّا وكنّا نحلُّها
إذا النَّاس ناس والبلاد بلادُ

قال فنظرنا، فإذا السهم منذ سقط إلى أن وجد ألف عام.

قال إبراهيم بن العباس:

نِعْمَ الزَّمانُ زماني
الشأن في الخُلاّنِ
ممَّن رمانيَ لمّا
رأى الزَّمان رماني
ومن ذخرت لنفسي
فعادَ ذخرَ الزَّمانِ
وقيل لي خذ أماناً
من أعظم الحدثانِ
لما التمستُ أماناً
إلاَّ من الإخوانِ

وأنشدنا أبو طاهر الدمشقي:

إذا مجلس الأنصار خفّ من أهله
وأقفر من أهل الصفاءِ المُثلَّمُ
فما النَّاس بالناس الذين عهدتهم
ولا الدَّار بالدار الَّتي كنت تعلمُ

ولآخر:

جرت رحمٌ بيني وبين منازلٍ
سواءً كما يستنزلُ الدَّين طالبُهْ
فربَّيتُه حتَّى إذا كان شيظماً
يكادُ يساوي غارب الفحل غاربُهْ
تعمَّدَ حقي ظالماً ولوى يدي
لوى يده الله الَّذي هو غالبُهْ

قال علي بن جبلة:

جمعتُ له جمع امرئ ذي مودَّةٍ
وحُطتُ عليه الودّ من كل جانب
وأصفيته منّي هوًى لا يشوبُه
خلافٌ ولا يبليه طولُ التجارب
فلما زهاه الفضل وامتدَّ شأوه... وأصبح في الإخوان جمّ..
.
رماني بسهم كنت قبل أريشه
وودَّع منّي صاحباً أيَّ صاحب

قال أبو هشام:

لولا القديمُ وحرمةٌ مرعيَّةٌ
لقطعتُ ما بيني وبين هشام
لا حرمة الأدب القديم يصونُها
وأراه يدفع حرمةَ الإسلام
فكأنما كانت مودّتنا له
وإخاؤنا حلماً من الأحلام

قال آخر:

تعالى الله ما قرَّب
بعض النَّاس من بعضِ

قال آخر:

همومُ أناسٍ في أمور كثيرةٍ
وهمّي من الدُّنيا خليل مساعدُ
نكونُ كروحٍ بين جسمين فُرّقا
فجسماً هما جسمان والروح واحدُ

وقال آخر:

رَبِّ قد ملَّني من كنتُ أحسبُهُ
إن مُتُّ ماتَ معي صبراً وإسعادا
فراحةً بخلاصٍ أوْ بعاجلةٍ
من المنايا نغير العمر إنفادا

أنشدني أحمد بن أبي طاهر:

وصديقٍ لا عيب فيه إذا
فُتّشَ إلاَّ اغتيابُهُ للصديق
إن يلاحظْكَ فالشفيق وإن
غبتَ فسبعٌ عليك غيرُ شفيق

قال آخر:

يا صاح في قلبه البغضاء راكدةً
فالنَّفس تكتمها والعين تُبديها
والعين تُعرف في عيني مُحدِّثِها
إن كان من حزبها أوْ من أعاديها

قال آخر:

إنِّي وإن بني بكرٍ علَى خُلقٍ
عما قليل أراه سوف ينكشفُ
يُزمِّلون جَنين الضِّغن بينهم
والضّغنُ أشوهُ أوْ في وجهه كلفُ
إن كاتموا بالقِلى عمّت عيونهُمُ
والعين تُظهر ما في القلب أوْ تَصِفُ

قال آخر:

تخذْتُكم درعاً وتُرساً لتدفعوا
نبالَ العِدى عنّي فكنتم نِصالَها
وقد كنت أرجو منكمُ خيرَ ناصرٍ
علَى حين خِذلان اليمين شِمالَها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي
ذِماماً فكونوا لا عليها ولا لها
قِفوا وقفة المعذور عنّي بمعزلٍ
وخلُّوا نِبالي والعِدى ونبالها

قال آخر:

ألا أيُّها الدَّهر الَّذي قد مللته
لتخليطه هلاّ مللت حياتي
فقدْ وجلال الله حُيِّيْتَ دائباً
إليَّ علَى حبِّ الحياة وفاتي

قال آخر:

كُسالى إذا لاقيتهم غير منطق
يُعَلُّ بها المحزون وهو عناءُ
وإنِّي لأرجوكم علَى بطئ سعيكم
كما في بطون الحاملات رجاءُ
أخبّر من لاقيت إنْ قد وفيتُمُ
ولو شئت قال المخبرون أساءوا
فهلاّ سعيتم أسرة مازنٍ
وهل كلُّ حي في الوفاء سواءُ

قال آخر:

من الأخلاّء من أمست مودته
مع الزَّمان إذا ما خافَ أوْ عتبا
إذا وترْتَ امرءاً فاحذرْ عداوته
من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا

قال آخر:

ومواربٍ يخفي ضغائنه
حسن الثياب وعرضهُ خَلِق
فتوقَ خلة كل ذي مَلقٍ
متلونٍ وانظر بمن تثِق

قال آخر:

لكل امرئ شكل من النَّاس مثله
فأكثرهمْ شكلاً أقلُّهمُ عقلا
وكلُّ أناس آلفون لشكلهمْ
فأكثرهم عقلاً أقلُّهمُ شكلا
لأنَّ الكثير العقل ليس بواحدٍ
له في شريح حين تعقده عدلا
وكلُّ سفيهٍ طائش إن فقدتَهُ
وجدت له في كل ناحيةٍ مثلا

قال آخر:

وصاحب كان لي وكنتُ له
أشفق من والدٍ علَى ولدِ
كنا كساقٍ سعت بنا قدم
أو كذراعٍ نيطت إلى عَضُدِ
حتَّى إذا استرفدت يدي يده
كنت كمسترفدٍ يد الأسدِ

قال آخر:

فأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ
فإن أعرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما
عرفتُك في الحاجات إلاَّ تنائيا
فعين الرّضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ
ولكن عيب السخط تبدي المساويا

وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً وأجوده معنًى، وأنَّه لسهل المأخذ قريب من الحق وقد ذكرنا في هذا الباب والَّذي قبله من مدح الزمان، وذمه، ومساوئ الإخوان ومحاسنهم، ومن وصف وفائهم وتغيّرهم ما يدل ذوي الخواطر الصحيحة على أن الفريقين جميعاً معاً غير مصيبين للحقيقة إذْ الزَّمان لم يعر من سداد وفساد، ولم يخل من أهل وفاءٍ ورعاية، ومن أهل غدر وخيانة. فمن سامحه الزَّمان بما يهواه ويثبت له الإخوان على الخلق الَّذي يرضاه، مدح زمانه، وحمد إخوانه. ومن جرى عليه الأمر بخلاف ذلك، صرف الأمر فيه إلى فساد الزمان، وغدر الإخوان، على أن منهم من يذم إخوانه، ويعذر زمانه. ألم تسمع الَّذي يقول:

أَرَى حُلَلاً تُصانُ علَى رجالٍ
وأعراضاً تُهان فلا تُصانُ
يقولون الزَّمان به فسادٌ
وهم فسدوا وما فسد الزَّمان

قال آخر:

إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناسُ
فلا يغرنك أضغانٌ مُزَمَّلةٌ
قد يضربُ الدّبر الرّامي بإحلاسُ
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيَهُ
لا يذهب العرف بين الله والنَّاس

وأنصف من هؤلاء كلهم الَّذي يقول:

وأعيب العيب بعد الشرك تعرفه
في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب النَّاس تبصرُهُ
فيهم وليس ترى العيب الَّذي فيها
يا عائب النَّاس قد أصبحت متهماً
إذْ عِبْتَ منهم أموراً أنت آتيها
كالمُلبسِ النَّاس من عُري وعورته
للناس باديةٌ ما إن يواريها


هامش

  1. [يوجد نقص في الأصل (الباب الثالث والثمانون والباب الرابع والثمانون]