الباب السادس والثلاثون من فاته الوصال نعشه الخيالأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب السادس والثلاثون من فاته الوصال نعشه الخيال
قد تقدَّم قولنا في عيب من خلَّف خليله أوْ تخلَّف عنه في وقته أوْ عن اللُّحوق به على حسب طاقته ثمَّ وكَّدنا عيب من لم يرض حتَّى أقرَّ بأنَّ المشوِّق له إلى إلفه عارضٌ غير متمكِّنٍ له من نفسه وأصحاب هذا الباب الَّذي نحن في أوَّله يلحقهم ذلك العيب كلُّه ويزدادون معه لوماً على مسامحتهم أنفسهم في التَّلذُّذ برقادهم وأخلاَّؤهم ظاعنون عن بلادهم ومن الصُّوفيَّة من لا يقنع لهم بما ألحقناه من العيب بهم حتَّى يقولوا إنَّ النَّوم لو كان مانعاً لهم لكان تخصيصهم إيَّاه بأنَّه يريهم أحبَّتهم نقصاً بيِّناً في مودَّتهم فإنَّ الحال إذا تمكَّنت لم تفترق الرُّوحان وإن افترق الشَّخصان فالمحبُّ المشاهد لصاحبه على كلِّ حالٍ مستغنٍ عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال ومن طرائف ما قيل في الخيال وأدلّه على ضعف قائله في الحال.
قول ذي الرمة:
فيا ميُّ هلْ يُجزى بُكائي بمثلهِ
مراراً وأنفاسي عليكِ الزَّوافرُ
وإنْ لامني يا ميُّ من دونَ صُحبتي
لكِ الدَّهرَ من أُحدوثةِ النَّفسِ ذاكرُ
وأنْ لا ينالَ الرَّكبُ يا ميُّ وقفةً
منَ اللَّيلِ إلاَّ اعتادني لكِ زائرُ
فهذا أحسن الله جزاءه لم يرض بالعيب الَّذي ذكرناه حتَّى طالب محبوبه بأن يجازيه على تخييله إيَّاه في منامه ثمَّ لم يقنعه أن يجازى بمثل بكائه مراراً فأما اعتذاره بأنه لا يرقد إلاَّ اعتاده منها زائرٌ فقد يتهيَّأ أن يخفَّف جرمه فيه فضربٌ من المعاذر فيقال إنَّه إنَّما عنى أنَّه لا ينفكُّ خاطره من ذكرها فإذا رقد رأى خيالها بقلبه لشدَّة غلبته في حال اليقظة على فكره وأما ما ذكره سوى ذلك من المحالات فإنَّه ينبو عن مراتب الاعتذارات وقد قال قيس بن الملوَّح ما إن لم يكن موفياً على حدِّ الكمال فإنَّه إلى الجليلة من الأحوال وهو:
وإنِّي لأستسقي وما بيَ عطشةٌ
لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خياليا
وأخرجُ من بينِ الجلوسِ لعلَّني
أُحدِّثُ نفسي عنك في السرِّ خاليا
فهذا البائس إذاً تناعس وليس بناعسٍ ليتعلَّل بخيالها إذا فاته ما يؤمِّله من وصالها فنحن نشهد له بالتَّمام في هذه الحال ولا ندري ما الَّذي يوجب له الغيبة عن إلفه حتَّى اضطرَّه إلى التَّعلُّل بطيفه فنعلم أين منه ذلك تماماً أم يوجب عليه ملاماً.
وما قصّر أيضاً الحسين بن وهب حيث يقول:
أرَقتُ وكيفَ لي بالنَّومِ كيفا
فألقى من حبيبِ النَّفسِ طيْفا
أقولُ لها متى وتقولُ حتَّى
وتمطُلني الهوَى بنعمْ وسوْفا
ولولا فرطُ إشفاقي عليها
غدوْتُ محكَّماً وشهرْتُ سيْفا
ولكنِّي إذا فكَّرتُ فيها
نهتْني النَّفسُ إشفاقاً وخوفا
ومن مليح ما يدخل في هذا الباب وإن كان مشهوراً في النَّاس:
فقلتُ لها بخلتِ عليَّ يقظى
فجودي في المنامِ لِمُستهامِ
فقالت لي وصرتَ تنامُ أيضاً
وتطمعُ أن تواصلَ في المنامِ
ولبعض أهل هذا العصر:
جُعلتُ فداكَ لم يخطر ببالي
حضورُ البينِ إلاَّ مذْ ليالي
فقد وهواكَ زادنيَ اشتياقا
علَى شوقي نواكَ وأنتَ قالي
وأكَّدَ ذاكَ أنِّي مذْ ليالٍ
سهرتُ فلمْ يزُرْ طيفُ الخيالِ
فبتُّ علَى الفراشِ كأنَّ قلبي
يقلِّبهُ هواكَ علَى المقالي
وكانَ الطَّيفُ يكشفُ بعضَ ما بي
ولستَ تراهُ يطرُقني بحالِ
فقلْ لي بالذي أصفاكَ ودِّي
أأنتَ نهيْتَ طيفكَ عن وصالي
أمِ السَّهرُ الَّذي ألزمتَنيهِ
نفى عنِّي الخيالَ فلا أُبالي
ولبعض أهل الأدب:
أعادَ عليَّ الله يومَ وصالكَ
وأخطرني قبلَ المماتِ ببالكَ
يُضاعفُ ما بي أنَّني لكَ وامقٌ
أميرٌ بما تهوى ولستَ كذلكَ
منعت جفوني أن تنامَ قريرةً
ولو نمتُ أرضاني طروقُ خيالكَ
وحلَّلْتَ عهدي في الهوَى وتركتني
أُعقِّدُ ما حلَّلْتهُ من حبالكَ
ومن مختار ما قالت الشعراء في الخيال علَى تقصير قائله عن بلوغ درج الكمال: