مجلة الرسالة/العدد 122/ مدينة الزهراء

مجلة الرسالة/العدد 122/ مدينة الزهراء

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1935


1 - مدينة الزهراء

وحياتها الملوكية القصيرة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

قرأنا منذ حين في بعض الأنباء الخارجية أن بعض الهيئات الأثرية في إسبانيا تعنى بالبحث لاكتشاف معالم مدينة الزهراء الأندلسية، وأنها قد وفقت بالفعل إلى اكتشاف بعض أسس قديمة في ضاحية قرطبة يظن أنها من أسس قصر الزهراء؛ وجدير بمثل هذا النبأ أن يثير شجناً في نفس أولئك الذين يستعرضون تاريخ الأندلس، وتاريخ قاعدتها الملوكية الشهيرة التي غاضت من صفحة الوجود حتى لم يبق من أطلالها اليوم ما يدل على مواقعها ومعالمها.

كانت الزهراء من أعظم القواعد الملوكية التي عرفها التاريخ، ولكنها لم تعمر طويلاً ولم تقم في تاريخ الأندلس بدور ذي شأن، ولم ينزلها سوى مؤسسها الناصر وولده الحكم وابنه المؤيد، ولم تعمر كقاعدة ملوكية أكثر من نصف قرن؛ ومن غرائب القدر أنه في الوقت الذي أكملت فيه الزهراء في عهد الحكم المستنصر، وضعت أسس قاعدة ملوكية إسلامية جديدة قدر لها أن تؤدي في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة الإسلامية أعظم دور؛ تلك هي القاهرة المعزية التي أخذت تتفتح عظمتها وبهاؤها في نفس الوقت الذي ذوت فيه عظمة الزهراء وعصفت بها حوادث الدهر؛ ولم تكن الزهراء أول قاعدة ملوكية في الأندلس، ولم تكن القاهرة أول قاعدة ملوكية إسلامية في الشرق أو في مصر، فمن قبل أنشأ هشام بن عبد الملك رصافة الشام لتكون منزلاً ملوكياً لبني أمية، وأنشأ المعتصم سامراء لتكون منزلاً له ولعقبه من بني العباس، وأنشأ ابن طولون مدينة القطائع بمصر لتكون له ولعقبه قاعدة ملوكية إلى جانب الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية؛ وفي الأندلس أنشأ عبد الرحمن بن معاوية مؤسس ملك بني أمية بالأندلس ضاحية ملوكية في قرطبة سماها الرصافة تشبهاً برصافة جده هشام؛ وسطعت كل من هذه القواعد الملوكية الإسلامية حيناً من الدهر، ولكنها اختفت جميعاً من صفحة الوجود، إلا القاهرة فإنها استحالت إلى عاصمة الإسلام في مصر، وما زالت تقطع الأحقاب قوية راسخة، تحمل حتى اليوم عمرها الألفي أعظم ما تكون الحواضر العظيمة والمدن الغراء ضخامة وفخامة وبهاء.

كان عصر عبد الرحمن الناصر أعظم عصور الإسلام في الأندلس، وكانت قرطبة عاصمة الأندلس، قد بلغت يومئذ أوج العظمة والإزدهار، وأضحت تفوق بغداد، منافستها في المشرق، بهاء وفخامة، ولكن قرطبة كانت بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر من استكمال الفخامة الملوكية والقصور والرياض الشاسعة؛ بل كانت تضيق بهذه الأبنية الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلاً ومتنزهاً ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة؛ فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية رائعة، فأنشأ مدينة الزهراء؛ ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين فأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته (الزهراء)؛ وأنه ورث من إحدى جواريه مالاً كثيرا فأمر أن يخصص لافتداء الأسارى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسارى من يفتدى، فأوحت إليه (الزهراء) بأن ينشئ بهذا المال مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها. بيد أنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك والترفع بمظاهره وخصائصه عن المظاهر العامة لعاصمة مكتظة زاخرة.

والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على مر العصور مظهر الملك الباذخ والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى:

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان

إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان

وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة على قيد أربعة أميال أو خمسة منها في سفح جبل يسمى جبل العروس؛ وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة 936م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية، وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من المريه وريه، ومن قرطاجنة أفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية؛ وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل ومن الدواب ألف وخمسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ستة آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر أعني مدى خمسة وعشرين وعاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد الحكم وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة؛ وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلاً سمي بقصر الخلافة صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة؛ وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس، بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير الذي أهدي إليه من قيصر قسطنطينية، وأقام عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر المرصع بالجوهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من فيها إلى الحوض. وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة المسحورة عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والأناقة والبهاء.

وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيما تم بناؤه في ثمانية وأربعين يوماً، وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال والصناع والفنانين، وزود بعمد وقباب فخمة ومنبر رائع الصنع والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال، وأنشئت بها مجالات فسيحة للوحوش متباعدة الساح ومسارح للطير مظللة بالشباك، ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي؛ والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة تجمع بين فخامة الملك الباذخ وصولة السلطان المؤثل، وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية.

وفي إقامة هذه المنشآت الباذخة وبذل هذه النفقات الطائلة ما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي بلغته الدولة الأموية بالأندلس من القوة والضخامة والغنى؛ وقد انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت لعهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف (أعني خمسة آلاف مليون) وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار؛ هذا عدا أخماس الغنائم العظيمة التي لا تحصى؛ وقيل لنا إن الناصر خلف وقت وفاته في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف (خمسة آلاف مليون) دينار؛ وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة أثلاث، ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة، وثلث يدخر للطوارئ، ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول هذه الأرقام حتى أن دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب ويقول لنا ابن حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة والزهراء في ذلك العصر إن الناصر وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة هم أغلى ملوك العالم في ذلك العصر؛ وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة الأموية وطائل غناها وبذخها في عصر الناصر، وتفسر لنا كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته الكثيرة أن يضطلع بأعباء هذه المنشآت العظيمة الباهرة.

واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر أعني حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة؛ واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر؛ واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة. ولكنها غدت منزل الملك والخلافة، مذ تم بناء القصر والمسجد؛ وقد كان ذلك فيما يظهر في سنة تسع وعشرين وثلثمائة ففي شعبان من هذا العام تم بناء المسجد، وأقيمت به أول جمعة رسمية؛ وكان الناصر قبل ذلك بنحو عامين قد اتخذ سمة الخلافة وتسمى بألقابها (سنة 327هـ)، فكانت الزهراء بذلك أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس.

للبحث بقية (النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان