مجلة الرسالة/العدد 57/أعيان القرن الرابع عشر

مجلة الرسالة/العدد 57/أعيان القرن الرابع عشر

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1934


11 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

الشيخ علي الليثي

سيد الندماء

ولد سنة 1236، كما تحققه من بعض أفراد أسرته، كان في ابتداء أمره مقيما بمسجد الأمام الليث، وكان ينزل إلى الأزهر لطلب العلم، ويعود للمبيت هناك، وكان كريما على فقره. ثم ورد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصدا الحج، فاتصل به، وأخذ عنه الطريق وحج معه، ولما عاد إلى مصر لم يفارقه. بل سافر معه إلى جغبوب، وأقام هناك مدة لم يفتأ فيها يطلب العلم ويستفيد. ثم فارقه وعاد لمصر، واتصل بأم عباس باشا الوالي فجعلته شيخا على مجلس دلائل الخيرات عندها. ثم اتصل أيضاً بالأمير احمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا الكبير. فاعتقد فيه، واطلعه على خزانة كتب عنده، فاطلع على ما فيها واستفاد منها. وبسبب سفره إلى جهة المغرب اتهموه بمعرفة الزايرجة والاوفاق، فلما تولى سعيد باشا على مصر، أمر ضابط مصر عبده باشا بجمع من يأكلون أموال الناس بالباطل بهذه الخزعبلات، ونفيهم إلى السودان، فسيق المترجم معهم لما علق به من هذه التهمة، فبقى في السودان إلى أن عفى عنه وعاد لمصر.

ولما تولى إسماعيل باشا على مصر، تلالا نجم المترجم، وبدا سعده، فاتصل به، وقربه هو والشيخ عليا أبا النصر، وجعلهما نديمين له كنديمي جذيمة، وصار لا يصبر عنهما في مجالس انسه، فكانا إذا حضرا تلك المجالس أزاحًا الكلفة وتبسطا معه في القول والتندير، فكانت لهما في ذلك من النوادر ما يملأ الأسفار. وقد بلغ من شغفه بهما ان خصص لهما قاعة بديوانه يجلسان بها كأنهما من المستخدمين فيه. وحدث مرة أن أمر بكتابة ألواح على باب كل قاعة في الديوان، ليعرف من بها، كقلم التشريفات، وقلم التحريرات ونحوها، وسألهما العالم عم يكتبه على قاعتهما، فقال المترجم اكتب عليها: إنما نطعمكم لوجه الله. وبسبب تقرب المترجم من الخديوي قصده الناس في الشفاعات عند الكبراء، ونفع الله به خلقا كثيرا، جزاه الله عز مسعاه خير جزاء.

ثم لما عزل الخديو، وتولى ولده محمد توفيق باشا، شغف أيضاً بالمترجم واحله محله من القبول. حتى كانت الفتنة العرابية وسفر الخديوي إلى الإسكندرية، فانضم المترجم إلى العرابيين اضطرارا أو اختيارا، فلما عاد بعد الفتنة لم يؤاخذه، وصفح عنه، وقابله المترجم بقصيدة مطلعها.

كل حالٍ لضده يتحوّل ... فالزم الصبر إذ عليه المعوّل

تبرأ فيها من الفتنة، وأبان عذره في الانضمام إلى العرابيين، فإنه كان إذا سافر إليه كل أسبوعين، ركب من هنا سفينة بحلوان، فانه كان إذا سافر إليه كل أسبوعين، ركب من هنا سفينة بخارية وذهب بها إلى ضيعة المترجم التي بشرق اطفيح، فيقيم عنده يوما ويتغدى فيها، وهو شيء لا يفعله مع غيره. ولهذا السبب اعتنى المترجم بتلك الضيعة، فغرس فيها البساتين والكروم، وبنى قصرا صغيرا لنزول الخديو، وحرمه وحاشيته، ولم يزل هذا شأنه معه حتى مات الخديوي، فلم يكن له حظ مع ولده عباس باشا، كما كان مع أبيه وجده، فجعل أكثر إقامته بتلك الضيعة، يشتغل باستغلالها ومطالعة كتبه، فإذا حضر لمصر نزل بداره التي بجهة باب اللوق، فيقيم بها أياما. ثم يعود، ولم يزل كذلك حتى اعتلت صحته وطال مرضه اشهرا، حتى توفاه الله إلى رحمته في يوم السبت 10 شعبان سنة 1313 عن سن عالية، وقد شبع من الأيام وشبعت منه، ونال من العز والجاه إلى مماته ما لم ينله غيره.

وكان رحمه اله أية في حسن المجالسة، محببا إلى القلوب، أديبا شاعرا، حاضر الجواب، فكه الحديث، إذا عرفه إنسان تعلق به، وكره مفارقته، مع انه كان دميم الصورة، اطلس، ليس في وجهه إلا شارب خفيف، وشعرات على ذقنه. ولما حضر لمصر السلطان برغش ملك زنجبار، فلازمه مدة مقامه بالقاهرة، واعجب السلطان به إعجابا شديدا. ثم لما عاد لبلاده. صار يتعهده بالرسائل والهدايا من العنبر ونحوه كل سنة، فيهدي هو بها أخصاءه وأصحابه وكذلك ما كان ينتج ببساتينه من غرائب الفاكهة، وأصناف الأعناب النادرة، كان موقوفا جميعه على الهدايا لا يبيع منه شيئاً. واقتنى خزانة كتب نفسية اجتمعت لها بالإهداء والشراء، والاستنساخ وغالي فيها، وبذل الأثمان العالية، فجلبت له من الأفاق وعرفه نجار الكتب والوراقون فحصوه بكل نفيس منها. ثم لما مات اقتسمها ورثته، وبقيت إلى الآن محبوسة تحت أيديهم لا ينتفع بها.

وكان أدباء مصر وفضلاؤها يقصدونه في تلك الضيعة، فينزلهم على الرحب والسعة، ويقيمون عنده الأيام والأشهر، وهو مقبل عليهم بكرم خلقه ولطائفه، ومحاضراته المستحسنة، وقد يقيم الإنسان عنده شهرا أو أكثر، وهو يؤنسه كل يوم بحديث جديد لا يعيده. وبالجملة فقل أن يوجد مثله، أو يجتمع لإنسان ما اجتمع له، مع الورع والتقوى خصوصا في أواخر أيامه رحمه الله رحمة واسعة