مجلة الرسالة/العدد 136/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 136/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936


(محمد)

كتاب توفيق الحكيم

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

عملُ الأستاذ توفيق الحكيم في تصنيف هذا الكتاب أشبهُ شيء بعمل (كريستوف كولمب) في الكشف عن أمريكا وإظهارها من الدنيا للدنيا؛ ولم يخلق وجودها ولكنه أوجدها في التاريخ البشري، وذهب إليها فقيل جاء بها إلى العالم، وكانت معجزته أنه رآها بالعين التي في عقله، ثم وضع بينه وبينها الصبرَ والمعاناةَ والحذق والعلم حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة.

قرأ الأستاذ كتب السيرة وما تناولها من كتب التاريخ والطبقات والحديث والشمائل، بقريحة غير قريحة المؤرخ، وفكرة غير فكرة الفقيه، وطريقة غير طريقة المحدَّث، وخيال غير خيال القاصَّ، وعقل غير عقل الزندقة، وطبيعة غير طبيعة الرأي، وقصد غير قصد الجدَل؛ فخلص له الفن الجميل الذي فيها إذ قرأها بقريحته الفنية المشبوبة، وأمرَّها على إحساسه الشاعر المتوثب، واستلَّها من التاريخ بهذه القريحة وهذا الإحساس كما هي في طبيعتها السامية متجهةً إلى غرضها الإلهي محققةً عجائبها الروحانية المعجزة.

وقد أمدته السيرة بكل ما أراد، وتطاوعت له على ما اشتهى، ولانت في يده كما يلين الذهب في يد صائغه؛ فجاء بها من جوهرها وطبيعتها ليس له فيها خيال ولا رأي ولا تعبير، وجاءت مع ذلك في تصنيفه حافلة بأبدع الخيال، وأسمى الرأي، وأبلغ العبارة؛ إذ أدرك بنظرته الفنية تلك الأحوال النفسية البليغة، فنظمها على قانونها في الحياة، وجمع حوادثها المدوَّنة فصورَّها في هيئة وقوعها كما وقعت، واستخرج القصص المرسَلَة فأدارها حواراً كما جاءت في ألسنة أهلها؛ وبهذه الطريقة أعاد التاريخ حياً يتكلم وفيه الفكرة وملائكتُها وشياطينُها، وكشف ذلك الجمال الروحاني فكان هو الفن، وجلا تلك النفوس العالية فكانت هي الفلسفة، وأبقى على تلك البلاغة فكانت هي البيان. كانت السيرة كاللؤلؤة في الصدفة، فاستخرجها فجعلها اللؤلؤة وحدها.

إن هذا الكتاب يفرض نفسه بهذه الطريقة الفينة البديعة، فليس يمكن أن يقال أنه لا ضرورة لوجوده، إذ هو الضروريَّ من السيرة في زمننا هذا، ولا يُغْتَمَزُ فيه أنه تخريف وتزوير وتلفيق، إذ ليس فيه حرف من ذلك؛ ولا يردُّ بأنه آراء يخطئ المخطئ منها ويصيب المصيب، إذ هو على نص التاريخ كما حفظته الأسانيد؛ ولا يُرمى بالغثاثة والركاكة وضعف النسق، إذ هو فصاحة العرب الفصحاء الخُلَّص كما رُويت بألفاظها؛ فقد حصنه المؤلف تحصيناً لا يُقتحم، وكان في عمله مخلصاً أتم الاخلاص، أميناً بأوفى الأمانة، دقيقاً كل الدقة، حَذِرا بغاية الحذر.

ومن فوائد هذه الطريقة أنها هيأت السيرة للترجمة إلى اللغات الأخرى في شكل من أحسن أشكالها يرغم هذا الزمن على أن يقرأ بالإعجاب تلك الحكاية المنفردة في التاريخ الإنساني؛ كما أنها قرَّبت وسهلت فجعلت السيرة في نصها العربي كتاباً مدرسياً بليغاً بلاغة القلب واللسان، مربياً للروح، مرهفاً للذوق، مصححاً للملكة البيانية.

وحسبُ المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي: إن ابن هشام كان أول من هذَّب السيرة تهذيباً تاريخياً على نظم التاريخ، وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيباً فنياً على نسق الفن.

مصطفى صادق الرافعي