مجلة الرسالة/العدد 21/كيف نحافظ على وجودنا الاقتصادي؟

مجلة الرسالة/العدد 21/كيف نحافظ على وجودنا الاقتصادي؟

مجلة الرسالة - العدد 21
كيف نحافظ على وجودنا الاقتصادي؟
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1933



للأستاذ محمد فريد وجدي

الثروة للأمم (والثروة الاجتماعية تطلق على النقود المسكوكة وكل ما تثمره الأرض وتنتجه اليد العاملة) كالدم الذي يجري في الجسم الحي. ويوزع على كل عضو بل وكل خلية فيه ما يقيم حياتها ويجعلها صالحة لأداء وظيفتها. والطرق التي تجول فيها هذه الثروة لإعطاء كل فرد نصيبه منها تشبه بالشرايين والأوردة من الجسم الحي. وإذا كان لا حياة لجسم بدون دم، فكذلك لا حياة لأمة بدون ثروة. وإذا كانت صحة ذلك الجسم تتطلب دما كافيا حاصلا على جميع مقوماته البيولوجية. فكذلك الثروة الاجتماعية يجب أن تكون كافية لحاجات المجتمع وحاصلة على العناصر التي تتطلبها حياة الاجتماع. وإذا كانت تستتبع قلة مقدار الدم في الجسم الحي وفساد تركيبه أدواء عضالة من الأنيميا والخلوروز وما يجران إليه من العلل المترتبة عليهما، فكذلك عدم كفاية الثروة الاجتماعية تولد لهيئة المجتمع أدواء من الضعف العام ومن الاضطراب في وظائفه يصبح المجتمع معها عرضة لكل ضروب المتالف فيجمد حيث هو، أو يختل توازنه، أو يعتل وجوده، ويصبح لا يغني عن نفسه شيئا. لهذا السبب قام إزاء أطباء الأجسام في كل أدوار الأمم أطباء للاجتماع تولوا تدبير الثروة العامة بضروب شتى من الوسائل. وأطباء الاجتماع اليوم اكثر تبعات مما كانوا عليه في سالف العصور بسبب تعقد المبادلات بين الأمم، ومزاحمة الأسواق بعضها لبعض، وتشابك الصلات المالية بعضها ببعض، أصبح علم الاقتصاد من أوسع العلوم اختصاصا واشدها تركبا. وها نحن أولاء نسمع جؤار الشعوب تحت كلاكل هذه الأزمة العالمية، ونشهد جهاد الاقتصاديين في علاجها بما لم يتفق مثله للبشر في أي عهد من عهودهم، فإذا كنا لا نعتبر بكل هذا فنتوفر على درس هذه الحالة فيما يختص بنا توفرا يناسب أحوالنا الحاضرة فإننا نجني على أنفسنا جناية نحاسب عليها حسابا عسيرا، ونذوق وبال امرنا منها جزاء موفورا. وأول ما يجب أن ندرسه من مسائلنا الخاصة هو أن نعرف هل ثروتنا العامة التي تثمرها أرضنا وأيدي عمالنا تكفينا الحاجة أم لا؟ وهل هذه الثروة تتوزع على جميع أفرادنا أم لا؟ وهل يتسرب منها شيء إلى الخارج، كان يجب أن يبقى لدينا أم لا؟ هذه المسائل الثلاث يجب أن تشغل كل فرد من أفراد مجتمعنا على السواء، ولا يجوز أ تقتصر على الذين يشعرون بالحاجة المعيشية فقط، لأن الضعف والاعتلال اللذين يحيقان بمجتمعنا لا ينحصران في الطبقات المحرومة من الثروة ولكنهما يعمان الكافة، فيكون نصيب أصحاب الأموال أشد مما ينال صغار الناس منهما. أما ترى اليوم ماذا أصاب أصحاب رؤوس الأموال الطائلة من البؤس والإقلال بسبب الأزمة الحاضرة، حتى أن صاحب مئات الفدادين أصبح لا يجد ما يقوت به نفسه. وتعرضت أملاكه للبيوع الجبرية؟ ومنهم من تجرد من جميع ما كان عنده فأصبح معوزا لا يملك شروى نقير ولا يصلح لأي عمل! وما ظنك لو اشتدت وطأة هذه الأزمة أو امتد عهدها سنتين أخريين أو ثلاث سنين اخرى؟ دع مصر جانبا وانظر إلى أعلى الأمم كعبا في الثروة والمدنية، ألم تجد الأحوال فيها شرا مما نحن عليه. ألم توصد عشرات من المصارف أبوابها. ألم تسد منافذ الارتزاق في وجوه الملايين من أبنائها؟ ألم ينضب معين الثروة في خزائن حكوماتها فاضطرت لضرب الضرائب الفادحة على مموليها؟ ألم يتناول الضغط على نفقاتها مرتبات موظفيها فأسقطت نحو الثلث من مرتباتهم ولا تزال تهددهم بتخفيضات جديدة؟ هذه كلها عبر يجب أن نتأمل فيها، وأن نعمل على تلافيها. وإذا كان الأمر من الخطورة عند هذا الحد أفلا يكون أوجب الواجبات أن نحاول ألا يتسرب قرش واحد إلى خارج بلادنا إلا إذا كان في حاجة ماسة، ولضرورة قصوى؟ وهذا ما تفعله كل أمة وتتشدد فيه اليوم شعورا منها بان دولاب الأعمال مادام معطلا وحركة المبادلات بطيئة، وجب ان ينحصر مال الأمة في بلادها حتى لا ينضب معينه فيها فتصاب بأشد ضروب الإعسار ولا كرامة. وما دمنا قد شبهنا ثروة الأمة في مجموعها بدم الحياة للفرد الواحد، فقد ساغ لنا ان نشبه خروج تلك الثروة من بلادها دون أن تستعيض عنها من طريق المبادلات ما يعادلها، بداء النزيف الدموي. فالأمة التي لا تبالي في مثل هذه الأحوال بتسرب ثروتها إلى خارج ديارها، يكون مثلها كمثل فرد أصيب بالنزيف وحكم عليه فوق هذا ألا يستعيض عما يفقده بتناول المواد المعوضة. ولست أستطيع بعد هذا أن احدد تبعة من يتجرأ على تبديد ثروة البلاد خارجها بالتعويل على الواردات الأجنبية التي يجد في بلاده ما يقوم بحاجته منها، قد يكون ما يجده منها في بلاده اقل جودة، أولا يفي بمرامه من كل وجه، فهل يجوز أن يحمله ذلك على الانصراف عنه محولا جزءا من ثروة الأمة إلى ثروة أمة أخرى، في وقت هي أحوج ما تكون إلى المعونة والمساعدة، وهل يرضى لنفسه أن يكون فتقا في شرايينها ينزف منه مقدار من دمها هي أحوج ما تكون إليه في ضعفها وقلة حيويتها؟

يخيل إلى أن وطنيا لا يرضى لنفسه أن يكون سببا في هذا الشر المستطير لو وقف على جلية هذا الأمر وأدرك خطورته على أمته وعلى نفسه أيضا. فليحرص كل منا على القيام بواجبه من التعويل على مصنوعات بلاده وترويجها بكل ما أوتيه من قوة، لأننا لا نستطيع أن نحافظ على كيان بلادنا في معمعان هذه الأزمة العالمية الطاحنة إلا بهذه الوسيلة، وهي طوع أرادتنا، ومن مقدورنا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، والسلام.

الصناعة عنوان الحضارة

للدكتور عبد الرحمن شهبندر

للأمم (معامل) تصنع فيها المصنوعات المعنوية من شرائع وسياسات وأخلاق وعادات كما تصنع فيها المصنوعات المادية من أنسجة وأحذية وألبسة وآلات، ولا تقل هذه دلالة عن تلك على مبلغ أصحاب (المعامل) من الارتقاء العقلي، بل ربما كانت المصنوعات المادية أدق في التعبير عن ذهنية الأمم من المصنوعات المعنوية لأنها محسوسة ملموسة تقبل الموازين، وأما تلك فهي أوضاع ومقاييسها معنوية مثلها.

ولكل عصر من العصور طابع خاص بالصناعة التي راجت فيهو فعصر الفروسية مثلا_وهو من أقرب العصور التي عرفناها امتاز بصنع اللجم والركب والسروج كما امتاز بصنع المحركات للسيارات والطيارات وآلات الزراعة، وقد أحب الفرسان الخيل والعدو على ظهورها وعقدوا بناصيتها الخير فتفننوا في الأدوات التي تلازم ركوبها وأما نحن فقد فتنا بالسرعة واستخراج أعظم محصول بأقل مجهود فبرعنا في عمل (الموتورات). نحن في الشرق من أسبق الأمم إلى عمل المصنوعات بالمعنيين المتقدمين، لكننا تراجعنا فيهما كليهما، فحلقات الدروس وما يجري فيها من بحث عن موضوعات عقيمة سخيفة بالية وهي لا تقاس بما كان عليه السلف في العصر العربي الذهبي، تدل على هذا التراجع كما تدل عليه المصنوعات الهزيلة الخالية من المتانة والذوق والمعروضة في الأسواق والحوانيت. وزيارة واحدة لمكتبة من المكاتب الكبرى فى دمشق أو بغداد أو القاهرة وتقليب صفحات من بضعة كتب من الكتب المصفوفة على رفوفها هي مثل زيارة لمتحف من متاحفها وإلقاء نظرة على ما يعرض فيه من النفائس فيها المقنع الكافي على صحة ما قلنا.

وقد دخلنا الآن في دور النهضة ويلوح لي إننا سبقنا إلى مباشرة المصنوعات المعنوية ولكننا من حسن الحظ أخذنا أخيراً في مباشرة المصنوعات المادية أيضا كما تشهد المعامل والمصانع الحديثة المنصوبة في هذا القطر السعيد وما جاوره من الأقطار العربية الشقيقة. ولا اعرف حافزا دفع الأمم الأخذ بالصنائع مثل الحرب العامة. فقد كان من نتائج الحصار الذي عانته الشعوب في غضونها وانقطاع أسباب المواصلات بينها أن التجأ بعضها إلى مصنوعات تكاد تكون من عمل القرون الخالية، ولا أزال أذكر كيف أن انقطاع الثقاب والنفط (الكاز) عن سورية مثلا في سني الحرب العالمية عاد بالاهلين إلى استعمال القداحة وسراج زيت الزيتون، وكان هذا الحافز أشد ظهورا في الحاجات والأدوات يتوقف عليها تسيير دفة القتال كما هو ظاهر من إخفاق روسيا العزلاء في هجومها المتكرر على ألمانيا والنمسا وتركيا وخروجها من الحرب أخيرا على تلك الحالة المزرية منكسة الأعلام. لا جرم أن الأمم التي شعرت يومئذ بنقص مصنوعاتها وتعلقها على غيرها من الأمم وارتباطها بها اقتنعت بعد هذه الدروس الخطرة المملؤة بالكوارث أن لابد لها من الاستقلال الصناعي وهو لا يقل شأنا عن الاستقلال السياسي، بل لا يتم هذا بالمعنى الصحيح من غير ان يتحقق ذاك. لان الأمة التي تنتظر غيرها أن يعمل لها البنادق والمدافع للدفاع عن حوزتها هي أمة غير مستقلة في أهم شؤونها. وزاد الشعور بهذه الحاجة تلك الوطنية الاقتصادية الحديثة التي تحاول أن تصدر كل شيء وألا تستورد شيئا، وما هذه الحواجز الجمركية القائمة بين الشعوب إلا عنوان هذه الوطنية الصارمة، ويكون جزاء الأمة المتساهلة في هذا الباب إغراق أسواقها بمصنوعات غيرها واختناقها بمصنوعاتها، وعرفت إنكلترا من بين سائر الأمم بالميل في تجارتها إلى (الباب المفتوح) ولكن حوادث الزمن أرغمتها على إغلاقه كما علمت غيرها أن تكون متشددة، وما لم يقم التفاهم مقام التنازع، وهذا مستبعد في الأحوال الحاضرة، فان هذه الحواجز ستشتد وتقوى. إن نهضة مصر الصناعية هي مثل النهضة الصناعية في الأقطار العربية الشقيقة تدل على تغير جوهري في الذهنية العامة وشعور بالحاجة إلى الاستقلال والاعتماد على النفس، وهذا هو ركن عظيم من أركان الانقلاب السياسي المنشود، لان الحاجة تفتق الذهن وهي أم الاختراع.