كتاب الزهرة/الباب الحادي والثلاثون في لوامع البروق أنس للمستوحش المشوق


الباب الحادي والثلاثون في لوامعِ البروقِ أُنسٌ للمستوحشِ المشوقِ

حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال حدثنا عبد الله بن شيب قال حدثنا مروان بن أبي بكرة قال حدثني محمد بن إبراهيم الليثي قال حدثني محمد بن معن الغفاري قال اقتحمتِ السَّنة ودخل المدينة ناسٌ من الأعراب منهم صرَّة من كلاب وكانوا يدعون عامَهم ذلك الجُراف قال فأبرقوا ليلة في النَّجد وغدوت عليهم فإذا غلام منهم قد عاد جلداً وعظماً ضيعةً ومرضاً وضمانة حبٍّ وإذا هو قد رفع عقيرته بأبيات والهاً من الليل:

ألا يا سنا برقٍ علَى فلكِ الحمى
ليَهنكَ مِنْ برقٍ عليَّ كريمُ
لمعتَ اقتداءَ الطَّيرِ والقومُ هجَّعٌ
فهيَّجتَ أسقاماً وأنتَ سليمُ
فبتُّ بحدِّ المِرفقينِ أشيمهُ
كأنِّي لبرقٍ بالسَّتَارِ حميمُ
فهلْ مِنْ معيرٍ طرفَ عينٍ جليَّةٍ
فإنسانُ عينِ العامريِّ كليمُ
وفي قلبهِ البرقُ المُلالي رَميَّةٌ
بذكرِ الحمى وهنا تكادُ تهيمُ

قال فقلت له ففي دون ما بك يُفحم عن الشِّعر فقال صدقت ولكنَّ البرق أنطقني ثمَّ ما لبث يومه ذلك حتَّى مات.

وقال آخر:

أقولُ لبوَّابَيْنِ والسِّجنُ مغلقٌ
وطالَ عليَّ اللَّيلُ ما تَرَيانِ
فقالا نرَى برقاً يلوحُ وما الَّذي
يشوقكَ مِنْ برقٍ يلوحُ يَمانِ
فقلتُ افتحا لي البابَ أجلسْ إليكُما
لعلِّي أرَى البرقَ الَّذي تَرَيانِ
فقالُوا أُمرنا بالوثاقِ وما لنا
بمعصيةِ السُّلطانِ فيكَ يَدانِ
ألا ليتَ شِعري وهو ممَّا يهمُّني
متى أنا والصَّهَّالُ مُلتقيانِ

وأنشدني أحمد بن يحيى:

أكلَّما لمعتْ بالغورِ بارقةٌ
هفا إليها جَناحا قلبكَ الخفقُ
إنْ كنتَ مثَّلتَها مِنْ كلِّ رابعةٍ
للشَّمسِ والبدرِ أوْ للمنظرِ الأنقِ
لتُصبحنَّ قتيلاً طُلَّ مصرعهُ
مِنْ طعنةٍ في الحشا مكتومةِ العلقِ

وقال الأحوص:

أصاحِ ألمْ تحزنكَ ريحٌ مريضةٌ
وبرقٌ تلالا بالعقيقينِ لامعُ
فإنَّ غريبَ الدَّارِ ممَّ يشوقهُ
نسيمُ الرِّياحِ والبروقُ اللَّوامعُ
ومنْ دونِ ما أسمُو بطرفي لأرضهمْ
مفاوزُ مُغبرٌّ منَ التِّيهِ واسعُ
فأبدتْ كثيراً نظرَتي منْ صبابتي
وأكثرُ منهُ ما تجنُّ الأضالعُ
أهمُّ لأنسَى ذكرَها ويشوقُني
رفاقٌ إلى أهلِ الحجازِ نوازعُ

وقالت رامة بنت الشماخ:

أُلامُ علَى نجدٍ ومنْ تكُ دارهُ
بنجدٍ يُهجهُ الشَّوقُ شيءٌ يرايعهْ
تُهجهُ جنوبٌ حينَ تبدُو بنشرها
يمانيةٌ والبرقُ إذْ لاحَ لامعهْ

وقالت امرأة من طي:

إذا ما صَبيرُ المزنُ أومضَ برقهُ
ببغدادَ لم تبلجْ بعيني بوارقهْ
ولكنْ متى ما تبدُ منهُ مخيلةٌ
بنجدٍ فذاكَ البرقُ لا بدَّ شائقهْ

وقالت الخنساء:

أمبتدرٌ قلبي إن العينُ آنستْ
سنا بارقٍ بالنجدِ غير تهامي
فليت سماكياً يطيرُ ربابهُ
يقادُ إلى أهلِ الغضا بزمامِ
فيشربَ منهُ جَحْوشٌ ويشيمهُ
بعينيْ قطاميٍّ أغرَّ شآمي
فأُقسمُ أنِّي قد وجدتُ لجَحْوشٍ
إذا جاءَ والمستأذنونَ نيامُ
فإنْ كنتَ من أهلِ الحجازِ فلا تلحْ
وإنْ كنتَ نجديّاً فلحْ بسلامِ
فأهلُ الحجازِ معشرٌ ما أُحبُّهمْ
وأهلُ الغضا قومٌ عليَّ كرامُ

وقال عبد الرحمن بن دارة:

نظرتُ ودورٌ من نصيبينَ دونَنا
كأنَّ غريباتِ العيونِ بها رُمدُ
لكيما أرى البرقَ الَّذي أومضتْ بهِ
ذُرى المزنِ علويّاً وكيفَ لنا يبدُو
وإنِّي ونجداً كالقريبينِ قَطَّعا
قوًى من جبالٍ لم يشدُّ لها عقدُ

وقال أبو القمقام الأسدي:

خليليَّ طالَ اللَّيلُ واشتغلَ القذَى
بعينيَّ واستأنستُ برقاً يمانيا
خليليَّ إلا تبكيا لأخيكما
.. ما بي أقل..

وقال آخر:

أرقتُ وهاجَني البرقُ البعيدُ
أريدُ لكي يعودَ فلا يعودُ
أُريدُ لكي أزورَ بلادَ ليلَى
فأمَّا غيرُ ذاكَ فلا أُريدُ
عليَّ أليَّةٌ إنْ كنتُ أدري
أينقصُ حبُّ ليلَى أم يزيدُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أرقتُ لبرقٍ من تهامةَ خافقٍ
كأنَّ سنَا إيماضهِ قلبُ عاشقِ
يلوحُ فأزدادُ اشتياقاً وما أرَى
يشوِّقني لولاكَ من ضوءِ بارقِ
متى تدنُو لا يملكْ ليَ الشَّوقُ لوعةً
وإنْ تنأى عنِّي فالتَّوهُّم شائقي
فرأيكَ في عبدٍ إليكَ مفرُّهُ
لتنعشَهُ بالوصلِ قبلَ العوائقِ

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:

أعنِّي علَى بارقٍ ناصب
خفيٍّ كلمحكَ بالحاجبِ
كأنَّ تألُّقهُ في السَّماءِ
يدَا كاتبٍ أوْ يدا حاسبِ

وقال علي بن محمد العلوي:

شجاكَ الوميضُ ولذعُ المضيضِ
بنارِ الهوَى وببرقٍ يماني
كأنَّ تألّقهُ في السَّماءِ
رجعُ حسابٍ خفيفِ البنانِ
كأنِّيَ لم أدرِ أنَّ الرَّدى
لهتكِ ستورِ الضَّنى قد رآني
أخلايَّ أُحفيكمُ طائعاً
وأنتمُ مُنى النَّفسِ دونَ الأماني
ولكنْ يدُ الدَّهرِ رهنٌ بما
سيُرمَى بأسهمهِ الفرقدانِ
عسَى الدَّهرُ أنْ يثنِ لي عطفهُ
بعطفِ الهوَى وبعيشٍ لِيانِ

وقال البحتري:

خيالٌ ملمٌّ أو حبيبٌ مسلّمُ
وبرقٌ تجلَّى أوْ حريقٌ مضرِّمُ
تقيَّضَ لي من حيثُ لا أعلمُ النَّوى
ويسري إليَّ الشَّوقُ من حيثُ أعلمُ

وقال النابغة:

أرقتُ وأصحابي هجوعٌ بربوةٍ
لبرقٍ تلالا في تهامةَ لامعُ
فأبدَى هموماً مِنْ همومٍ أجلُّها
وأكثرُ منها ما تجنُّ الأضالعُ

وقال آخر:

أرقتُ لبرقٍ آخرَ اللَّيلِ يلمعُ
سرَى دائباً فيما نهبُّ ونهجعُ
سرَى كاحتساءِ الطَّيرِ واللَّيلُ ضاربٌ
بأرواقهِ والصُّبحُ قدْ كادَ يسطعُ

وقال آخر:

بدَا البرقُ مِنْ نحوِ الحجزِ فشاقَني
وكلُّ حجازيٍّ لهُ البرقُ شائقُ
سرَى مثلَ نبضِ العرقِ واللَّيلُ دونهُ
وأعلامُ نجدٍ كلُّها والأسالقُ

وقال دعبل:

ما زلتُ أكلأُ برقاً في جوانبهِ
كطرفةِ العينِ تخبُو ثمَّ تختطفُ
برقٌ تجاسرَ مِنْ خفَّانَ لامعهُ
يقضي الصَّبابةَ مِنْ قلبي وينصرفُ

وقال آخر:

شبَّهتُ في أُخرياتِ اللَّيلِ مِنْ رجبٍ
برقاً أتتْنا بهِ الجوزاءُ شؤْبوبا
صنجاً بصنائعهِ الأوتارُ قدْ نُصبتْ
بينَ السَّماءِ وبينَ الأرضِ مضروبا

وقال آخر:

أضاءَ البرقُ ليلةَ أذرعاتٍ
هوًى لا يستطيعُ لهُ طِلابا
هوًى بتهامةٍ وهوًى بنجدٍ
فأيُّ هواكَ تتركُ حينَ آبا

وقال كثيّر:

أهاجكَ برقٌ آخرَ اللَّيلِ واصبُ
تضمَّنهُ فرشُ الحيا فالمساربُ
تألَّقَ واحْمَوْمَى وخيَّمَ في الرُّبَى
أحمُّ الذُّرى ذو هيدبٍ متراكبُ
إذا حرَّكتهُ الرِّيحُ أرزمَ جانبٌ
بلا هرَقٍ منهُ وأومضَ جانبُ
كما أومضتْ بالعينِ ثمَّ تبسَّمتْ
جريعٌ بدا منها جبينٌ وحاجبُ
يصحُّ النَّدى لا يذكرُ السَّيرَ أهلهُ
ولا يرجعُ الماشي بهِ وهوَ جادبُ

وقال آخر:

وأرتاحُ للبرقِ اليمانِي كأنَّني
لهُ حينَ يجري في السَّماءِ نسيبُ
ولي كبدٌ حرَّى بما قدْ تضمَّنتْ
عليهِ وعينٌ بالدُّموعِ سكوبُ
أُصعِّدُ أنفاساً حنيناً ولوعةً
كما حنَّ مقصورُ اليديْنِ قضيبُ

وقال أبو هلال الأسدي:

أشاقتكَ البوارقُ والجنوبُ
ومِنْ عالي الرِّياحِ لها هبوبُ
أتتكَ بنفحةٍ مِنْ ريحِ نجدٍ
تضوَّعُ والعرارُ بها مشوبُ
وشمتُ البارقاتِ فقلتُ جادتْ
حيالَ القاعِ أوْ مُطِرَ القلوبُ

وقال محمد بن عبد الله الفقعسي:

أقولُ لقمقامِ بنِ زيدٍ أما ترَى
سنا البرقِ يبدُو للعيونِ النَّواظرِ
فإنْ تبكِي للبرقِ الَّذي هيَّجَ الهوَى
أُعنكَ وإن تصبرْ فلستُ بصابرِ
سقَى اللهُ حيّاً بينَ صارَةَ والحمى
حِمى فَيْدَ صوبَ العاجناتِ المواطرِ
أمينٌ واد اللهِ مَنْ كانَ منهمُ
إليهمْ ووقَّاهُ حِمامَ المقادرِ

وقال بعض العامريين:

عدمتُ جداراً يمنعُ البرقَ أنْ يُرَى
معَ اللَّيلِ علويّاً تطيرُ شقائقهْ
وسقياً لذاكَ البرقِ لو أستطيعهُ
ولكنْ عدِمنا نيَّةً ما توافقهْ

وقال آخر:

أعنِّي علَى برقٍ أُريكَ وميضهُ
تضيءُ دجنَّاتِ الظَّلامِ لوامعهْ
إذا اكتحلتْ عينا محبٍّ بضوئهِ
تجافتْ بهِ حتَّى الصَّباحِ مضاجعهْ
فباتَ وِسادي ساعدٌ قلَّ لحمهُ
عنِ العظمِ حتَّى كادَ تبدُو أشاجعهْ

وقال آخر:

نفى النَّومَ عنِّي فالفؤادُ كئيبُ
نوائبُ همٍّ ما تزالُ تنوبُ
وما جزعاً مِنْ خشيةِ الموتِ أخضلتْ
دموعِي ولكنَّ الغريبَ غريبُ
وإنِّي لأرعَى النَّجمَ حتَّى كأنَّني
علَى كلِّ نجمٍ في السَّماءِ رقيبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أراعكَ برقٌ في دجى اللَّيلِ لامعُ
أجلْ كلُّ ما يلقاهُ ذو الشَّوقِ رائعُ
أألآنَ تخشَى البرقَ والإلفُ حاضرٌ
فكيفَ إذا ما لاحَ والإلفُ شاسعُ
وهاجتْ رياحٌ زدْنَ ذا الشَّوقِ صبوةً
وباكرتِ الأيكُ الحمامُ السَّواجعُ
وعاشرتَ أقواماً فلمْ تلقَ فيهمِ
خليلكَ فاستعصتْ عليكَ المدامعُ
وأصبحتَ لا تروِي منَ الشِّعرِ إذْ نأَى
هواكَ وباتَ الشِّعرُ للنَّاسِ واسعُ
سِوَى قولِ غيلانَ بنِ عقبةَ نادماً
هلِ الأزمنُ اللاَّتي مضينَ رواجعُ
هناكَ تمنَّى أنَّ عينيكَ لم تكنْ
وأنَّكَ لم ترحلْ وإلفكَ رابعُ
فكلُّ الَّذي تلقَى يسوؤكَ إنْ دنَا
ودلُّ الَّذي تلقَى إذا بانَ فاجعُ
فيا ويكَ لا تسرع إلى البينِ إنَّه
هوَ الموتُ فاحْذرْ غِبَّ ما أنتَ صانعُ

وله أيضاً:

أمنْ أجلِ سارٍ في دجى اللَّيلِ لامعِ
جفوتُ حذارَ البينِ لِينَ المضاجعِ
علامَ تخافُ البينَ والبينُ راحةٌ
إذا كانَ قربُ الدَّارِ ليسَ بنافعِ
إذا لم تزلْ ممَّنْ تحبُّ مروَّعاً
بغدرٍ فإنَّ الهجرَ ليسَ برائعِ