مجلة الرسالة/العدد 175/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 175/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



موسى بن ميمون

حياته ومصنفاته

تأليف الدكتور إسرائيل ولفنسون

بقلم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور

هنالك كتب تقرأ لموضوعها وأخرى لأصحابها! وكأن منظمي المكتبات العامة أدركوا هذا المعنى تماماً فأعدوا طائفتين متميزتين من الفهارس: إحداهما للمادة والأخرى للمؤلفين؛ والكتاب الذي نحن بصدده يجذب القراء بموضوعه وبما يبذله مؤلفه من وسائل في سبيل نشره. فهو يدرس أولاً أعظم شخصية بين مفكري اليهود في القرون الوسطى، ومن ذا الذي لا يرغب في أن يعرف شيئاً عن ابن ميمون بعد ذلك الحفل العظيم الذي أقيم في العام الماضي تخليداً لذكراه المئوية الثامنة؟ وأعتقد أن هذا الحفل نجح نجاحاً كبيراً؛ فقد وجه الباحثين إلى دراسته وتعريف الناس به، وأضحت شخصيته بعده شعبية إلى حد ما، ولو لم يكن من آثاره إلا كتاب اليوم لكفى. وعلنا نحتذي هذه السنة الصالحة ونخلد ذكرى فلاسفة الشرق وعلمائه الآخرين كي نبعثهم من مرقدهم وننشر تراثهم ونلفت الأنظار إليهم ونحلهم في المحل اللائق بهم. وفوق هذا ففي الدكتور ولفنسون نشاط يغبط عليه؛ وليس نشاطه في التحدث عن كتبه بأقل من نشاطه في جمعها وتأليفها، ولا تكاد تلقاه إلا ويحدثك عن أبحاثه الماضية ومؤلفاته الحاضرة ومشروعاته المستقبلية؛ وإذا ما ظهر له في عالم التأليف كتاب خيل إليك أنك تلمح باستمرار على وجهه السؤال الآتي: هل قرأت كتابي؟ ولسنا ندري ماذا كان يصنع لو قدر له أن يشتغل بالأعمال المالية والشؤون الاقتصادية! يغلب على ظننا أنه ما كان يباري في هذا المضمار!

ولسنا في حاجة لأن نؤكد للدكتور ولفنسون أنا قرأنا كتابه الأخير؛ فهو يعلم أنّا عنينا به وهو لا يزال في مهده، وقمنا بعض الشيء على تنشئته وتكوينه، وقد ناقشناه غير مرة في طريقته وأسلوبه وموضوعه ومصادره؛ وها نحن أولاء مسرورون بظهوره في ثوبه الحاضر سروراً مزدوجاً، فيسرنا منه ما فيه من أبحاث قيمة أضافت إلى اللغة العربية ثروة طائلة، ونغتبط بأن نرى فيه زهرة يانعة شهدنا من قبل ساعة تفتحها وتابعنا أدوار نموها وكمالها. وإذا كنا قد أسررنا بالأمس إلى الدكتور ولفنسون بما لاحظنا على مخطوطته، فنحن اليوم في حل من أن نعلن إلى قرائه ما خلفه كتابه في نفسنا من أثر؛ والأبحاث العقلية وقف على أصحابها ما لم ينشروها؛ فان نشرت أصبحت ملكاً للإنسانية جمعاء.

يشتمل كتاب موسى بن ميمون على تصدير، وأربعة أبواب وفهرس بأسماء المصادر العربية والعبرية والإفرنجية. ففي التصدير يبين المؤلف الأسباب التي دفعته إلى وضع كتابه، والطريق الذي سلكه، والصعوبات التي صادفته، ويلخص النتائج التي انتهى إليها؛ وفي الباب الأول يدرس حياة ابن ميمون ويأتي على الظروف المختلفة التي أثرت في نشأته وتكوين آرائه، ويعرض في إسهاب لمشكلة إسلامه مدلياً فيها بأقوال المؤرخين السابقين ومناقشاً لها مناقشة طويلة. وهذا الباب حافل بالمعلومات يدل على اطلاع واسع بحث مستفيض، إلا أنه لم يرتب ترتيباً كافياً. وقد عنى فيه بجمع الحقائق وسردها أكثر مما عنى بطريقة عرضها وربط بعضها ببعض. وكنا نود أن يرجع المؤلف العوامل التي أثرت في حياة ابن ميمون إلى نقط رئيسية يأتي عليها الواحدة بعد الأخرى. نحن لا ننكر أن ملخصه الجامع الذي صدر به كل باب من أبوابه حدد بحثه بعض الشيء؛ ولكن كنا نفضل أن يقسم هذه الأبواب إلى فقرات يعنون لكل واحدة منها بعنوان خاص، كما صنع في مشكلة إسلام ابن ميمون مثلاً وهذه الفقرات في جملتها لا تخرج عن الملخصات الآنفة الذكر. وقد وقف المؤلف على إسلام أسرة ابن ميمون 14 صفحة كاملة؛ وهذا الموضوع هام حقاً وجدير بهذه العناية. غير أنا لا نكاد نجد فيه جديداً؛ ذلك لأن المؤلف شغل بجمع ونقل آراء الباحثين السابقين دون أن يرجح واحداً منها على آخر ترجيحاً واضحاً. والواقع أن هذه المسألة درست من قبل دراسة موسعة، فلم ير صاحب كتاب موسى بن ميمون بداً من أن ينقل آراء من سبقوه ويعول عليها التعويل كله حتى في مناقشة النصوص التي عرض لها. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه قد يسهب أحياناً في سرد هذه النصوص وينقل منها ما يجاوز بحثه ويناقشها مناقشة سطحية. ونعتقد أنه كان في مقدوره، وهو ذو خبرة لغوية واسعة أن يشرح النصوص العربية شرحاً أضبط، ويستكمل ما فات المستشرقين السابقين.

وفي الباب الثاني الذي هو أصغر أبواب الكتاب درست مؤلفات ابن ميمون الدينية. وهذا الباب واضح في جملته ومحتو على ملاحظات ونقد لا بأس به، وما اتصل فيه بتثنية التوراة والتلمود جيد للغاية. ولا غرو فالمؤلف حين يدرس الفقه والتشريع الإسرائيلي إنما يتكلم عن خبرة تامة ومعرفة حق؛ فهنا يبدو بجلاء اختصاصه وتمكنه من مادته. هذا إلى أنه أحسن اختيار ما قدمه؛ فلم يشغل القارئ العربي بتفاصيل جزئية عن الديانة اليهودية قد لا تعنيه كثيراً معرفتها.

والآن ننتقل إلى الباب الثالث الذي هو عمدة الكتاب وأكبر أبوابه، وقد عنون له المؤلف كالآتي: - (فلسفة موسى بن ميمون ومصنفه دلالة الحائرين). ويخيل إلينا أنه كان الأولى أن يكون عنوانه كما يلي: (دلالة الحائرين وما يحوي من آراء فلسفية ودينية). فان المؤلف لم يشرح في هذا الباب فلسفة ابن ميمون شرحاً نظرياً وتاريخياً منظماً؛ وإنما جعل كل همه أن يلخص كتاب دلالة الحائرين وينقل أهم ما جاء فيه من آراء وأفكار، ويعطي فكرة عامة عن تاريخ تأليفه والأدوار التي مر بها منذ ابن ميمون إلى اليوم، ويبين أثره في العالم الغربي والشرقي. ولئن فاته أن يدرس فلسفه ابن ميمون الدرس اللائق بها لقد وفق توفيقاً كبيراً في تلخيص كتابه دلالة الحائرين، ونستطيع أن نقرر أن هذا الملخص الذي يقع في نحو خمسين صفحة قد يغني عن قراءة أجزاء دلالة الحائرين الثلاثة. ولم يلخص المؤلف هذا الكتاب بالمعنى، بل ترك ابن ميمون يعبر في أغلب الأحايين عن آرائه بنفسه. وفي هذا ما يسمح للقارئ أن يتصل اتصالاً مباشراً بالفيلسوف المترجم له. ويجدر بنا أن نلاحظ أنا في حاجة ماسة إلى طبع دلالة الحائرين بحروف عربية. ففي انتظار هذه الطبعة المنشودة قدم لنا الدكتور ولفنسون فصولا ممتعة من كتاب عربي هام كتب بالعربية دون أن يعرفه كثير من أبنائها. وكل ما يؤخذ على هذا الملخص نقص في الترتيب وربط المسائل بعضها ببعض أحياناً، أو قصور في عرض بعض النقط أحياناً أخرى. ففي صفحة 58 يحكم المؤلف مثلا على المترجمات العربية حكماً غير مبني على أساس صحيح، ويشير إشارة ناقصة إلى أثر الفلسفة الإسلامية في الفلسفة اليهودية. وكنا نتوقع أن يعير هذه المسألة ما تستحق من أهمية، ولا سيما وهو يدرس شخصية يبدو فيها الأثر الإسلامي بشكل واضح. والتاريخ والواقع يشهدان بأن الفلسفة اليهودية في جملتها ليست إلا امتداداً للفلسفة الإسلامية. وفي صفحة 121 يتكلم عن أسلوب ابن ميمون؛ وفي رأينا أنه كان ينبغي أن يقدم هذه النقطة ويبدأ بها قبل الدخول في تفاصيل كتاب دلالة الحائرين؛ على أن المؤلف فاته أن يشير إلى جلاء ابن ميمون، ووضوح لغته، وعنايته بتوصيل المعنى إلى القارئ، وطريقته المنطقية البرهانية في المناقشة والتعليل.

وفي الباب الرابع والأخير يدرس المؤلف كتب ابن ميمون الطبية. وهذه تكملة لا بد منها؛ فان ابن ميمون فوق تشريعه وفلسفته كان طبيباً يشار إليه بالبنان في علمه وعمله، وقد خلف كتباً طبية عديدة استفاد منها الشرق والغرب أثناء القرون الوسطى. وقد نجح المؤلف في التعريف عنها، وعرض نماذج من موضوعاتها؛ وإن كان قد فاته أن يبين في وضوح الصلة بينها وبين المؤلفات الطبية العربية الأخرى المعاصرة لها أو السابقة عليها. وعلى هذه الدراسة ألصق بكتاب طبي منها ببحث تاريخي.

وفي الفهرس نرى مجموعة طبية من المراجع القديمة والحديثة العربية والعبرية والإفرنجية التي تتصل بحياة ابن ميمون وآرائه ومؤلفاته. ويا ليت المؤلف أضاف إليها بعض الملاحظات النقدية التي تبين قيمتها العلمية وما احتوت من أبحاث مفيدة. وعلى كل فهذا الفهرس ثمرة من ثمرات اطلاعه الواسع، وأداة صالحة من أدوات البحث والدراسة. وسيجد فيه القراء والمطلعون نبراساً يستضيئون به في ظلمات القرون الوسطى، وهادياً يرشدهم إن أرادوا التوسع في بعض النقط التاريخية والفلسفية.

هذا هو كتاب موسى بن ميمون في محتوياته. وأما أسلوبه فمقبول في جملته، وإن أعوزه شيء من العناية والدقة. وأما مصادره - على الرغم من تعددها وحسن اختيارها - فلم تستخدم استخداماً كافياً. ونعتقد أنه لو كان المؤلف قد تريث أكثر في دراستها، ودقق أطول في قراءتها، لأخرج لنا عن ابن ميمون بحثاً أشمل وأوسع.

ومهما يكن من اعتراض يمكن أن يوجه إلى كتابه فأنا لا نتردد مطلقاً في أن نقرر أنه ضم إلى سلسلة أعماله المتواصلة حلقة ذهبية ناصعة. وهو من غير شك، كما قرر فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق في المقدمة التي قدم له بها (ثمرة جهد كبير في الاطلاع على مراجع مختلفة في لغات شتى) وإذا لاحظنا أنه يدرس شخصية جليلة من كبار المفكرين الذين تربوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه أكبر ما له من قيمة؛ وسيستعين به أصدقاء الفلسفة الإسلامية وطلابها على تفهم كثير من الآراء والأفكار العربية. وأملنا كبير في أن ينحفنا الدكتور ولفنسون وهو مؤرخ استكمل وسائل البحث التاريخي، بمؤلفات أخرى تكشف الغطاء عن فلسفة القرون الوسطى اليهودية.

إبراهيم مدكور