مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/فضل الشرق على الغرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/فضل الشرق على الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1919



وأثر المغرب على المشرق

من أكبر العقائد التي مضى عليها أهل الغرب أن مدنيتهم الحديثة هي مبتكر عقولهم، ووليدة مسعاهم، ونتاج عملهم وافتنانهم، وأن الحضارة وقف على أممهم، واحتكار احتكرته شعوبهم، ولا يزال كتاب منهم وعلماء من أعلام صفوفهم يرمون الشرق بالجمود ويقرفونه بالتأخر، ويتراءى لهم الشرقي رجلاً متبلداً خامد القريحة، مغلول العزيمة، لا ينزل عليه وحي العظمة، ولا تمده الطبيعة بمستلزمات الرقي، ولم تمهد له القوة الإلهية أسباب المجد والرفعة، والسمو والعلاء، وإن الشرق لم يكن يوماً موطن العظماء ومهبط قواد الدنيا الأجلاء، بل قد كانت المدنيات التي أشرقت في جوانبه ووثبت في أنحائه نزوة من النزوات، وفلتة من الفلتات. وأنها لم تكن صالحة لأن تمكث في الأرض وتستقر. حتى أصبح جمع من كتابهم إذا كتبوا شيئاً عن الشرق نعتوه بالشرق الذي لا يتحرك! كأنما خيل لأهل الغرب أن العظمة تجري عليها سنن النباتات. والمواقع الجغرافية، وطبائع الإقليم، فلا تنبت إلا في منطقة معينة من مناطق هذا الكوكب. ولا تنقل أصولها وجذورها فتفرع وتزكو في غيرها من المناطق، وسواها من التخوم والأقاليم. وكأنما العظمة لا توجد إلا في مناطق الثلج والجليد كاللحوم المثلجة التي تنقل منها إلى البلد البعيد. وتستورد من أصقاع البرد والثلج الشديد. وكأن العظمة لا تحتمل وقدة الشمس وسعير القيظ حتى تطلع في مشرق الأرض، بل لا تجمد ولا تتكون إلا في مغيبها. وإن كانت العظمة من أكبر مطالبها الحرارة. وأكبر أعراضها اللهيب والتوقد والاضطرام. فهي خليقة أن تخرج مع الشمس. وتنمو على أشعة ذكاء في مهدها ومنشئها، ولا تصلح باردة ضاردة، تنمو مع مغرب الشمس واصفرارها في أفقها. وقد نسي هؤلاء أن الشرق موطن المدنيات العظيمة. ومسرح الحضارات الكبرى. وأن العظماء قد طلعوا فيه فخلدوا تاريخه. وأنه لا يزال قابلاً للرقي. كلما طلعت الشمس على العالم. وصالحاً للتقدم والعظمة لمتانة نفوس أهله. وقوة جذوة أرواحهم واضطلاعهم بالفضائل وقربهم من مواطن الأديان ومهد النبيين والقديسين.

وإذا نحن أردنا أن نتغلغل في البحث عن الأسباب التي دعت جموعاً عظيمة من أهل الغرب إلى إنكار عظمة أهل الشرق واستكبار الحضارة على بلدانه والجهل بحقه وفضله على الدنيا كلها، وعلى الغرب خاصة، وهم المعتزون بحرية الفكر النافجون باستقلال الرأي، المفاخرون بأن صراحة نفوسهم واستقلال أذهانهم وتحرر عقولهم تجعلهم في عاصم من متابعة الهوى والسكون إلى التحيز الرضا بذبذبة الرأي، فلا نلبث أن نجد أن هذا الاستقلال الفكري الذي به يعتزون ليس في الحقيقة إلا استقلالاً ظاهرياً أكثر منه حقيقة صادقاً، وأن الناس لا يزالون في إسار من ناحية الأذهان إذا هم أرادوا أن يروا أو يحكموا عن أعمال غيرهم وفضل سواهم من سائر أهل الإنسانية، فإنه في كل رجل من أهل الغرب يوجد رجلان ويتألف منه شخصان، الرجل الحديث العصري (آخر طبعة) وليد العلم والوسط الأدبي والذهني الذي نشأن فيه، والرجل القديم العتيق الذي لا يزال سلسلة مركبة تربطه بالماضي البعيد ومن هذا الرجل الذي يطل بين ثنايا الإنسان يستمد كل خص آراؤه في الناس وأحكامه في أخلاقهم وشؤونهم ومكانهم من الحياة والرقي بجانبه ويلوح لنا أنه يعز على أهل الغرب أن يعترفوا بأن الشرق هو الذي رقى الغرب. وأن الشرقيين هم سادات الدنيا في الحضارة. وعنهم أخذ الغربيون هذا الفضل العظيم الذي يزهون اليوم بآثاره في جميع أنحاء الأرض لأنهم يرون حاضر الشرق والنكسة التي انتكسها اليوم. والركود الآسن الذي جرى في أهله. فيشفقون من أن يعترفوا بالماضي ويدينوا للحق. ويصدعوا برأيهم العميق الخفي. في عظمة الشرق. فيكون من ذلك إنهاض لهمم الشرقيين واستثارة لعزائمهم واحتثاث علم على إعادة آثار ذلك الماضي المجيد والدولة التي لهم في عين الشمس.

على أن الشرق وإن أصر الغربيون واستكبروا استكباراً لا يقل اليوم في مادة العظمة عن الفرب وإن تقاوي العظمة وبذورها لا تزال توجد في كثير من بلدانه وأقطاره، وإن لم تتيسر الظروف لزرع تلك البذور وسقيها، ولم تمهد الأرض الصالحة لإنباتها. وإخراج شطئها، ولكن تلك الظروف ولا ريب سانحة في مستقبل الأيام. والأرض عما قليل مخصبة صالحة لثمار تلك الزروع الطيبة.

وإذا كان الغربيون ينكرون اليوم، ويدعون بأن العظمة احتكار من احتكارات شركاتهم وأممهم. فإن التاريخ لم يحرق بعد، ولا يزال كتاب الدنيا مفتوحاً يقرأ الناس فيه ما كان من المشرقين، وما كان من فضل الحضارتين.

ونحن نبسط للقراء ما كان من أثر مدنية من أكبر مدنيات الشرق في تهذيب بلاد الغرب. وهي المدنية الإسلامية. ثم نعقب بذكر شيء من آثار الغرب في بلاد الشرق. لنتبين أي الفضلين أعظم، وأي الحضارتين خلعت على الأخرى المآثر والمكرمات والحسنات الكبار.

(2) فضل الشرق على الغرب

من ناحية الأخلاق والآداب

إن هذه الأخلاق التي يعجب بها أهل الغرب ويفخرون بها وتلك الآداب الجميلة التي يعتزون بها ويتسامون من إفساح الطريق للسيدات إذا خطرن وتلقيهن بالحفاوة إذا قدمن وتقديمهن على الرجال في المجالس. وما على تلك الألوان المختلفة التي يظهر فيها أهل الغرب عبادتهم لنسائهم. ومن احترام الشيوخ وإكبار المتقدمين في السن، والعطف على الأطفال والرحمة بالوالدان. وتقديس الإيمان والأقسام والبر بالوعود وكراهية الحنث بالمواثيق وجملة تلك الآداب الطيبة كل أولئك أخذه الغرب عن الحضارة الإسلامية. يوم بثت آدابها في الشرق والغرب. وانحدرت إلى إسبانيا. فكانت تلك الدولة في وحشية وهمجية وانحطاط لا تجد لها اليوم مثيلاً في أواسط إفريقيا، فلما هبط المسلمون تلك البلاد نفض أولئك القوم عنهم بربريتهم واتخذوا آداب الفروسية ومطالبها شعائر لهم ورسوماً.

وفي العصر الذي قامت فيه الحروب الصليبية يشهد التاريخ والغربيون أنفسهم كما ذكر العلامة جوستاف لوبون أن الشرق كان إذ ذاك بفضل مدنية الإسلام ينعم بحضارة مشرقة النور فياضة الحواشي، مفعمة الروح بالآداب وألوان الرقي المختلفة، على حين كان الغرب مرتطماً في حمأة الهمجية.

ونحن ننقل هنا رأي صاحب كتاب حضارة العرب في هذا الموضوع إذ يقول: أما الشرق فلم يستفد أهله من أهل المسيحية في تلك الحروب شيئاً، بل لم يكن منها إلا أن أثارت في قلوب الشرقيين الاستخفاف بالغربيين. ولم يكن منها إلا العصبية الموحشة القاسية للأديان، وهو الأمر الذي ما فتئنا نحا ربه اليوم ونعمل على إطفاء جذوته. حتى هذه الساعة. ولكن الغرب استفاد منها أعظم الفائدة في التجارة والصناعة والعلوم والآداب ومختلف الفنون، وذلك بفضل مدنية الشرق. فالشرقيون هم الذين أخرجوا الغربيين من الهمجية وأنقذوهم من وصمة البربرية وأعانوهم على حضارتهم الحاضرة.

ويقول المؤرخ العدل المنصف بارتلمي سانت هيلير: بفضل آداب العرب ومدنيتهم الإسلامية، استطاع سادات القرون الوسطى في بلادنا الغربية أن يخففوا من شر عاداتهم الوحشية. واستمد فرساننا من الاختلاط والمجالدة مع المسلمين جملة من العواطف الرقيقة والمشاعر العظيمة الجليلة والوجدانات الإنسانية التي لم يكن لهم بها عهد من قبل، ونحن في شك وريب من أن المسيحية وحدها هي التي أوحت بتلك الآداب، وارسلت فيهم روح تلك العواطف، لو لم يكن من حضارات الإسلام.

(3) فضل الشرق على الغرب

في الآداب والعلوم والفنون

إن أهمية الأثر العظيم الذي أحدثته المدنية الإسلامية في الغرب لا تتيسر معرفتها وإدراك حدودها ومبلغ ما كان منها إلا إذا بسطنا للقراء حال أوروبا في العصر الذي دخلت فيه تلك المدنية أرض الغرب.

فإذا ألقينا البصر إلى القرنين التاسع والعاشر من التاريخ المسيحي وهو العهد الذي أشرقت فيه مدنية الشرق في إسبانيا فلا نجد شيئاً هو أقرب إلى المدنية في الغرب من تلك القصور العظيمة التي كان يسكنها النبلاء والسادات وهم في الجهالة يعمهون، حتى أن كثيرين منهم كانوا يعتزون بأنهم لا يتنزلون إلى معرفة القراءة والكتابة، وكان أعلم العلماء في ذلك العصر طائفة من القساوسة الفقراء كانوا يصرفون أيامهم في تلاوة كتب العهود القديمة واستظهار آداب العصور الغابرة قبلهم. ولم تنشأ للعلم في الغرب بواكر ولم تبدر له بوادر إلا في أوائل القرن الثاني عشر إذ بدأ أهل الغرب يفطنون إلى وجوب أخذ مبادئ العلم والمدنية عن العرب فكانت إسبانيا وصقلية وإيطاليا الموارد التي ينتجعون إليها لإصابة حظ من المدنية، وكانت هي السبيل التي نفذ منها العلم إلى أوروبا بأسرها.

ومنذ عام 1130 نشأت في قرطبة جامعة لترجمة أسفار العرب وتواليفهم وكان أثر تلك الكتب عظيماً، إذ فتح للغرب مغاليق علم جديد كانوا منه مقفرين وعرفوا منها فلاسفة العصور القديمة من الرومان واليونان وكانوا بهم جاهلين وراحت كتب العرب المنقولة إلى لغات الغرب، هي الموارد الأولى والمراجع الكبرى لجامعات أوروبا ومعاهد العلم في بلادها نحواً من ستمائة عام أو تزيد.

وعنها تقدمت العلوم الحديثة التي زهى علينا اليوم بها أهل الغرب، كالطب والعمارة والفلسفة والآداب والكيميا والطبيعة وما إلى تلك العلوم من أخوات لها وأقارب.

ولو أنك اطلعت اليوم إلى إسبانيا لألفيت فيها آثاراً تدل على الإسلام وما كان من حضارته، ولا تحسب أن المدنية الإسلامية ماتت في تلك البلاد وعفت القرون عليها العفاء فلا تزال ثمت مدائن كثيرة ولا سيما إشبيلية غنية اليوم بآثار العرب مفعمة بالذكريات المتعددة عن مدنيات الإسلام فالبيوت لا تزال تبنى على الطراز الإسلامي ولا تختلف عن بيوت الإسلام وقصوره إلا بفقرها من الزينات والزخارف الجميلة ولا يزال الرقص فيا عربياً والموسيقى عربية ولا تزال المدنية الشرقية تدل على نفسها في وجوه الإسبان ومعارف محياهم، ومن هذا تعلم أنك قد تقتل الأمة من الأمم بأسرها وتحرق كتبها وتهدم آثارها، وتعفى على ذكرياتها ولكن لا تستطيع أن تستأصل الجذور استئصالاً وتنزع التأثير القديم نزعاً وليس في مقدرة الإنسانية أن تقتل ذلك الأثر، ولا تستطيع القرون أن تمحو منه إلا الشيء النزر اليسير.

هذه آثار أوجزنا فيها الإيجاز كله على فضل الشرق وابتعاثه على الغرب على التقدم وإغرائه بالرقي وإنشائه هذه الحضارات الزاهية الألوان اليوم، فماذا كان من الغرب في الشرق وماذا ترك الأولون للآخرين.

(2) آثار الغرب في الشرق

ما كاد العرب يخرجون من الأندلس ويتركون غرناطة مهد الإسلام في المغرب حتى أخذ الغربيون يسومون أخلافهم فيها العذاب كله وكان أخلق بهم أن يتعلموا ذلك التسامح الذي نشره المسلمون في تلك البلاد وبثوا بذوره ولكنهم جعلوا يقتلونهم تقتيلاً حتى افنوا منهم خلقاً كثيراً وكان ينتظر إذ ذاك أن تفتح الإسبان بعد ذلك عهداً جديداً. وتخرج حضارة كبرى. ولكن إسبانيا لم تقم لها قائمة منذ خرج عنصر الإسلام منها. وتركتها الحضارة الإسلامية ولا تزال حالها قمينة بالرثاء. وهي في ضجعة لا تصحو منها وفي سبات عميق لا يعرف حده. ولا يدرك متى تستيقظ منه.

وإذا أنت أجلت البصر في الشرق اليوم، وهو لا يزال في إسار الغرب فما أنت واجد شيئاً تستطيع أن تذكره فضلاً من أفضال المغرب على المشرق إلا إذا كانت المضاربات والمقامرات والوسائل التجارية غير المشروعة وتوريد الخمر والبنادق والكتب المقدسة. والتعاليم الفوضوية، والمبادئ الحمقاء. تعد فضلاً وتذكر بالخير والثناء. حتى اشتد الفقر في جميع بلاد الشرق. وعم البؤس. والمجاعة والجدب. ولم تنجح مدنيات الغرب في بلاد الشرق مطلقاً ولم تصب رائد التوفيق لاختلاف مبادئ الشرقيين وأخلاقهم عن مبادئ الغرب وأمثلته العليا. . وتباين نوع الحياة في الشرق عنها في الغرب وتضارب عواطف الشرقيين وعواطف الغربيين. ومن هذا جعل الشرقيون يستشعرون الاستخفاف بالحضارة الغربية. ويجمدون على آدابهم. ويعضون بالنواجذ على كرائم خلقهم. أما مدنية الغرب في البلاد المتوحشة فكانت نتيجتها قاتلة مبيدة بسرعة مدهشة ففي إفريقيا جعل الزنوج يبيدون شعوباً وقبائل. من جراء شيوع الخمر والبنادق في بلادهم.

هذا كل ما فعله الغرب في الشرق استناداً على ذلك الحق الجديد الذي أخرجته الفلسفة الحديثة. وهو حق القوي وتنازع البقاء وبقاء الأصلح.

وها قد راح الغرب اليوم يمني الدنيا بالمنى المعسولة. وهو أن يعيش الناس جميعاً في عصبة واحدة تحت ظلال السلام المقيم. والأخوة العامة. والإنسانية المشتركة. وهي خدعة من الخدع الماضية. ولا يعلم إلا الله ماذا يراد بالضعيف منها. وماذا يبتغي الأقوياء من ورائها. لأن المعنى لا يزال في بطن الشاعر!.