مجلة الرسالة/العدد 1016/بنديتو كروتشه
مجلة الرسالة/العدد 1016/بنديتو كروتشه
1866 - 1952
للأستاذ جمال مرسي بدر
في العشرين من نوفمبر سنة 1952 وفي مدينة نابولي الرابضة على خليجها مضرب المثل في جمال الطبيعة، انتقل من الفانية إلى الباقية رجل من بقية الفلاسفة العظام ورواد الفكر الإنساني وحملة مشعل الحقيقة - ذاك هو بنديتو كروتشه أكبر فيلسوف أنجبته إيطاليا منذ زمن بعيد، وأحد القلائل المشهود لهم في عصرنا ببعد الأثر في توجيه الفكر الحديث.
ولد بنديتو كروتشه في 25 فبراير سنة 1866 في بسكاسيرولي بمقاطعة اكويلا، ثم نزحت عائلته إلى نابولي حيث بدأ (بنديتو) تعلمه في إحدى مدارس الكاثوليك شأنه شأن أغلب فتيان وطنه.
وفي سنة 1883 نكب بنديتو كروتشه وهو في صدر شبابه بأبويه جميعا في زلزال من تلك الزلازل التي لا تجهلها مدينة نابولي فغادرها إلى روما حيث عاش في كنف عم له. ودخل الجامعة ليدرس الحقوق ثم تحول عنها إلى الآداب ولكنه على أية حال لم يكمل دراسته الجامعية إذ لم يلبث أن عاد إلى نابولي بعد سنوات ثلاث من إقامته في روما.
وفي نابولي عكف كروتشه سنين طويلة على دراسته الخاصة في التاريخ والدب والسياسة والاقتصاد والاجتماع وتفاعلت ثمار هذه الدراسات في ذلك العقل الممتاز حتى أخرج صاحبه أول أثر فلسفي له في سنة 1983 وهو مجموعة مقالات في (طبيعة التاريخ) وفي (مذاهب النقد الفني).
ولقد كان للدراسات الاقتصادية في تفكير كروتشه شأن كبير وانعكست عقليته الاقتصادية على كثير مما كتب وإن كان موضوعه غير متصل بالاقتصاد، ولقد بدأ اهتمام كروتشه بالدراسات الاقتصادية في شبابه الباكر إذ عكف على ما كان يشغل العالم آنئذ (ولا يزال شغله) من مذاهب اقتصادية متضاربة وأخرج فيما بين سنتي 1896 - 1900 دراسات في نواح من المذهب الماركسي.
أما اهتمامه بالنقد الفني الذي كتب فيه واحدا من أوائل آثاره فقد تجلى في نشره منذ سنة 1903 مجلته (النقد) التي تولت عرض أبدع أعمال الأدباء الإيطاليين ونقدها نقدا فنيا مذهبي حقبة طويلة من الزمن بحيث أصبحت مجموعاتها مرجعا لا غنى عنه لكل من يدرس الأدب الإيطالي الحديث
ولم تتخلف عن أعمال كروتشه وكتاباته نتيجتها الطبيعية فذاع صيته في الأوساط الأدبية والعلمية. ولم يلبث هذا الشاب الذي غادر جامعة روما قبل أن يتم دراسته أن أصبح قبلة أنظار جامعات إيطاليا التي تسابقت إلى عرض الأستاذية عليه! غير أنه رفضها جميعا مفضلا الاستغراق في دراساته الحرة وبحثه المستقل الذي ينشر على الناس نتائجه في كتبه وفي رسائله فتقع من أذهانهم ونفوسهم موقع الإكبار حينا وموقع الإنكار حينا آخر لغرابة ما كان يدلي به من آراء.
ولئن تسابقت الجامعات الإيطالية لتظفر بكروتشه أستاذا بها فإن الجامعات الأجنبية قد تسابقت إلى تكريمه بإسباغ ألقاب الشرف العلمية عليه، وأول ما ناله من ذلك لقب دكتور فخري في الفلسفة من جامعة فريبورج الألمانية.
على أن كروتشه لم يعدم نصيبه من المناصب العامة في بلده إذ عين في سنة 1910 عضوا بمجلس الشيوخ ثم عين وزيرا للمعارف في وزارة جيوليتي فيما بين سنتي 1920، 1921. فلما جاء العهد الفاشستي ابتعد كروتشه عن الحياة العامة لعدم توافق آرائه واتجاهات ذلك العهد وما كان يقوم عليه من فلسفة سياسة.
ولقد أثمر تفرغ فيلسوفنا للبحث والدرس والتأليف ثمارا طيبة؛ إذ بلغت مجموعة آثاره المطبوعة سنة 1926 عشرين مجلدا عدا ما كتبه بعد ذلك التاريخ وهو شيء كثير؛ إذ أنه لم ينقطع عن الدراسة والكتابة إلى أن أدركته الوفاة.
وكان كثير من آراء كروتشه الجريئة وأفكاره المبتكرة صدى بعيد وآثار بعضها حملة من الانتقاد والهجوم صمد لها كروتشه ودخل مع معارضيه في مجالات طويلة تولاها بجنان قوي ويراع سوى.
وقد اعتبر كروتشه عند الكثيرين من أتباع هيجل ووصفت فلسفته بأنها (هيجلية)؛ غير أن أغلب الباحثين اليوم - ومنهم الأستاذ جون ألكسندر سميث أستاذ الفلسفة بجامعة أكسفورد - يخطئون هذا الرأي ويعتبرون كروتشه صاحب فلسفة خاصة تأثر فيها بكتابات اثنين من مواطنيه هما دي سانكيتس، وفيكو من كتاب القرن الثامن عشر.
وإنه لم يجاوز نطاق مقال واحد الإلمام بجميع نواحي كروتشه والإحاطة بفلسفته التي قسمها إلى أقسام أربعة: فلسفة الجمال، والمنطق، وفلسفة السلوك (الاقتصاد والأخلاق)، وفلسفة التاريخ وهو يراها في مجموعها وحدة لا تنفصم، وتشمل كافة مظاهر الوجود الإنساني.
ولكن لا أقل من أن نلم في هذه العجالة بشيء من آراء كروتشه في فلسفة الجمال. ولعل اقتصارنا على جانب واحد من جوانب هذه الفلسفة الخصبة (فلسفة كروتشا) أكثر فائدة من مرورنا على عجل بكل جوانبها في حدود ما يقتضيه المقام من إيجاز.
بسط كروتشه مذهبه في فلسفة الجمال في كتابه الذي ظهر سنة 1902 (وطبع بعد ذلك طبعات عديدة وترجم إلى أكثر من لغة أوربية) ثم في كتابات متفرقة أهمها المجموعة التي نشرت بعنوان (مقالات جديدة في فلسفة الجمال) (باري سنة 1926).
ليس كروتشه من أنصار فكرة المثل الأفلاطونية، وهو لا يرى الفن كما كان يراه أفلاطون محاولة لتقليد مثال الجمال الذي تحسه النفوس من بعيد مجردا عن موضوعاته وتسعى عن طريق الفن بمختلف صوره إلى الوصول إلى شيء من ذلك المثال، فكروتشه يرى أن الجمال - أو الفن - هو وموضوعاته شيء واحد، فهو من المنادين بالوحدة بين الجمال وبين موضوعه أو بين الفن وبين العمل الفني.
يقول كروتشه إن الأفكار القبلية كفكرة الجمال أو الفن ليست موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في الموضوعات المتعددة التي تتجلى فيها، والجمال أو الفن ليس مثالا بعيدا عن الإدراك تعجب به النفوس في ذاته! وإنما هو نفسه الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية التي يخطئها الحصر والتي وجدت وتوجد وستوجد في هذا العالم المتغير.
ومن هذه الوحدة بين الجمال وموضوعاته وبين الفن والأعمال الفنية يخرج كروتشه بتجديد مهمة فلسفة الجمال لا على أنها (كما كان مسلما) تعريف الفن تعريفا يسمح بمعرفة قوانين الجمال الأزلية التي تحكم كل مظاهره، وإنما على أنها محاولة دائمة لتنظيم وتبويب مظاهر الجمال الفني التي تتعدد وتتسع على مر الزمن، فهي بهذا الوصف علم متجدد نام دائما أبدا.
والعمل الفني عند كروتشه ليس هو الشكل المادي الذي يتجلى فيه ذلك العمل للناس ويبقى فيه على الدهر كالألفاظ في الشعر وكالخطوط والألوان في التصوير، وإنما العمل الفني عنده هو الحالة النفسية أو الانفعال النفسي لدى الفنان المبدع ولدى غيره ممن يتذوق ما أبدعه الفنان. وعلى هذا يقول كروتشه إن الأشياء الجميلة والأعمال الفنية غير موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في نفوس المبدعين والمتذوقين.
وإذ ينتبه كروتشه إلى ما في القول بأن الأشياء الجميلة والأعمال الفنية غير موجودة في ذاتها من تناقص ظاهري يلجأ إلى علم الاقتصاد ليضرب مثلا يقرب المسألة من الأذهان فيقول: إن الاقتصاد لا يعرف للشيء في ذاته قيمة، وإنما القيمة هي وليدة العرض والطلب وليست وليدة صفات طبيعية في ذات الأشياء. وإذن فالاقتصادي الذي يبحث عن القيمة على هدى الصفات الذاتية للشيء يرتكب نفس الخطأ الذي يقع فيه من يبحث عن الجمال في المظاهر المادية التي تبدو فيها الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية.
ومن هذه التفرقة بين الأشكال المادية التي تتجلى فيها الأعمال الفنية وبين العمل الفني في ذاته يخرج كروتشه بمبدأ وحدة الفن؛ فهو يرى أن التمييز بين الفنون المختلفة إنما هو تمييز غير جوهري مرجعه إلى الشكل المادي الذي تبدوا فيه آثار مختلف الفنون كالأصوات في الموسيقى والألفاظ في الشعر والألوان في التصوير، أم في الجوهر فالفنون المختلفة التي جرى العرف على التمييز بينها تربطها وحدة قوية، لأن العمل الفني لا يتوجه إلى الحواس التي ترى أو تسمع، وإنما يتوجه إلى النفس البشرية في عمومها، وتأثيره في تلك النفس واحد وإن اختلفت الأشكال المادية التي تبدو فيها آثار الفنون ومن ثم فإن كروتشه لا يقر من يرون لكل فن من الفنون الجميلة قواعد استاتيقية خاصة به، ويرى أن فلسفة الجمال ينبغي أن تشمل بذات القواعد الفنون كلها لأنها في حقيقتها فن واحد.
هذا وإن عملية الإبداع الفني قد نالت من اهتمام كروتشه جانبا كبيرا؛ ولا غرو فهي من أهم المشاكل التي يتناولها الباحثون في الفن والجمال، وفي صدد الكلام عن الإبداع الفني يشير كروتشه إلى التفرقة المعتادة بين الإلهام والتعبير، ويرى فيها ذات المشكلة التي تتجلى في نواح أخرى من الفلسفة كما في مسألة الباطن والظاهر ومسألة العقل والمادة ومسألة الروح والجسم ومسألة الإرادة والفعل.
ومشكلة الإلهام والتعبير - منظورا إليها على هذا الوضع - هي عند كروتشه مشكلة لا تقبل الحل؛ لأن التفرقة المبدئية بين باطن وظاهر أو عقل ومادة أو إلهام وتعبير من شأنها أن تحول دون النفاذ من نطاق إحدى الفكرتين إلى نطاق الأخرى، ذلك أن ما نسميه (الروح) - مثلا - لا يمكن أن نتصوره إلا حالا في جسم، وما نسميه الإرادة لا نعرفه إلا متمثلا في أفعال - وهكذا؛ فإن الثنائية لا تؤدي عند فيلسوفنا إلا إلى أحد أمرين: فإما القول بعدم الإدراك، وإما نفي المعرفة أو اللا إرادية.
وإذا كانت المشكلة على هذا الوضع غير قابلة للحل فلا يشك كروتشه في أن وضعها ذلك الوضع خطأ ينبغي تصحيحه؛ وتصحيحه هو في القول بوحدة الإلهام والتعبير. فالإلهام لا يمكن أن نعرفه إلا إذا ظهر في صورة تعبيرية، فهو والتعبير إذن شيء واحد، ولا إلهام إذن من غير تعبير. وهنا يسخر كروتشه ممن يدعي أن لديه أفكارا لا يستطيع أن يعبر عنها، أو أن في ذهنه لوحة لا يستطيع أن يرسمها، وينكر على هذا وذاك وجود ما يزعمانه من إلهام.
يبني كروتشه مبدأ وحدة الإلهام والتعبير على نفي الثنائية.
وليست المسافة بين نفي الثنائية وبين القول بوحدة الوجود بالمسافة الكبيرة عند كروتشه، فهو يرى أن فلسفة الجمال تساهم بمبدأ وحدة الإلهام والتعبير في بناء المبدأ الأكبر مبدأ وحدة الوجود. وعنده أن إبداع قصيدة من الشعر ينطوي على اللغز الأعظم الذي ينطوي عليه إبداع هذا الكون الكبير.
وبعد، فهذه لمحات من آراء بنديتو كروتشه في فلسفة الجمال، لا نزعم لها أنها أحاطت بهذا الجانب من فلسفته كما ينبغي أن تكون الإحاطة، ولكن إذا تيسر لهذه اللمحات أن تلفت القارئ العربي إلى هذا المفكر العظيم الذي لم ينل في بلادنا قسطه العادل من ذيوع الصيت فذلك حسبها وكفى.
الإسكندرية
جمال مرسي بدر