مجلة الرسالة/العدد 1005/محمد رسول الله

مجلة الرسالة/العدد 1005/محمد رسول الله

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 10 - 1952



للأستاذ علي الطنطاوي

كتب كتاب في الرسالة عن الرسول صلى الله عليه وهل كان يعلم الغيب أم أن الغيب شيء قد اختص الله نفسه بعلمه. فكتبت كلمة صغيرة لتنشر في البريد الأدبي، ثم رأيت أن الأمر أكبر من ذلك وأنه لا يكفي فيها تحقيق هذه الجزئية؛ بل لا بد من تصحيح عقيدة كثير من المسلمين بالنبي

إن القرآن بين بياناً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا مجال لتأويل ولا تبديل، بأنه بشر يوحي إليه، فهو في ولادته وفي منشئه وفي صحته وفي سقمه، وفي حياته وفي موته، بشر كسائر البشر، وإن كان الله دق اختصه باسني الصفات (البشرية) في الخلق والطبع والسلوك والمواهب، وأنه فوق ذلك يحوي إليه كما كان يوحي إلى الأنبياء من قبله، ولا يوحي أبداً لأحد من بعده، لا لإمام من أئمة آل البيت، ولا لمتنبئ ولا لمدع العيسوية في قاديان. هذه هي العقيدة الصحيحة، فهل المسلمون كلهم عليها؟

إن كثيرين من المسلمين، ولا سيما من يدعي التصوف منهم يرفعون النبي فوق البشر، ويصفونه بصفات الألوهية، والأدلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، وأنا أمثل على ذلك بقصائد تتلى صباح مساء، ويتبرك الناس بها، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله بتلاوتها وإنشادها، وفيها الكفر الصريح. الذي يعد كفر المشركين من قريش إن قيس به إيمانا، فكفار قريش كانوا إن ركبوا الفلك، ودهمتهم الشدائد دعوا الله، كما أخبر بذلك القرآن، والبوصيري صاحب قصيدة (البردة) التي يتلوها المسلمون خاشعين كأنهم يتلون القرآن، يقول للنبي صلى الله عليه:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم

ومن المعلوم أن أقوى طرق القصر عند علماء البلاغة هو النفي والإثبات، ولذلك كانت كلمة التوحيد، لا إله إلا الله: نفي الألوهية عن الجميع وإثباتها لله وحده

وهذه القصيدة الأخرى، التي كان مشايخنا. . يتبركون بها، ويتأدبون عند تلاوتها. قصيدة (ما أرسل الرحمن أو يرسل)، يقول صاحبها مخاطباً النبي

عجل بإذهاب الذي أشتكى ... فإن توقفت فمن أسأل؟ وأصرح من ذلك قول الشيخ عبد المجيد الخاني، مؤلف الحدائق الوردية:

رسول الله لي بصر كليل ... وأنت بكل أحوالي بصير

رسول الله مالي من نصير ... سواك الدهر يا نعم النصير

لعمرك يا أجل الرسل إني ... لما أنزلت من خير فقير

فإن أدركتني بخفي لطف ... فدهري لا يضر ولا يضير

هل يشك أحد ممن يفهم الكلام العربي، بأن هذا الرجل يؤله محمداً، ويعبده، ويخاطبه بما جاء في القرآن خطابا لله عز وجل (رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير)؟

والأحاديث الصحيحة، قد بينت أنه ولد وربي كما يولد ويربى لذاته من أبناء قريش إلا أن الله عصمه من عبادة الأصنام، ومن الكذب والغش وسائر شرور اللسان والقلب، وجعله على خلق عظيم لم يجعل عليه بشراً غيره في كل عصور البشرية، وتأتي مع ذلك هذه الموالد التي يتولها الناس، وأشهرها مولد العروس عند العامة، ومولد البرزنجي عند الخاصة، وكلاهما محشو بالكذب، فتجعل الوحوش تباشر بولادته، بأفصح الألسن القرشية. . . وأنه حضر أمه ليلة مولده آسية ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية. . . وأن جده وأمه وأمه كانا يعرفان بأنه خاتم الأنبياء، مع أنه هو صلى الله عليه، لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وأنه لما جاءه الوحي ذهب يقول زملوني، دثروني، حتى أخبره ورقة أن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على عيسى

وبعض المسلمين لا يعتقد أن الرسول ميت، ويراه حياً في قبره مثل حياتنا، حتى أنه كان في حينا (في المهاجرين - في دمشق) خطيب كان يقول في خطبته مسجعاً: (قال وهو في قبره حي: لا بخيل من ذكرت عنده لم يصل علي، وناقشه بعض طلبة المدارس. فأكد لهم أنه حي في قبره، وأن فلاناً (ومشايخ الطرق)، وقف عند القبر، وقال من قصيده:

(فامدد يمنيك كي تحظى بها شفتي)

قال: فخرجت اليد الشريفة من جدار القبر حتى قبلها

وأمثال هذه الأكاذيب التي لا يقرها عقل ولا نقل، ولا يقبلها شرع ولا طبع

والله يقول للرسول: (إنك ميت) ونحن ننكر موته، فيم إذن نقرأ السيرة. ونقول أنه ولد سنة كذا. ومات سنة كذا؟ وفيم نصب الخلفاء من بعده؟ ولماذا لم يرجعوا إليه يوم اختلفوا في السقيفة وكاد ينصدع أمر الإسلام، وهو مسجى لم يدفن بعد؟

إنه حي عند الله حياة برزخية روحية الله أعلم بها - أما بالنسبة إلينا فهو ميت - قد مات ودفن كما يموت سائر الناس ويدفنون، وإن كان قد ورد أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الله يوكل ملكا يسمعه السلام عليه، أو يرده عنه. وهذه كلمة وإن صح طريقها إخبار آحاد، لا تثبت بها عقيدة - ولا يبنى عليها علم، كما هو معروف من علم الأصول

والغريب في المعجزات أنك إن رجعت إلى كتب الصحاح وغلى السير الأولى كسيرة ابن إسحاق، لم تجد إلا شيئاً منها قليلاً، فإن ذهبت إلى الكتب المتأخرة كالسيرة الحلبية مثلاً وجدتها فياضة بذكر العشرات من المعجزات التي لم يكن لها ذكر في الكتب الأولى. ونحن لا ننكر المعجزات، ولكنا نجد في القرآن ما يرد على طالبي الآيات من المشركين، بأن القرآن هو الآية الكافية التي لا تحتاج إلى شيء معها

ومن المسلمين من يجعل المنامات والرؤى أصلاً من أصول الشرع ويبني عليها أحكاماً وأوهاماً أتخذها سبيلاً إلى احتلال المنافع، ودرء المفاسد، ويستندون إلى حديث (من رآني فقد رآني حقاً) مع أن العلماء قد نصوا على أن الشرط في ذلك أن يراه على الصورة التي وصف بها في كتب الحديث وفي الشمائل. ولا يبنى على الرؤيا مع ذلك حكم شرعي

هذا وأنا لا أذكر درجة هذا الحديث - وليس تحت يدي وأنا أكتب هذا الفصل شيء من الكتب أرجع إليه وليس عندي وقت للمراجعة

وبعضهم يخالف ما عليه الإسلام من جهة تقديس أسرته، وتفضيلهم بمجرد النسب، مع أن الفضل في الإسلام للتقوى والمزايا الشخصية. والنبي يقول لابنته فاطمة: (يا فاطمة بن محمد، لا أغنى عنك من الله شيئا) ويحتجون بآية (إلا المودة في القربى) جاهلين معناها ومساقها

وآخرون من المسلمين يظنون أنهم يمدحون الرسول ويعظمونه، وبوصفه بأنه جميل الوجه، ومدح عينيه وجماله، وذكر العشق والوصال، وينشدون في ذلك الأناشيد في الإذاعات - أيام المواسم - ويسموها أناشيد دينية، وما هي إلا تقليد للترتيبات الكنسية النصرانية زقلة أدب مع الرسول، ولا أصل لها في الإسلام ولا يرضى بها الشرع ولا الذوق ولا الأخلاق. ويجب شرعا منع إذاعتها

هذا وقد نجحت طائفة من شباب المسلمين. . تنكر الوحي وترى النبي عبقريا فقط، وبعضهم ينسب العبقرية للشعب العربي، ويرى بأن الرسول أثر لها - وكل هذا اتباع للمستشرقين واللمحدين، ولبعض النصارى من أجراء الأجانب الذي أفسدوا الإسلام في بلاد الشام باسم القومية العربية، والانتصار لها والدفاع عنها. . وسنفصل الكلام في العربية والإسلامية في مقال آخر إن شاء الله

وبعد فإن من أوجب الواجبات على العلماء والخطباء وأرباب الأقلام الإسلامية، أن يردوا أتباع محمد إلى العقيدة الصحيحة في سيدنا محمد صلى الله عليه، الذي كان بشراً يوحي إليه، ولم يكن إلهاً يعبد - ولا جميلاً يعشق، ولا نابغة عبقرياً فقط

علي الطنطاوي