مجلة الرسالة/العدد 132/المشكلة (2)

مجلة الرسالة/العدد 132/ (المشكلة)

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1936


2 - المشكلة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

لما فرغت من مقالات (المجنون) وأرسلت الأخيرة منها، قلت في نفسي هذا الآخر هو الأخر من المجنون وجنونه، ومن الفكر في تخليطه ونوادره؛ غير أنه عاد إلى أخلاطا وأضغاثا فكأني رأيته في النوم يقول لي: اكتب مقالا في السياسة. قلت: مالي وللسياسة، وأنا (موظف) في الحكومة، وقد أخذت الحكومة ميثاق الموظفين لما عرفوا من نقد أو غميزة ليكتمنَّه ولا يبيِّنونه. فقال: هذه ليست مشكلة، وليس هذا يصلح عذرا، والمخرج سهل والتدبير يسير والحل ممكن. قلت: فما هو؟

قال: اكتب ما شئت في سياسة الحكومة، ثم اجعل توقيعك في آخر المقال هكذا: (مصطفى صادق الرافعي؛ غير موظف بالحكومة). . .

فهذه طريقة من طرق المجانين في حل المشاكل المعقدة، لا يكون الحل إلا عقدة جديدة يتم بها اليأس ويتعذر الامكان، وهي بعينها طريقة ذلك الطائر الأبله الذي يرى الصائد فيغمض عينه ويلوى عنقه ويخبأ رأسه في جناحه ظنا عند نفسه أنه إذا لم ير الصائد لم يره الصائد، وإذا توهم أنه اختفى تحقق أنه اختفى؛ وما عمله ذاك إلا كقوله للصياد: إني غير موجود هنا. . . على قياس (غير موظف).

وقد كنت استفتيت القراء في (المشكلة) وكيف يتقي صاحبها على نفسه وكيف تصنع صاحبتها؛ فتلقيت كتباً كثيرة أهدت إلى عقولاً مختلفة؛ وكان من عجائب المقادير أن أول كتاب ألقي إلى منها - كتاب (نابغة) كنابغة القرن العشرين، بعث به من القاهرة، وسمي نفسه في (المصلح المنتظر)؛ وهذه عبارته بحرفها ورسمها كما كتبت وكما تقرأ؛ فان نشر هذا النص كما هو، يكون أيضا نصاً على ذلك العقل كيف هو. . .

قال: (إن هذا الكون تعبت فيه آراء المصلحين، وكتب الأنبياء زهاء قرون عديدة، ودائما نرى الطبيعة تنتصر. ولقد نرى الحيوان يعلم كيف يعيش بجوار أليفه، والطير كيف يركن إلى عش حبيبته، إلا الإنسان. ولقد تفنن المشرعون في أسماء العادات والتقاليد والحمية والشرف والعرض، وإن جميع هذه الأشياء تزول أمام سلطان المادة فما بالكم بسلطان الروح؟ ورأيي لهذا الشاب ألا يطيع أباه ولو ذهب إلى ما يسموه الجحيم (كذا) إذا كان بعد أن يعيش الحياة الواحدة التي يحياها ويتمتع بالحب الواحد المقدر له، ما دام قلبه اصطفاها وروحه تهواها؛ ولو تركته بعد سنين قليلة لأي داع من دواع الانفصال. (كذا)

وهذا ليس مجرد رأي مجرب، وإنما هو رأي أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن، وسينتصر على جميع من يقفون أمامه، والدليل أن هذا المقال سيشار إليه في مجلة (الرسالة)، وهذا الرأي سيعمل به، وصاحب هذا الرأي سيخلد في الدنيا، وسيضع الأسس والقوانين التي تصلح لبني الإنسان مع سمو الروح بعد أن أفسدت أخلاقه عبادة المال.

إن الإنسان يحيا حياة واحدة فليجعلها بأحسن ما تكون، وليمتع روحه بما تمتع به جميع المخلوقات سواه. وإلى الملتقى في ميدان الجهاد)

(المصلح المنتظر)

انتهى

وهذا الكتاب يحل (المشكلة) على طريقة غير (موظف). . . فليعتقد العاشق أنه غير متزوج فإذا هو غير متزوج، وإذا هو يتقلب فيما شاء؛ وتسأل الكاتب ثم ماذا؟ فيقول لك: ثم الجحيم. . .

وإنما أوردنا الكتاب بطوله وعرضه لأننا قرأناه على وجهين، فقد نبهتنا عبارة (أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن) إلى أن في الكلام إشارة من قوة خفية في الغيب، فقرأناه على وحي هذه الإشارة وهديها فإذا ترجمة لغة الغيب فيه: (ويحك يا صاحب المشكلة، إذا أردت أن تكون مجنونا أو كافرا بالله وبالآخرة فهذا هو الرأي. كن حيوانا تنتصر فيه الطبيعة والسلام.

تلك إحدى عجائب المقادير في أول كتاب ألقي إلي؛ أما العجيبة الثانية فان آخر كتاب تلقيته كان من صاحبة المشكلة نفسها. وهو كتاب آية في الظرف وجمال التعبير وإشراق النفس في أسرارها يَمُور موْر الضباب الرقيق من ورائه الأشعة، فهو يحجب جمالاً ليظهر منه جمالاً آخر؛ وكأنه يعرض بذلك رأيا للنظر ورأيا للتصور، ويأتي بكلام يقرأ بالعين قراءة وبالفكر قراءة غيرها. ولفظها سهل سهل، قريب قريب، حتى كأن وجهها هو يحدثك لا لفظها، ومادة معانيها من قلبها لا من فكرها، وهو قلب سليم مقفل على خواطره وأحزانه مسترسل إلى الإيمان بما كتب عليه استرساله إلى الإيمان بما كتب له، فما به غرور ولا كبرياء ولا حقد ولا غضب ولا يكثره ما هو فيه.

ومن نكد الدنيا أن مثل هذا القلب لا يخلق بفضائله إلا ليعاقب على فضائله؛ فغلظة الناس عقاب لرقته، وغدرهم نكاية لوفائه، وتهورهم رد على أناته، وحمقهم تكدير لسكونه، وكذبهم تكذيب للصدق فيه.

وما أرى هذا القلب مأخوذاً بحب ذلك الشاب ولا مستهماً به لذاته، وإنما هو يتعلق صوراً عقلية جميلة كان من عجائب الاتفاق أن عرضت له في هذا الشاب أول ما عرضت على مقدار ما؛ وسيكون من عجائب الاتفاق أيضاً أن يزول هذا الحب زوال الواحد إذا وجدت العشرة، وزوال العشرة إذا وجدت المائة، وزوال المائة إذا وجد الألف.

وبعد هذا كله فصاحبة المشكلة في كتابها كأنما تكتب في نقد الحكومة على طريقة جعل التوقيع: (فلان غير موظف بالحكومة). . . وهي فيما كتبت كالنهر الذي ينحدر بين شاطئيه مدعياً أنه هارب من الشاطئين مع أنه بينهما يجري. تحب صاحبها وتلقاه؛ ثم هي عند نفسها غير جانية عليه ولا على زوجته. . . فليت شعري عنها ما عسى أن تكون الجناية بعد زواج الرجل غير هذا الحب وهذا اللقاء؟

ونحن معها كأرسطاطاليس مع صديقه الظالم حين قال له: هبنا نقدر على محاباتك في ألا نقول إنك ظالم؛ هل تقدر أنت على ألا تعلم أنك ظالم؟

ورأيها في (المشكلة) أن ليس من أحد يستطيع حلها إلا صاحبها، ثم هو لا يستطيع ذلك إلا بطريقة من طريقتين: فإما أن تكون ضحية أبيها وأبيه (تعني زوجته) ضحيته هو أيضاً ويستهدف لما يناله من أهله وأهلها فيكون البلاء عن يمينه وشماله ويكابد من نفسه ومنهم ما إن أقله ليذهب براحته وينغص عليه الحب والعيش، (قالت): وإما أن يضحي بقلبه وعقله وبي. . .

وهذا كلام كأنها تقول فيه: إن أحداً لا يستطيع حل هذه المشكلة إلا صاحبها، وأن صاحبها غير مستطيع حلها إلا بجناية يذهب فيها نعيمه، أو بجنون يذهب فيه عقله. فان حلها ذلك فهو أحد اثنين: إما أحمق أو مجنون ما منهما بد. . . ولسان الغيب ناطق في كلامها بأن أحسن حل للمشكلة أن تبقى بلا حل، فان بعض الشر أهون من بعض.

والعجيبة الثالثة أن (نابغة القرن العشرين) جاء زائراً بعد أن قرأ مقالات (المجنون) فرأى بين يدي هذه الكتب التي تلقيتها وأنا أعرضها وأنظر فيها لأتخير منها، فسأل فخبرته الخبر؛ فقال: إن صاحب هذه المشكلة مجنون لو امتحنوه في الجغرافية وقالوا له ما هي أشهر صناعة في باريس لأجابهم: أشهر ما تعرف به باريس أنها تصنع (البودرة) لوجه حبيبتي. . .

قلت: فكيف يرتد هذا المجنون عاقلاً؟ وما علاجه عندك قال: وجه في طلب أ. ش ليجيء، فلما جاء قال له اكتب: جلس (نابغة القرن العشرين) مجلسه للإفتاء في حل المشكلة فأفتى مرتجلاً:

إن منطق الأشياء وعقلية الأشياء صريحان في أن مشكلة الحب التي يعسر حلها ويتعذر مجاز العقل فيها، ليست هي مشكلة هذا العاشق أكرهوه على الزواج بامرأة يحملها القلب أولا يحملها، وإنما تلك هي مشكلة إمبراطور الحبشة يريدون إرغامه أن يتزوج إيطاليا، ويذهبون يزفونها إليه بالدبابات والرشاشات والغازات السامة.

ولو لم يكن رأس هذا العاشق المجنون فارغاً من العقل الذي يعمل عمل العقل، إذن لكانت مجاري عقله مطرودة في رأسه فانحلت مشكلته بأسباب تأتي من ذات نفسها أو ذات نفسه، غير إن في رأسه عقل بطنه لا عقل الرأس، كذلك الشره البخيل الذي طبخ قدراً وقعد هو وامرأته يأكلان. فقال ما أطيب هذه القدر لولا الزحام. . . قالت امرأته: أي زحام ههنا؟ إنما أنا وأنت. قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر فقط. . .

فعقل النهم في رأس هذا كعقل الشهوة في رأس ذلك؛ كلاهما فاسد التقدير لا يعمل أعمال العقول السليمة؛ ويريد أحدهما أن تبطل الزوجة من أجل رطل من اللحم، ويريد الآخر مثل ذلك في رطل من الحب. . .

وإذا فسد العقل هذا الفساد ابتلى صاحبه بالمشاكل الصبيانية المضحكة لا تكون في شيء كبير، ولا يكون منها شيء كبير؛ وهي عند صاحبها لو وزنت كانت قناطير من التعقيد؛ ولو كيلت بلغت أرادب من الحيرة؛ ولو قيست امتدت إلى فراسخ من الغموض.

هاتان المرأتان: (الحبيبة والزوجة)، إما أن تكونا جميعاً امرأتين فالمعنى واحد فلا مشكلة؛ وإما ألا تكونا امرأتين فالمعنى كذلك واحد فلا مشكلة؛ وإما أن تكون إحداهما امرأة والأخرى قردة أو هِرْدة وههنا المشكلة. (حاشية: الهردة من أوضاع نابغة القرن العشرين في اللغة ومعناها الأنثى ليست من إناث الأناسي ولا البهائم. . .)

فان زعم العاشق أن زوجته قردة فهو كاذب، وإن زعم أنها الهردة فهو أكذب. والمشكلة هنا مشكلة كل المجانين، ففي مخه موضع أفرط عليه الشعور فأفسده، وأوقع بفساده الخطأ في الرأي، وابتلاه من هذا الخطأ بالعمى عن الحقيقة، وجعل زوجته المسكينة هي معرض هذا العمى وهذا الخطأ وهذا الفساد؛ ولا عيب فيها، لأنها من زوجها كالحقيقة التي يتخبط فيها المجنون مدة جنونه فتكون مجلي هذيانه ومعرض حماقاته، وهي الحقيقة غير أنه هو المجنون.

فان كانت هذه الحقيقة مسألةً حسابية استمر المجنون مدة جنونه يقول للناس: خمسون وخمسون ثلاثة عشر، ولا يصدق أبدا أنها مائة كاملة؛ وإن كانت مسألةً علمية قضى المجنون أيامه يشعل التراب ليجعله باروداً ينفجر ويتفرقع، ولا يدخل في عقله أبداً أن هذا تراب منطفئ بالطبيعة؛ وإن كانت مسألةً قلبية استمر المجنون يزعم أن زوجته قردة أو هردة ولا يشعر أبداً أنها امرأة.

فان صح هذا الرجل مجنون فعلاجه أن يربط في المارستان ثم يجيء أهله كل يوم بزوجته فيسألونه: أهذه امرأة أم قردة أم هردة؟ ثم لا يزالون ولا يزال حتى يراها امرأة ويعرفها امرأته فيقال له حينئذ: إن كنت رجلاً فتخلق بأخلاق الرجال.

أما إن كان الرجل عاقلاً مميزاً صحيح التفكير ولكنه مريض مرض الحب، فلا يرى (النابغة) أشفى لدائه ولا أنجع فيه من أن يستطب بهذه الأشفية واحدا بعد واحد حتى يذهب سقامه بواحد منها أو بها كلها:

الدواء الأول: أن يجمع فكره قبل نومه فيحصره في زوجته ثم لا يزال يقول زوجتي، زوجتي، حتى ينام. فان لم يذهب ما به في أيام قليلة فالدواء الثاني.

الدواء الثاني: أن يتجرع شربة من زيت الخروع كل أسبوع. . . ويتوهم كل مرة أنه يتجرعها من يد حبيبته، فان لم يشفه هذا فالدواء الثالث.

الدواء الثالث: أن يذهب فيبيت ليلة في المقابر، ثم ينظر نظره في أي المرأتين يريد أن يلقى الله بها وبرضاها عنه وبثوابه فيها؛ وأيتهما هي موضع ذلك عند الله تعالى، فان لم يبصر رشده بعد هذا فالدواء الرابع.

الدواء الرابع: أن يخرج في (مظاهرة). . . فإذا فقئت له عين أو كسرت له يد أو رجل ثم لم تحل حبيبته المشكلة بنفسها. . . فالدواء الخامس.

الدواء الخامس: أن يصنع صنيع المبتلى بالحشيش والكوكايين، فيذهب فيسلم نفسه إلى السجن ليأخذوا على يده فينسى هذا الترف العقلي، ثم ليعرف من أعمال السجن جد الحياة وهزلها، فإن لم ينزع عن جهله بعد ذلك فالدواء السادس.

الدواء السادس: أنه كلما تحرك دمه وشاعت فيه حرارة الحب، لا يذهب إلى من يحبها ولا يتوخى ناحيتها، بل يذهب من فوره إلى حجَّام يحجمه. . . ليطفئ عنه الدم بإخراج الدم؛ وهذه هي الطريقة التي يصلح بها مجانين العشاق، ولو تبدلوا بها من الانتحار لعاشوا هم وانتحر الحب.

قال (نابغة القرن العشرين): فان بطلت هذه الأشفية الستة وبقى الرجل جموحاً لا يرد عن هواه فلم يبق إلا الدواء السابع.

الدواء السابع: أن يضرب صاحبه المشكلة خمسين قناة يصك بها واقعة منه حيث تقع من رأسه وصدره وظهره وأطرافه، حتى يتهشم عظمه، وينقصف صلبه، وينشدخ رأسه ويتفرى جلده؛ ثم تطلى جراحه وكسوره بالأطلية والمراهم وتوضع له الأضمدة والعصائب، ويترك حتى يبرأ على ذلك أعرج متخلعاً مبعثر الخلق مكسور الأعلى والأسفل، فان في ذلك شفاءه التام من داء الحب إن شاء الله.

قلنا: فان لم يشفه ذلك ولم يصرف عنه غائلة الحب؟

قال: إن لم يشفه ذلك فالدواء الثامن.

الدواء الثامن: أن يعاد علاجه بالدواء السابع. . . . . .

(لها بقية)

مصطفى صادق الرافعي