كتاب الزهرة/الباب العاشر سوء الظن من شدة الضن


الباب العاشر سوءُ الظَّنِّ مِنْ شدَّةِ الضَّنِّ

قال الزبير بن بكار: قال جميل بن معمر: ما رأيت مصعباً يختال بالبلاط إلاَّ عرف على بثينة وهي بالحباب وبينهما مسيرة ثلاثٍ.

وقال العباس بن الأحنف:

لم ألقَ ذا شجنٍ يبوحُ بحبِّهِ
إلاَّ ظننتُكِ ذلك المحبوبا
حذراً عليكِ وإنَّني بكِ واثقٌ
ألا ينالَ سوايَ منكِ نصيبا

ولبعض أهل هذا العصر:

أيا أملي هلْ في وفائكَ مطمعٌ
فأطلبَهُ أمْ قد تناهتْ أواخرُهْ
فإنْ يكُ ما قد خفتَ حقّاً فلا تعدْ
فلن يستوي مُوفي الفؤادِ وعاذرُهْ
وإلاَّ فلا تعتبْ عليَّ فإنَّهُ
إذا ظنَّ قلبُ المرءِ ساءتْ خواطرُهْ

وله أيضاً:

قسمتُ عليكَ الدَّهر نصفاً تعتُّبا
لِفعلكَ في الماضي ونصفاً ترقُّبا
إذا استيقنَتْ نفسي بأنْ لستَ عاذراً
ليَ الظَّنَّ والإشفاقَ إلاَّ تريُّبا
فقدْ والَّذي لو شاءَ غلَّبَ واحداً
فروَّحَ قلباً آمناً مُتهيِّبا
شككتُ فلا أدري لِفرطِ مودَّتي
يبريكَ أمرَضني يُرينيكَ مُذنبا
ولو كانَ قصدي منكَ وصلاً أنا لهُ
لقد كنتَ لي أندى جناباً وأخصبا
لوَ ادنوا لأقللْتُ العتابَ ولم أزدْ
علَى أن تراني في امتداحكَ مُطنبا
ولكنَّ بي ظنّاً أبى أنْ يُقيمني
لديكَ بما لا أرتضيهِ مُصوَّبا

وله أيضاً:

لقدْ جمعتْ أهوايَ بعدَ شَتاتها
صفاتُكَ فانقادَ الهوَى لكَ أجمعُ
سوى خصلةٍ ذكري رهينٌ بذِكرها
فقلبيَ منها ما حييتُ مروَّعُ
وحاشاكَ منها غيرَ أنَّ أخا الهوَى
بذكر الَّذي يخشى من الغدْرِ مولعُ

وقال بشار بن برد:

كأنَّ فؤادَهُ كرةٌ تنزَّى
حذارَ البينِ لو نفعَ الحذارُ
يُروِّعنا السِّرارُ بكلِّ شيءٍ
مخافةَ أن يكونَ بهِ السِّرارُ

وقال آخر:

وقدْ خفتُ حتَّى لو تطيرُ حمامةٌ
رقيباً علينا أوْ طليعةَ معشرِ
فإنْ قيلَ خيراً قلتُ هذا خديعةٌ
وإن قيلَ شرّاً قلتُ حقٌّ فشمِّرِ

وقال آخر:

تركتني الوُشاةُ نُصبَ المشيرينَ
وأُحدوثةً بكلِّ مكانِ
لا أرى خاليَيْنِ للسِّرِّ إلاَّ
قلتُ ما يخلُوانِ إلاَّ لِشاني

قال أبو بكر واتصل بي أن ديك الجن قدم من سفر له فوجد جاريته وقد كان يهواها عبد أخيه تسأله عن خبره لإبطاءةٍ كان عيَّنها فقتلها وقتل أمها وقال في ذلك:

يا مُهجةً طلعَ الحِمامُ عليها
وجنى لها ثمرَ الرَّدى بيديْها
حكَّمتُ سيفي في مجالِ خِناقها
ومدامعي تجري علَى خدَّيْها
روَّيتُ من دمها الثَّرى ولَطالَ ما
روَّى الهوَى شفتيَّ من شفتيها
فوحقِّ نعليها وما وطئَ الحصى
شيءٌ أعزُّ عليَّ من نعليها
ما كانَ قتلِيها لأنِّي لم أكنْ
أبكي إذا سقطَ الذُّبابُ عليها
لكنْ بخلتُ علَى العيونِ بلحظها
وأنفتُ من نظرِ العُداةِ إليها

وله أيضاً فيها:

أشفقْتُ أن يردَ الزمانُ بغدرهِ
أو أُبتلى بعدَ الوصالِ بهجرهِ
قمرٌ أنا استخلصْتُهُ من دُجنةٍ
لبليَّتي وجلبتهُ من خِدرهِ
فقتلتهُ وبهِ عليَّ كرامةٌ
ملءُ الحشا ولهُ الفؤادُ بأسرهِ
عهدي بهِ ميتاً كأحسنِ نائمٍ
والدَّمعُ يجرحُ مُقلتي في نحرهِ
لو كانَ يدري الميتُ ماذا بعدهُ
بالحيِّ منهُ بكى لهُ في قبرهِ
غُصصُ الزَّمانِ تفيظُ منها روحهُ
وتكادُ تنزعُ قلبهُ من صدرهِ

وله أيضاً فيها:

ليتني لم أكنْ لِعطفكِ ملتُ
وإلى ذلك الوصالِ وصلتُ
فالَّذي منِّي اشتملتِ عليهِ
ألِعارٍ ما قد عليهِ اشتملتُ
قالَ ذو الجهلِ لمْ جهلتَ ولا أعْ
لمُ أنِّي حلمتُ حتَّى جهلتُ
لائمٌ لي بجهلهِ ولماذا
أنا وحدي أحببتُ ثمَّ قتلتُ
سوفَ آسى طولَ الحياةِ وأبكيكِ
علَى ما فعلتِ لا ما فعلتُ

وهذا وإن سلم من أن يكون مغلوباً على عقله فظنُّه الظنَّ الَّذي لا غاية بعده وذلك أنَّه قد أيس من حبيبه بقتله له وهو غير نادم على فعله بل مصوِّبٌ له وراجع باللَّوم على نفسه فيما أتاه من الغدر.

وقال آخر:

يتعاتبانِ ويشكُوانِ هواهُما
بمدامعٍ جلَّتْ عن الهملانِ
يتهاجرانِ بسوء ظنٍّ في الهوَى
ويقلُّ صبرُهما فيصطلحانِ

وقال آخر:

عجلتُ علَى الصَّديقِ بسوءِ ظنٍّ
وعتبِ أُمورهِ في كلِّ فنِّ
وأُقسمُ صادقاً ما خنتُ عهداً
ولستُ بخائنٍ ما لم تخنِّي
وما كانَ الَّذي استوحشتَ منِّي
علَى المعنى الَّذي بُلِّغتَ عنِّي
وكنتُ إذا أتيتكَ كنتَ حسبي
فلمْ يكُ فيَّ فضلٌ للتَّمنِّي
فهلاَّ إذ عتبتَ بحثتَ عنِّي
ولمْ تُمضِ الحكومةَ بالتَّجنِّي

وقال البحتري:

أعظمُ الرُّزءِ أنْ تُقدَّمَ قبلي
ومنَ الرُّزْءِ أنْ تؤخَّرَ بعدي
حذراً أن تكونَ إلفاً لغيري
إذْ تفرَّدتُ بالهوى فيكَ وحدي

وقال بشار:

نصباً لِعينكَ لا ترى حسناً
إلاَّ رأيتَ بهِ لها شَبها
إنِّي لأُشفقُ أن أُقدِّمها
قبلي وأكرهُ أن أُؤخِّرَها

وقال ماني:

جعلتُ عنانَ ودِّي في يديْكا
فلمْ أرَ ذاكَ ينفعُني لَديكا
وقدْ والله ضقتُ فليتَ ربِّي
قضى أجلي عليَّ ولا عليكا
فلمْ أرَ عاشقاً لكَ قطُّ مثلي
أغارُ عليكَ من نظري إليكا

وقال:

وما في الأرضِ أشقى من محبٍّ
وإن وجدَ الهوَى عذبَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كلِّ حينٍ
مخافةَ فُرقةٍ أوْ لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهمْ
ويبكي إنْ دنَوا خوفَ الفِراقِ
فتسخنُ عينهُ عندَ التَّنائي
وتسخنُ عينهُ عندَ التَّلاقِ

وهذه المكاره كلُّها أثمار تلك الملاذّ الَّتي قبلها وذلك أن من هويَ إنساناً فإنما قصاره حين يهواه أن يعيد نظره إليه فيروى من شخصه ويستمتع من لفظه فإذا تهيَّأ ذلك له ازداد وجده به أضعافاً على ما كان في قلبه ثمَّ تدعوه نفسه بعد ذلك إلى كثرة التَّلاقي والمواصلة وتنبسط للمسائلة والمشاورة وهو في كل هذه الأحوال مشغول بحظوظ نفسه غير فارغ معها لصبابة غيره بل يحبُّ أن يكون إلفه سمحاً بالمواصلة لمن علم أنَّه يودُّه ليكون ذلك سبباً له إلى مواصلته وتسهيلاً له السَّبيل إلى معاشرته فإذا تمكَّن ودُّه من نفس محبوبه فاستشعر الوفاء له ودفع قياده إليه فلم يعترض شيء من أمره عليه لكسبه ذلك ضنّاً به وصيانة له.

وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:

إذا ازدادَ رعياً للهوى زِدْتهُ هوًى
وضنِّي به مقدارَ هذين يضعُفُ
قفوه أمني زائدٌ في تخوُّفي
ولا حظَّ لي في أن يزولَ التَّخوُّفُ
فلا يتشاغلْ عاذلٌ بنصيحتي
فمثلي علَى إرشادهِ لا يوقَّفُ
ولا يرْثِ لي في ذلَّتي وتواضُعي
فإنِّي بهذا الذُّلِّ أزهى وأشرفُ

فما ظنُّك بترادف حالين كلُّ واحدة منهما سبب لصاحبتها متى يكون انقضاؤهما أم كيف يتوهَّم زوالهما لا سيَّما وإحداهما قد كانت قوَّتها في نفسها منميةً لها قبل أن تبتدئ الأخرى في معونتها فإذا انتهت الحال إلى حيث وصفنا فرغ المحبُّ حينئذ من المطالبة بحظوظ نفسه وتشاغل بالمطالبة بحقوق إلفه فأنف له من معاشرة غيره بل صانه وأشفق عليه من مخالطته هواه وعاد إلى ما كان يحسب له به مكرمةً من برِّه به فجعله عليه هُجنة وأوهم نفسه أنَّ ذلك الَّذي ناله غيره ممنوع من كلِّ من سأله ألم تسمع الَّذي يقول:

فلا تُكثري قولاً منحتكِ وُدَّنا
فقولُكِ هذا في الفؤادِ مُريبُ
تَعُدِّينَ ما أوليتني منكِ نائلاً
وللقابسِ العجلانِ فيكِ نصيبُ

وفي نحو هذا المعنى يقول الآخر:

تمتَّعْ بها ما ساعفَتْكَ ولا تكنْ
عليكَ شجاً تُؤذيكَ حينَ تبينُ
وإنْ هي أعطتكَ اللِّيانَ فإنَّها
لآخرَ من خُلاَّنها ستلينُ

فحينئذٍ يظنُّ المحبُّ ما لا يخشاه ويتمنَّى ما لا يهواه ويفسد عليه أمر دينه ودنياه وهذه حال الوله الَّذي ذكرناه.

وقال بعض الأدباء في نحو ذلك:

يُسيءُ من كثرةِ الظَّنِّ الظُّنونَ بها
حتَّى يظنَّ ظنوناً ليسَ يخشاها

ومرتبة العشق الَّتي هي في هذا الطَّريق إلى هذه المرتبة توجب على المحب طاعة المحبوب في كلِّ ما أحبَّه حتَّى لا يعصيَ له أمراً ولا يُقبِّح له فعلاً.

وفي مثل ذلك يقول بعضهم:

كلُّ شيءٍ منكَ في عيني حسنْ
ونصيبي منكَ همٌّ وحَزنْ

ويقول الآخر:

صممتُ عنِ الأصواتِ من غيرِ وقرةٍ
وإنِّي لأدنى صوتها لَسميعُ
شفيعي إليها قلبُها إنْ تعتَّبتْ
وقلبي لها فيما عتبتُ شفيعُ
وقد ظفرَتْ منِّي بسمعٍ وطاعةٍ
وكلُّ مُحبٍّ سامعٌ ومُطيعُ

ويقول الآخر:

يقرُّ بعيني ما يقرُّ بعينِها
وأحسنُ شيءٍ ما بهِ العينُ قرَّتِ
كأنِّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ
من الصم لو تمشي بها العصم زلتِ
صفُوحاً فما تلقاكَ إلاَّ بخيلةً
فمَنْ ملَّ منها ذلكَ الوصلَ ملَّتِ

وبلغني عن الحسن بن سهل الكاتب أنَّه قال: أما أنا فإذا أحببت إنساناً نظرت إلى فعله ففعلت مثله فإنه إن أبغضني أبغض نفسه فإذا ابتدأ أهل العشق يرتفعون عن هذه الحال تكشَّف لهم عوار هذه الأفعال حالاً بعد حالٍ.

ففي مثل ذلك يقول أبو عبادة البحتري:

يُريِّبُني الشَّيءُ تأتِي بهِ
وأُكبرُ قدركَ أنْ أستَريبا
وأكرهُ أنْ أتمادَى علَى
سبيلِ اغترارٍ فألقَى شَعوبا
ولا بدَّ مِنْ لومةٍ أنتَحي
عليكَ بها مُخطئاً أوْ مُصيبَا
سأصبرُ حتَّى أُلاقِي رضاكَ
إمَّا بعيداً وإمَّا قريبَا
أُراقبُ رأيكَ حتَّى يصحَّ
وانظُرُ عطفكَ حتَّى يثُوبا

ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

بدأْتَ بموعدٍ ورجعتَ عنهُ
وكنتُ أعدُّ وعدكَ مِنْ عطائكْ
ولمْ تزلِ الخواطرُ عنكَ تُنبِي
بأنَّكَ لا تدومُ علَى وفائكْ
فلوْ كانت عهودكَ لم تُغيَّرْ
ولمْ يبدُ التَّكدُّرُ في صفائكْ
وفَيتَ بما ابتدأْتَ بهِ ولكنْ
أظنُّكَ قدْ ندمتَ علَى ابتدائكْ
فإنْ تكُ قدْ ندمتَ علَى اصطِفائي
فإنِّي ما ندمتُ علَى اصطفائكْ
وإنْ تكُ لمْ تخُنْ فلأيِّ شيءٍ
تغيَّرَ ما عهِدْنا مِنْ إخائكْ

وله أيضاً في نحو ذلك:

أَمِنتُ عليكَ صرفَ الدَّهرِ حتَّى
أناخَ بغدرهِ ما لمْ أُحاذرْ
وجسَّرنِي وفاؤكَ لي إلى أنْ
أذاقَنِي الرَّدى غبُّ التَّجاسرْ
فجئتُكَ شاكراً وأقلُّ حقِّي
إذا أحسنتَ أنْ ألقاكَ عاذرْ
وحسبكَ رتبةً لكَ مِنْ صديقٍ
أتاكَ بعاتبٍ في زيِّ شاكرْ

ولغيره في نحوه أيضاً:

وكذَّبتُ طرفِي عنكِ والطَّرفُ صادقٌ
وأسمعتُ أُذنِي منكِ ما ليسَ يُسمعُ
فلا كمَدٌ يَبلَى ولا لكِ رحمةٌ
ولا عنكِ إقصارٌ ولا فيكِ مطمعُ
ولمْ أسكنِ الأرضَ الَّتي تسكُنينَها
لئلاّ يقولُوا صابرٌ ليسَ يجزعُ

وربَّما ضعف الخارج عن حال العشق الَّتي توجب طاعة المحبوب على المحب إلى حالة الوله التي توجب الاعتراض عليه لفرط الميل منه إليهِ فيرجع من قريبٍ وينقاد صاغراً إلى كلِّ ما يريده المحبوب.

وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:

عَلامَ وقدْ أذبتَ القلبَ شوقاً
تصدُّ وقدْ عزمتَ علَى ارتِحالِ
ولمْ أكُ قبلَ ذاكَ أتيتُ ذنباً
سِوى أنِّي نهيتُكَ عنْ خصالِ
أردتُ بذاكَ أنْ تُدعَى رشيداً
إذا افتضحَ المعارفُ بالمقالِ
وألاَّ تُبتلَى بدنيءِ قومٍ
فيكثرَ فيكَ مِنْ قيلٍ وقالِ
فيسمعهُ المصادقُ والمُعادِي
فتندمَ عندَ مُفتخرِ الرِّجالِ
وما كلٌّ يصدِّقُ فيكَ قولِي
فكنتَ تكونُ فوقَ ذُرى المعالِي
فصنْ نفساً عليَّ أعزَّ منِّي
وقاكَ السُّوءَ أهلِي ثمَّ مالِي
وأيقنْ أنَّني لمْ آتِ ذنباً
ودونكَ ما هويتُ منَ الفعالِ
تجدْنِي راضياً بهواكَ طوْعاً
لأمركَ في الحرامِ وفي الحلالِ
فواللهِ العظيمِ لَوَ انَّ قلبِي
عصاكَ هممتُ عنهُ بانتقالِ
أقِلْني تدَّخرْ في الحشرِ أجراً
إذا احتاجَ المُقيلُ إلى المقالِ

والعاشق ما دامت حال العشق مالكة يتوهَّم ألاّ غاية بعدها ولا رتبة فوقها ويرى أن اعتراض المحب على محبوبه إنَّما هو من نقض حاله في قلبه وليس الأمر بحيث علِيَ بل هو بضده.

ولقد أحسن علي بن الرومي وقوله:

يا أخِي أينَ ريعُ ذاكَ الإخاء
أينَ ما كانَ بينَنَا مِنْ صفاءِ
أنتَ عَيني وليسَ مِنْ حقِّ عَيْني
طبقُ أجفانها علَى الأقذاءِ