كتاب الزهرة/الباب السادس والثلاثون من فاته الوصال نعشه الخيال


الباب السادس والثلاثون من فاته الوصال نعشه الخيال

قد تقدَّم قولنا في عيب من خلَّف خليله أوْ تخلَّف عنه في وقته أوْ عن اللُّحوق به على حسب طاقته ثمَّ وكَّدنا عيب من لم يرض حتَّى أقرَّ بأنَّ المشوِّق له إلى إلفه عارضٌ غير متمكِّنٍ له من نفسه وأصحاب هذا الباب الَّذي نحن في أوَّله يلحقهم ذلك العيب كلُّه ويزدادون معه لوماً على مسامحتهم أنفسهم في التَّلذُّذ برقادهم وأخلاَّؤهم ظاعنون عن بلادهم ومن الصُّوفيَّة من لا يقنع لهم بما ألحقناه من العيب بهم حتَّى يقولوا إنَّ النَّوم لو كان مانعاً لهم لكان تخصيصهم إيَّاه بأنَّه يريهم أحبَّتهم نقصاً بيِّناً في مودَّتهم فإنَّ الحال إذا تمكَّنت لم تفترق الرُّوحان وإن افترق الشَّخصان فالمحبُّ المشاهد لصاحبه على كلِّ حالٍ مستغنٍ عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال ومن طرائف ما قيل في الخيال وأدلّه على ضعف قائله في الحال.

قول ذي الرمة:

فيا ميُّ هلْ يُجزى بُكائي بمثلهِ
مراراً وأنفاسي عليكِ الزَّوافرُ
وإنْ لامني يا ميُّ من دونَ صُحبتي
لكِ الدَّهرَ من أُحدوثةِ النَّفسِ ذاكرُ
وأنْ لا ينالَ الرَّكبُ يا ميُّ وقفةً
منَ اللَّيلِ إلاَّ اعتادني لكِ زائرُ

فهذا أحسن الله جزاءه لم يرض بالعيب الَّذي ذكرناه حتَّى طالب محبوبه بأن يجازيه على تخييله إيَّاه في منامه ثمَّ لم يقنعه أن يجازى بمثل بكائه مراراً فأما اعتذاره بأنه لا يرقد إلاَّ اعتاده منها زائرٌ فقد يتهيَّأ أن يخفَّف جرمه فيه فضربٌ من المعاذر فيقال إنَّه إنَّما عنى أنَّه لا ينفكُّ خاطره من ذكرها فإذا رقد رأى خيالها بقلبه لشدَّة غلبته في حال اليقظة على فكره وأما ما ذكره سوى ذلك من المحالات فإنَّه ينبو عن مراتب الاعتذارات وقد قال قيس بن الملوَّح ما إن لم يكن موفياً على حدِّ الكمال فإنَّه إلى الجليلة من الأحوال وهو:

وإنِّي لأستسقي وما بيَ عطشةٌ
لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خياليا
وأخرجُ من بينِ الجلوسِ لعلَّني
أُحدِّثُ نفسي عنك في السرِّ خاليا

فهذا البائس إذاً تناعس وليس بناعسٍ ليتعلَّل بخيالها إذا فاته ما يؤمِّله من وصالها فنحن نشهد له بالتَّمام في هذه الحال ولا ندري ما الَّذي يوجب له الغيبة عن إلفه حتَّى اضطرَّه إلى التَّعلُّل بطيفه فنعلم أين منه ذلك تماماً أم يوجب عليه ملاماً.

وما قصّر أيضاً الحسين بن وهب حيث يقول:

أرَقتُ وكيفَ لي بالنَّومِ كيفا
فألقى من حبيبِ النَّفسِ طيْفا
أقولُ لها متى وتقولُ حتَّى
وتمطُلني الهوَى بنعمْ وسوْفا
ولولا فرطُ إشفاقي عليها
غدوْتُ محكَّماً وشهرْتُ سيْفا
ولكنِّي إذا فكَّرتُ فيها
نهتْني النَّفسُ إشفاقاً وخوفا

ومن مليح ما يدخل في هذا الباب وإن كان مشهوراً في النَّاس:

فقلتُ لها بخلتِ عليَّ يقظى
فجودي في المنامِ لِمُستهامِ
فقالت لي وصرتَ تنامُ أيضاً
وتطمعُ أن تواصلَ في المنامِ

ولبعض أهل هذا العصر:

جُعلتُ فداكَ لم يخطر ببالي
حضورُ البينِ إلاَّ مذْ ليالي
فقد وهواكَ زادنيَ اشتياقا
علَى شوقي نواكَ وأنتَ قالي
وأكَّدَ ذاكَ أنِّي مذْ ليالٍ
سهرتُ فلمْ يزُرْ طيفُ الخيالِ
فبتُّ علَى الفراشِ كأنَّ قلبي
يقلِّبهُ هواكَ علَى المقالي
وكانَ الطَّيفُ يكشفُ بعضَ ما بي
ولستَ تراهُ يطرُقني بحالِ
فقلْ لي بالذي أصفاكَ ودِّي
أأنتَ نهيْتَ طيفكَ عن وصالي
أمِ السَّهرُ الَّذي ألزمتَنيهِ
نفى عنِّي الخيالَ فلا أُبالي

ولبعض أهل الأدب:

أعادَ عليَّ الله يومَ وصالكَ
وأخطرني قبلَ المماتِ ببالكَ
يُضاعفُ ما بي أنَّني لكَ وامقٌ
أميرٌ بما تهوى ولستَ كذلكَ
منعت جفوني أن تنامَ قريرةً
ولو نمتُ أرضاني طروقُ خيالكَ
وحلَّلْتَ عهدي في الهوَى وتركتني
أُعقِّدُ ما حلَّلْتهُ من حبالكَ

ومن مختار ما قالت الشعراء في الخيال علَى تقصير قائله عن بلوغ درج الكمال:

أسْرَتْ لعينكَ ليلَى بعدَ مغفاها
يا حبَّذا بعدَ نومِ العينِ مسراها
فقلتُ حُيِّيتَ من طيفٍ ألمَّ بنا
إن كنتَ تمثالها أوْ كنتَ إيَّاها

وقال العرجي:

وقد كنتُ أرجو أنَّ نأيكِ راحةٌ
ولم أدرِ أنَّ الطَّيفَ إن نمتُ طالبي
فواللهِ لا يُنكى محبٌّ بمثلها
وإن كانَ مكروهاً فراقُ الحبائبِ

وأنشدني أعرابي بالبادية:

حلمتُ أقرَّ اللهُ عينيَ أنَّني
أرى أُمَّ لهوِ القلبِ فيمنْ أُجاورُ
فلمَّا انتبهْنا بالخيالِ الَّذي سرى
إذا صوتُ جنٍّ والنُّجومُ الزَّواهرُ
فعدتُ لكيْما أن تعودَ فلمْ تعدْ
وعاودني منها الَّذي قد أُحاذرُ

وقال بعض الأعراب وكان محبوساً في سجن الطائف:

فأنَّى اهتدَتْ تسري وأنَّى تخلَّصتْ
إليَّ وبابُ السِّجنِ بالعتلِ موثَقُ
عجبْتُ لمسراها وسربٍ سرتْ بهِ بُعَ
يدَ الكرى كادتْ له الأرضُ تشرقُ
فلا تحسبي أنِّي تخشَّعتُ بعدكُمْ
لشيءٍ ولا أنِّي منَ الموتِ أفرقُ
ولكنَّ ما بي من هواكِ ضمانةٌ
كما كنتُ ألقى منكِ إذْ أنا مُطلقُ
فأمَّا الهوَى منِّي إليكِ فطائحٌ
يمانٍ ولكنِّي بمكَّةَ موثقُ
ألمَّتْ فحيَّتْ ثمَّ قامتْ فودَّعتْ
فكادتْ عليها مهجةُ النَّفسِ تزهقُ
فما برحتْ حتَّى وددْتُ بأنَّني
بما في فؤادي من دمِ الجوفِ أشرقُ

وقال الأقرع القشيري:

ألمَّتْ فحيَّاها فهبَّ فحلَّقتْ
معَ النَّجمِ رؤيا في المنامِ كذوبُ
لقدْ شغفتني أمُّ عمرٍو وبغَّضتْ
إليَّ نساءً ما لهنَّ ذنوبُ

وأنشدتني ستيرة العصيبية:

ألمَّ خيالُ طَيبةَ أجنبيَّا
فحيَّا الرَّكبَ دوني والمطيَّا
لما حيَّيْتهمْ يا طيفُ دوني
وأنتَ أحبُّهمْ شخصاً إليَّا
ألمَّ بنا فسلَّمَ ثمَّ ولَّى
علَى الهجَّادِ تسليماً خفيَّا
فلمَّا أنْ كشفْتُ غطاءَ رأسي
إذا أنا لا أرى إلاَّ النَّضيَّا
وأينُقَنا الثَّلاثَ ملقَّياتٍ
علَى متنِ الطَّريقِ وصاحبيَّا
وزرقاً بالجفيرِ مُنشَّباتٍ
وشوحطةً ترنُّ ومشرفيَّا
فكلَّفنا سُراها أن رحلنا
وأحثثنا الأميرَ العامريَّا

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

ألا طرقَتْ جمْلٌ وبيني وبينها
مهامِهُ أمْراتٌ وداويةٌ قفرُ
فقلتُ لها كيفَ اهتديْتِ لصاحبٍ
ونضوٍ طواهُ السَّيرُ مَمْساهما وعرُ
فقالتْ أمنْتَ الدَّهرَ ألاَّ تُحبَّني
فقلتُ عداني النَّأيُ والأعينُ الخزرُ
علَى أنِّني أهواكِ ما هبَّتِ الصَّبا
وما سكنتْ سلمى وأكنافها العفرُ
وما هتفتْ يوماً لإلفٍ حمامةٌ
علَى بانةٍ أفنانها عطَّفٌ خضرُ
فدوميَ علَى العهدِ الَّذي كانَ بيننا
فما يُبتغى منِّي ولا منكِ لي عذرُ

وقال الحسين بن الضحاك:

سقياً لزورٍ منْ طيفِ مُحتجبٍ
عاتبتهُ في المنامِ فاعتذرا
فزالَ حقدُ الضَّميرِ عنْ سكنٍ
يُسخطني رائحاً ومُبتكرا
رضيتُ من عذرِ منْ أقامَ علَى الذَّنْ
بِ بطيفٍ ألمَّ مُعتذرا

وقال الرقاد بن المنذر الضبي:

ألا طرقَتْ أسماءُ واللَّيلُ دامسٌ
فأحببْ بها من طارقٍ حينَ يطرقُ
وما طرقَتْ إلاَّ لتُحدثَ ذكرةً
وتُحكمَ وصلاً بيننا كادَ يخلقُ

وقال أبو تمام الطائي:

عادكَ الزَّورُ ليلةَ الرَّملِ منْ رمْ
لةَ بينَ الحمى وبينَ المطالي
قمْ فما زاركَ الخيالُ ولك
نَّكَ بالفكرِ زُرتَ طيفَ الخيالِ

وقال البحتري:

وليلةَ هوَّمنا علَى العيسِ أرسلتْ
بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطلُهْ
فلولا بياضُ الصُّبحِ طالَ تشبُّثي
بعِطفيْ غزالٍ بتُّ وهناً أُغازلُهْ
وكم من يدٍ للَّيلِ عندي حميدةٍ
وللصُّبحِ من خطبٍ تذمُّ غوائلُهْ

وقال أيضاً:

مثالُكَ من طيفِ الخيالِ المعاودِ
ألمَّ بنا من أُفقهُ المُتباعدِ
يُحيِّي هجوداً ميِّتينَ منَ الكرى
وما نفعُ إهداءِ السَّلامِ لهاجدِ

وقال أيضاً:

إذا نسيتُ هوى ليلَى أشادَ بهِ
طيفٌ سرى في سوادِ اللَّيلِ إذْ جنحا
دنا إليَّ علَى بعدٍ فأرَّقني
حتَّى تبلَّجَ وجهُ الصُّبحِ فاتَّضحا
عجبْتُ منهُ تخطَّى القاعَ من إضَمٍ
وجاوزَ الرَّملَ من خبتٍ وما برحا

وقال أبو تمام:

إسْتَزارتْهُ فكرتي في المنامِ
فأتاني في خفيةٍ واكتتامِ
فاللَّيالي أحفى بقلبي إذا ما
جرحتْهُ النَّوى من الأيَّامِ
يا لها ليلةً تنزَّهتِ الأرْ
واحُ فيها سرّاً منَ الأجسامِ
مجلسٌ لم يكنْ لنا فيهِ عيبٌ
غيرَ أنَّا في دعوةِ الأحلامِ

وقال عمر بن ربيعة المرقش:

أمِنْ بنتِ عجلانَ الخيالُ المبرِّحُ
ألمَّ ورحْلي ساقطٌ مُتزحزحُ
فلمَّا انتبهنا بالخيالِ وراعني
إذا هوَ رحلي والبلادُ توضَّحُ
ولكنَّهُ زَوْرٌ يوقِّظُ نائماً
ويحدثُ أشجاناً بقلبكَ تجرحُ
بكلِّ مبيتٍ يعترينا ومنزلٍ
فلوْ أنَّها إذْ تدلجُ اللَّيل تصبحُ
فولَّتْ وقد بثَّتْ تباريحَ ما ترى
ووجدي بها من قبلِ ذلك أبرحُ

وقال عبادة الطائي:

أما وهواكَ حِلفةَ ذي اجتهادِ
يعدُّ الغيَّ فيكِ منَ الرَّشادِ
لقدْ أذكى فراقُكِ نارَ وجدي
وعرَّفَ بينَ عيني والسُّهادِ
وما ناديتني للشَّوقِ إلاَّ
عجلتُ بهِ فلبَّيْتُ المنادي
وهجرُ القربِ منها كانَ أشهى
إلى المشتاقِ من وصلِ البعادِ

وقال أيضاً:

وإنِّي وإنْ ضنَّتْ عليَّ بودِّها
لأرتاحُ منها للخيالِ المؤرِّقِ
يعزُّ علَى الواشينَ لو يعلمونها
ليالٍ لنا نزدارُ فيها ونلتقي
فكمْ غلَّةٍ للشَّوقِ أطفأتُ حرَّها
بطيفٍ متى يطرقْ دجى اللَّيل يطرُقِ
أضمُّ عليهِ جفنَ عيني تعلُّقاً
بهِ عندَ إجلاءِ النُّعاسِ المرفِّقِ

وقال أيضاً:

دعا عبرتي تجري علَى الجورِ والقصدِ
أظنُّ نسيماً قارفَ الهجرَ من بعدي
خلا ناظري من طيفهِ بعدَ شخصهِ
فيا عجباً للدَّهرِ فقداً علَى فقدِ
خليليَّ هلْ من نظرةٍ توصلانها
إلى وجناتٍ ينتسبْنَ إلى الوردِ
وقد كادَ هذا القلبُ ينقدُّ دونهُ
إذا اهتزَّ في قربٍ من العينِ أوْ بعدِ
فلو تُمْكنُ الشَّكوى لخبَّركَ البكا
حقيقةَ ما عندي وإن جلَّ ما عندي

وقال أيضاً:

أنسيمُ هلْ للدَّهرِ وعدٌ صادقُ
فيما يؤمِّلهُ المحبُّ الوامقُ
ما لي فقدْتُكَ في المنامِ ولم يزلْ
عوْنَ المشوقِ إذا جفاهُ الشَّائقُ
أمنعْتَ أنتَ منَ الزِّيارةِ رِقبةً
منهم فهلْ منعَ الخيالُ الطَّارقُ
الآنَ جازَ بنا الهوَى مِقدارهُ
في أهلهِ وعلمتُ أنِّي عاشقُ

ولبعض أهل هذا العصر:

وقدْ كنتُ لا أرضى منَ النَّيلِ بالرِّضا
وأقبلُ ما فوقَ الرِّضى مُتلوِّما
فلمَّا تفرَّقنا وشطَّتْ بنا النَّوى
قنعْتُ بطيفِ منكَ يأتي مُسلِّما
فساعفني وهناً خيالكَ في الكرى
فزارَ وحيَّا ثمَّ قامَ فسلَّما
بنفسي وأهلي من خيالٍ ألمَّ بي
فداوى سقامي ثمَّ بانَ فأسقما
فواحسرتا لم أدرِ أنَّى اهتدى لنا
ولمْ أدرِ إذْ ولَّى إلى أينَ يمَّما
رعاهُ ضمانُ اللهِ في كلِّ حالةٍ
وإن ذرفَتْ عيني لفرقتهِ دما