الباب السابع والسبعون ذكر ما للشعراء في التحذير والإغراءأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب السابع والسبعون ذكر ما للشعراء في التحذير والإغراء
حدثني إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: حدثنا سفيان بن عمر بن دينار، وأبو أيوب عن عكرمة وداود بن سابور وابن جريج عن مجاهد قالا: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حلف من خزاعة فذكر صدراً من خبر فتح مكة فيه، ودخل النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم من كداء، وقال: اللهم اضرب على أسماعهم وعلى أبصارهم فلا يشعرون بنا حتَّى نهجم عليهم. فأنشأ حسان بن ثابت الأنصاري يقول:
عدمتم خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدُها كداءُ
تظلُّ جيادنا مُتمطراتٍ
تُلطمهُنَّ بالخمر النّساءُ
قال سفيان: فلقد كانت المرأة تردُّ وجه الفرس بخمارها عن بابها.
قال عدي بن زيد العبادي يحرض ابنه على من حبسه:
ألا هبلتك أمُّك عمرو بعدي
أتقعد لا تريم ولا تصولُ
ألم يحزُنكَ أن أباك عانٍ
وأنتَ مُغيَّبٌ غالتك غولُ
تُغنيك ابنة القين بن جسرٍ
وفي كلب وتُضحكك الشمولُ
فلو كنت الأسير ولا تكنه
إذاً علمتْ معدٌّ ما أقولُ
فإن أهلك فقد أبليت قومي
بلاءً كله حسنٌ جميلُ
وقال لقيط بن معبد الأيادي:
يا قومُ إن لكم من إرث والدكم
مجداً قد أشفقت أن يودي وينقطعا
ما لي أراكم نياماً في بُلهنيةٍ
وقد ترون شهابَ الحرب قد لمعا
ألا تخافون قوماً لا أبا لكم
أمسوا لديكم كأرسال الدّبا شرعا
لا تجمعوا المال للأعداء إنهم
إن يظهروا يحتووكم والتّلاد معا
ماذا يردُّ عليكم عزُّ أولكم
إن ضاعَ آخره أوْ ذلَّ فاتضعا
قال أبو طالب:
خذوا حظّكم من سلمنا إن حربنا
إذا ضرَّستنا الحرب نارٌ تسعَّرُ
وإنّا وإياكم علَى كل حالةٍ
كمثلان بل أنتم إلى الصلح أفقرُ
وله أيضاً:
كذبتم وبيت الله يُقتل أحمدُ
ولما نناضل دونه ونُقاتِلُ
ونُسلمه حتَّى نُصرّعَ حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائلُ
قال النابغة الجعدي:
فأبلغ عِقالاً إنَّ غاية داحسٍ
بكفيك فاستأخر بها أو تقدَّمِ
تجيرُ علينا وائل بدمائنا
كأنك ممَّا نال أشياعنا عمي
فإن كليباً كان أكثر ناظراً
وأيسر جرماً منك ضُرّج بالدّمِ
رمى ضرع نابٍ فاستمر بطعنةٍ
كحاشية البُرد اليماني المُسهمِ
وقال زُفر بن الحارث:
أفي الحكم إمّا بحدل وابن بحدل
فيحيا وأمَّا ابنُ الزبير فيُقتلُ
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه
ولما يكنْ يومٌ أغرُّ مُحَجَّلُ
ولمّا يكن للمشرفيّة فوقكم
شعاع كقرن الشَّمس حين ترحّلُ
وقال الأشتر:
بقّيتُ وفري وانحرفت عن العلى
ولقيت أضيافي بوجه عبوسِ
إن لم أشنّ علَى ابن حربٍ غارةً
لم تخلُ يوماً من نهاب نفوسِ
خيلاً دِراكاً كالسعالى شزّباً
تعدو ببيض في الكريهة شوسِ
حَمِيَ الحديد عليهمُ فكأنهم
لمعانُ برقٍ أوْ بريق شموسِ
وقال الفضل بن العباس:
مهلاً بني عمّنا عن نحت أثلتنا
مهلاً بني عمّنا مهلاً موالينا
الله يعلم أنّا لا نُحبُّكمُ
ولا نلومكمُ ألاّ تحبّونا
وقال آخر:
لا تنصروا اللات إن الله مُهلكها
وكيف ينصركم من ليس ينتصر
إن الرسول مَتَى يَحْلُلْ بساحتكم
يظعن وليس بها من أهلها بشر
قال يزيد بن الحكم ليزيد بن المهلب:
أبا خالدٍ قد هجت حرباً مريرةً
وقد شمّرت حربٌ عوان فشمّر
فإن بني مروان قد زال ملكهم
فإن كنت لم تشعر بذلك فأشعر
فقال: ما شعرت. فقال:
فعش ملكاً أوْ مت كريماً وإن تمتْ
وسيفك مشهورٌ بكفِّك تُعْذَرِ
قال الأخطل:
بني أميَّةَ إنِّي ناصح لكمُ
فلا يبيتنَّ فيكم آمناً زُفَرُ
مفترشاً كافتراش الكلب كلكله
لشدة كائن فيها له جزرُ
قال عطيَّة الكلبي:
يا ثابتَ بن نعيم هل بكم ثور
أم بعد عامك هذا تُطلبُ الإحنُ
كم من أخٍ لك أوْ مولى فجعتُ به
من الوقيعةِ لم يُنشر له كفنُ
ومن يمانية بيضاء موجعةٍ
ما إن يسوغ لها ماءٌ ولا لبنُ
أنائم أنت أم مغضٍ علَى مضضٍ
كلا وأنت علَى الأحساب تُؤتمَنُ
قال مُحرز بن المكعبر:
أبلغ عديّاً حيث صارت بها النَّوى
فليس لدهر الطالبين فناءُ
كسالى إذا لاقيتهم غير مَنْطِقٍ
يُلهَّى به المحروب وهو عناءُ
وإنِّي لأرجوكم علَى بطء سعيكم
كما في بطون الحاملات رجاءُ
أخبِّرُ من لاقيتُ إن قد وفيتمُ
ولو شئت قال المخبرون أساءوا
فهلاّ سعيتم سعي أسرة مازنٍ
وهل كفلائي في الحروب سواءُ
لهمْ أذرُع بادٍ نواشر لحمها
وبعض الرِّجال في الحروب غُثاءُ
كأنَّ دنانيراً علَى قسماتِهم
وإن كان قد شفَّ الوجوه لقاءُ
قال أوس بن بكر:
عصانيَ قومي والرّشاد الَّذي به
أمرتُ ومن يعصِ المحرّب يندم
فصبراً بني بكر علَى الموت إنَّني
أَرَى عارضاً ينهلُّ بالموت والدّم
ولا تجزعوا ممَّا جنته أكفكم
ولا تندموا ماذا يحين التندّم
أقيموا صدور الخيل للموت ساعةً
وموتوا كراماً لا تبوؤا بمأثم
قال إسماعيل بن عبد الله أبو مريم يحذر بني أمية من بني العباس:
أَرَى خلل الرّماد وميض جمرٍ
أحاذر أن يكون له ضَرامُ
فإن النّار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلامُ
فإن لم تطفئوها تجنِ حرباً
مُشمّرة يشيب لها الغلامُ
نأيتم عن بلادٍ عزَّ فيها
لئام النَّاس واهتضم الكرامُ
أقول من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أميَّة أم نيام
قال سديف يُحرّض المنصور:
اقصهم أيُّها الخليفة واقطع
عنك بالسيف شأفة الأرجاسِ
خوفُها أظهر المودة منهم
وبها منكم كحد المواسي
فلقد ساءني وساء سوائي
قربهم من نمارقٍ وكراسي
قال أبو عاصم الأسلمي يحرّض بني العباس علَى بني أميّة:
إيّاكم أن يقول النَّاس قد قدروا
عليهمُ ثمَّ ما ضرّوا ولا نفعوا
إياكم أن تلينوا عند ذُلِّهمُ
فذلك الذل فيه الصّابُ والسلعُ
كانوا عُداةً فلما شبَّ جمعهم
منّوا إليك بالأرحام الَّتي قطعوا
أليس في مائتي عام لكم عبرٌ
يسقونكم جُرعاً من بعدها جُرَعُ
هيهات لا بدّ أن يوفوا بصاعِهمُ
صاعاً وأن يحصدوا غير الَّذي زرعوا
وقال آخر:
لا تقبلوا عقلاً وأمّوا بغارةٍ
إلى عبد شمسٍ بين دَوْمَة فالهضَبِ
وهزّوا صدور المشرفيّ كأنّما
يقَعْنَ بهام القوم في حنظلٍ رطبِ
قال طريح بن إسماعيل:
لا تأمننَّ امرءاً أسلمت مهجته
غيظاً وإنْ قلتَ أن الجرحَ يندملُ
واقبلْ جميل الَّذي يبدي وجازيه
وليحرسنَّك من أفعاله الوجلُ
وقال آخر:
لا أصلح الله حالي إن أمرتكُمُ
بالصلح حتَّى تُصيبوا آل شدّادِ
قوم أصابوكُم في غير مظلمةٍ
إلاَّ لقيلٍ وقال الظّالم العادي
أوْ تجعلوا مضر الحمراء دونهُم
أوْ تخرجوهم من أحداد وأحدادِ
حتَّى يُقالَ لوادٍ كان مسكنُهمْ
قد كنت تُسْكَنُ حيناً أيها الوادي
وقال آخر:
ظلمتم فاصبروا للظُّلم إنّا
سنصبر إنَّها الحسبُ الكريمُ
وشرُّ الجازعين إذا أصيبتْ
قوادمُ ريشه الجزعُ الظلومُ
وكنّا قاعدين أقمتمونا
علَى حقدٍ فقد قُمنا فقوموا
قال آخر:
أتظن يا إدريسُ أنك مفلتٌ
كيدَ ابن أغلب أوْ يَقيكَ فرارُ
فليدركنَّك أوْ تحلّ ببلدةٍ
لا يهتدي فيها إليك نهارُ
إن السيوف إذا انتضاها سُخطهُ
طالت وتقصرُ دونها الأعمارُ
ملك كأن الموت يتبع قوله
حتَّى يقالَ تطيعه الأقدارُ
قال آخر:
وأقدِمْ علَى الأمر الَّذي إن تُلاقِهِ
يرحْكَ بموت أو يُدانيك من ظفرْ
فما قدّم الأقدام موتاً مؤخراً
ولا يدفع التأخير ما قدّم الحذرْ
قال رويشد الطائي:
يا أيُّها الرَّاكب المُزجي مطيَّتَهُ
سائل بني أسدٍ ما هذه الصوتُ
وقلْ لهمْ بادروا بالعذر والتمسوا
أمراً ينجيكُمُ إنِّي أنا الموتُ
إنْ تُذنبوا ثمَّ لا يعتب سَراتِكمُ
فما عليَّ بذنبٍ منكمُ فوتُ
قال البحتري:
نهيتك عن تعرّضٍ عرض حرٍّ
فإن الذّم من شأنِ الذّميمِ
وقلت توَقَّ محتملاً بودي
علَى الأضعانِ بالحلم الكريمِ
فما خرق السفيه وإن تعدّى
بأبلغ فيك من رفق الحليمِ
مَتَى أخرجت ذا كرمٍ تخطّى
إليك ببعض أخلاق اللئيمِ
وممَّا يدخل في باب التهاون بالتوعيد والاحتقار بالإنذار والتهدد ما بلغنا أن عبد الله بن العباس كان يتمثل إذا رأى عبد الله بن الزبير به:
أطلْ حمل الشناءة لي وبغضي
بجهدك وانظرَنْ من ذا تضيرُ
فما بيديك خيرٌ أرتجيه
وغيرُ صدودك الخطبُ الكبيرُ
إذا أبصرتني أعرضتَ عنّي
كأنَّ الشَّمس من قلبي تدورُ
قال الأعشى في نحو ذلك:
يزيد بغض الطرف دوني كأنَّما
زوى بين عينيه عليَّ المحاجمُ
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى
ولا تلقني إلاَّ وأنفك راغمُ
قال آخر:
وإذا قلتُ ويك للكلب وأخسأ
لحظتني عيناك لحظة تُهمَه
أترى أنَّني حسبتك كلباً
أنت عندي من أبعد النَّاس همه
وفي نحوه يقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
أبشر بطول سلامة يا مِربعُ
وفي مثله:
أوْ كلّما طنَّ الذبابُ زجرتُهُ
إن الذباب إذاً علَى كريمُ
وفي مثله:
نبئتُ كلباً هاب شتمي له
يَنْبَحُني من موضع نائي
لو كنتَ من شيء هجوناك أوْ
نثبت للسامع والرائي
فعَدِّ عن شتمي فإنِّي امرؤٌ
حلَّمني قِلَّةُ أكفائي
قال آخر:
عادات طيٍ في بني أسدٍ
ريِّ القنا وخضاب كل حسام
لا تكثرن جزعاً فإنِّي واثق
برماحنا وعواقب الأيَّام
فلو لم نعرف قبيلة هذا القائل، ومقصده من غير شعره لم ندرِ أطيئ المهجوّون أم هم الممدحون، وكذلك الحال في بني أسد.
قال آخر:
وما لي ذنب عند قيس علمتهُ
سوى أنَّني من رهط بكر بن وائل
من الوائليين الذين سيوفُهمْ
مجرَّدةُ في كل حق وباطل
قال آخر:
رويدَ بني شيبانِ بعضَ وعيدكم
تُلاقوا غداً خيلي علَى سَفَوانِ
تُلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغى
إذا الخيل جالت في القنا المتداني
تلاقوا جياداً تعرفوا كيف صبركم
علَى ما جنت فيكم يدُ الحدثانِ
مقاديم وصَّالون في الرّوع خطوهُم
بكل رقيق الشَّفرتين يمانِ
إذا استُنجدوا لم يسألوا من دعاهُمُ
لأيَّةِ حربِ أم بأي مكانِ
قال أبو علي البصير:
لعمرُ أبيكَ ما نُسبَ المُعَلَّى
إلى كرمٍ وفي الدُّنيا كريمُ
ولكنَّ البلادَ إذا اقشعرَّتْ
وصوَّحَ نبتُها رُعي الهشيمُ
وفي نحو ذلك:
خلت الديارُ فسدتُ غير مُسوّدِ
ومن الشقاءِ تفردي بالسؤدد
قال الأخطل لشقيق بن ثور:
وما جذْعُ سوءٍ خرَّق السوس جوفه
لما حمَّلتهُ وائلٌ بمُطيقِ
فقال شقيق: يا أبا مالك ما تُحسنْ أن تهجو، ولا تمدح. أردت أن تهجوني فمدحتني، وزدتني ما لم أطمع فيه من بني تغلب خاصة فجعلت وائل كلها.
قال مفروق بن عمرو الشيباني:
ولرُبَّ أبطال لقيت بمثلهم
فسقيتُهم كأسَ الرَّدى وسُقيتُ
فلأطلبنَّ المجد غيرَ مُقصِّرٍ
إن متُّ متُّ وإن حييتُ حييتُ
قال زُفر بن الحارث:
وكنّا حسبنا كلّ سوداء تمرةً
لياليَ لاقينا جُذامَ وحمْيرا
فلما قرعنا النّبع بالنّبع بعضه
ببعضٍ أبت عيدانهُ أن تكسَّرا
سقيناهمُ كأساً سقونا بمثلها
ولكنهم كانوا علَى الموت أصبرا
قال عبد الوهاب بن الصّباح:
أراك في العُسر تجزيني وفي العَدمِ
وفي الحديث من الأيَّام والقدمِ
وقست حالك في الفقر القديم بما
أصبحت في ظلمه من واسع النعمِ
فما رأيتك في حال تكون بها
أدنى إلى كل خير منك في العدمِ
فلا عدمت وإن لم تهوَ منزلةً
تدنيكَ حالتها من صالح الشيمِ
وبلغنا أن الزبرقان بن بدر استعدى عمر بن الخطاب على الحطيئة فقال: إنَّه قد هجاني. قال: وما قال لك؟ قال:
دعْ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها
واقعدْ فإنَّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: أما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً؟ قال: لا والله لولا الإسلام لأنكرتني. قال: ما أعلمه هجاك، ولكن أدعو ابن القُريعة. فلما جاءه حسّان. قال له عمر: أهجاه؟ قال: لا. ولكنه سلح عليه.. فقال عمر للحطيئة: لأحبسنَّك أوْ لتكفنَّ عن إعراض المسلمين. قال أمير المؤمنين: لكل مقامٍ مقال. قال: وإنك لتهددني فحبسه. فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعر مُظلمةٍ
فارحم عليك سلامُ الله يا عمرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينهم
من عرض داويّة يعمى لها الخبرُ
فلما قرأها عمر رقَّ له، فخلَّى سبيله. وبيت الحطيئة وإن كان غيره أشدَّ إفصاحاً بالهجاء منه فإن معه ما يوضّح عن مراد صاحبه ويزيل توهم المدح فيه وهو:
ما كان ذنب بغيضٍ أن رأى رجلاً
ذا حاجةٍ عاش في مستوعر شاسِ
ملّوا قراه وهزَّته كلابهُم
وجرَّحوه بأنيابٍ وأضراسِ
لما بدا لي منكم خبثُ أنفسكم
ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعتُ يأساً مبيناً من نوالكمُ
ولن ترى طارداً للحرِّ كالياسِ
وروي أن عمر بن الخطاب رحمه الله، أنَّه لما سمع قول النجاشي في بني العجلان:
إذا الله عادى أهل لؤمٍ ودقَّةٍ
فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قُبيَّلَةٌ لا يغدرون بذمةٍ
ولا يظلمون النَّاس حبةَ خردل
قال: يسرني أن ابن الخطاب كذلك، فلما سمع:
ولا يردون الماء إلاَّ عشيَّةً
إذا صدر الوراد عن كل منهل
قال: ما أحبّ كل هذه الذلة.
ومع هذين البيتين ما يوضح أنَّها هجاء صحيح غير مشبه لشيء من المديح مع البيت الأول وهو قوله:
أولئك أخوال اليتيم وأسرةُ
الهجين ورهط الخائن المتبدلِ
تعافُ الكلابُ الضاريات لُحومَهُمْ
ويأكُلْنَ من كلب وعوف ونهشلِ
وما سمّي العجلان إلاَّ لقولِهمْ
خُذْ القعب واحلُبْ أيها العبدُ واعجلِ
قال رجل من بني العنبر:
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبِح إبلي
بنو اللقيطة من ذُهل بن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشرٌ خُشنٌ
عند الحفيظة أنْ ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهمْ
لم يرهبوه زرافاتٍ ووحدانا
لا يسألون أخاهُم حين يندبُهمْ
في النائبات علَى ما قال بُرهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ
ليسوا من الشرِّ في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربَّكَ لم يخلق لخشيته
سواهمُ من جميع الناسِ إنسانا
قال آخر:
عند الملوك مصائر ومنافعُ
وأَرَى البرامك لا تضرُّ وتنفع
وإذْ نكرتَ من امرئ أعرافَهُ
وطباعهُ فانظر إلى ما يصنع
قال المُثلَّم بن رياح بن ظالم:
تصيحُ الرُّدينيات فينا وفيكمُ
صياحَ بنات الماء أصبحْنَ جُوَّعا
خلطنا البيوت بالبيوت فأصبحوا
بني عمّنا من يرمهم يرمنا معا
قال آخر:
بكُرهِ سراتنا يا آلَ عمرٍو
نعاديكُمْ بمرهفةِ النصالِ
لها لونٌ من الهامات كابٍ
وإن كانتْ تُحادثُ بالصّقالِ
نُعدِّيهنَّ يوم الرَّوع عنكمْ
وإن كانتْ مُثلَّمةَ النِّصالِ
ونبكي حين نذكركم عليكم
ونقتلكُمْ كأنّا لا نبالي
قال القتّال الكلابي:
نشدتُ زياداً والمقامة بيننا
وذكرتهُ أرحام سعد وهيثمِ
فلما رأيتُ أنَّه غير مُنتهٍ
أملت له كفّي بلدنٍ مقوَّمِ
فلما رأيت أنَّني قد قتلته
ندمتُ عليه أيَّ ساعة مندمِ
قال قيس بن زهير:
شفيتُ النَّفس من حمل بن بدرٍ
وسيفي من حُذيفةَ قد شفاني
فإنْ أكُ قد بردتُ بهم غليلي
فلم أقطع بهم إلاَّ بناني
قال الشميذر الحارثي:
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما
دفنتم بصحراء الغُمير القوافيا
فليس كمن كنتم تُصيبون سلمة
فيقبلَ ضيمٌ أوْ يحكّم قاضيا
ولكنّ حكم السَّيف فيكم مُسلَّطٌ
فيرضى إذا ما أصبح السَّيف راضيا
وقد ساءني ما جرَّت الحربُ بيننا
بني عمّنا لو كان أمراً مُدانيا
فإن قُلتم أنّا ظلمنا فلم نكُنْ
ظلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
قال البحتري:
أسأتُ لأخوالي ربيعة إذْ عفَتْ
مصانعها منها وأقوتْ ربوعُها
بكُرهيَ إن كانت خلاءً ديارها
ووحشاً مغانيها وشتى جميعها
إذا اقترفوا عن وقعة جَمَعتهمُ
لأخرى دماءً ما يُطلُّ نجيعُها
تذمُّ الفتاةُ الرود شيمة زوجها
إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها
حميَّةَ شغب جاهليّ وعزَّةٍ
كليبيّة أعيا الرِّجال خُضوعُها
وفرسان هيجاء تجيش صدورها
بأحقادها حتَّى تضيق ذروعها
نُقتّل من وترٍ أعزَّ نفوسها
عليها بأيدي ما تكاد تُطيعُها
إذا احتربت يوماً تعاصت دماؤها
تذكّرت القربى ففاضتْ دموعُها
شواجرُ أرماحٍ تُقطَّعُ بينهم
شواجر أرواحٍ كلومٍ قطوعُها
قال أيضاً:
فضلُ الخلائف بالخلافة واقفٌ
في الرُّتبة العليا وفضلك أفضلُ
أوفيت عاشرهم فإن نُدبوا إلى
كرم وإحسان فأنت الأولُ
فهذا إن شاء إنسانٌ يصير به إلى نهاية المدح، وشاء آخر أن يصرفه إلى غاية الذم، وجد كلُّ امرئ منهم مقالا. أي مديح أبلغ من أن يكون ماضي من الخلفاء دون الممدوح بهذا القول. وأي ذم أوكد حجةً على المرء من تشريفه على آبائه وأجداده والأخبار بأنه نجم من بينهم، مخالف في السؤدد لجماعتهم. وهذا النوع من الحلم غير مشاكل لما قدمناه في الباب المتقدم، لأن ذلك الحلم إنَّما وقع من فاعله رغبة منه في المكارم. وهذا الحلم إنَّما وقع احتقاراً للمخاصم، وكلاهما جميل من فاعله إذا كان ذلك يدل على كرم الطبع، وهذا يدل على جلالة القدر.